من مكتبه بقصر الحكومة بالقصبة اختار مهدي جمعة رئيس الحكومة المستقيل أن يخص «دار الصباح» نهاية الأسبوع المنقضي بآخر حديث صحفي.. حديث تزامن مع استطلاعات الرأي التي بوبته أفضل المراتب في نسب رضاء التونسيين عن أدائه، لكنه ورغم نشرات البارومتر السياسي ورغم طلبات رسمية دعته إلى مواصلة المشوار فانه كان مصرا على مغادرة السلطة بل مبتهجا لذلك..فأين ستكون وجهته وكيف يقيّم مسيرته وهل وفّق فيها..وماذا عن الأحداث التي أثرت فيه خلالها؟ أسئلة عدة حملناه له بعضها خيّر التحفظ حولها وبعضها الآخر قبل الإجابة عنها .. * تغادرون اليوم رئاسة الحكومة بعد سنة من إدارة شأن البلاد، فكيف وجدتم الوضع اقتصاديا واجتماعيا وماليا، وكيف ستتركونه اليوم سيما وان هناك حديثا حول تراجع نسبة النمو؟ - لقد سعينا منذ تكليفنا إلى القيام بتدقيق شامل حول الوضعية الاقتصادية للبلاد وعرضناه على الأحزاب والمجتمع المدني كما عرضنا جانبا منه للعموم من خلال الصحافة، وقد تعلقت أكثر الإخلالات بالتوازنات الكبرى وبالمالية العمومية إذ سيطر التعويض على حيز كبير من الميزانية وأثقل كاهل الدولة وكذلك الشأن بالنسبة لكتلة الأجور. *وكيف وجدتم الوضع الاقتصادي آنذاك؟ - في الوقت الذي كانت فيه قيمة مداخيل الدولة في حدود 20 مليار دينار كانت المصاريف تناهز ال 30 مليار دينار وهو ما كان يمثل اختلالا كبيرا مما جعل العجز يرتفع عند تسلمنا المهام إلى حدود 6.8 بالمائة وحسب التدقيق الذي قمنا به فانه لو بقي الحال على ما هو عليه لبلغ آخر سنة 2014 حدود9.2 بالمائة ولكن أكملنا السنة الماضية 2014 ب4.6 بالمائة وهذا أهم شيء.. وكنا أعلنا ان أولوياتنا تتمثل في تعديل تلك الإخلالات ولا يمكن التطلع للاستثمار والى تلبية طلبات الشعب التونسي لو بقينا عند ذلك المستوى من الاختلال وهذا من بديهيات الاقتصاد.. عمليا فانّ هذا الجهد لا يشعر به المواطن في حياته اليومية ولكن له تأثير كبير في المستقبل ونحن أحسسنا بالنتائج.. وقد بدأنا في القيام بإصلاحات تتعلق بالقطاع البنكي والجباية ومنظومة الدعم والتعويض.. وقد تقلصت في هذا الإطار ميزانية التعويض كثيرا دون المس من مستوى عيش الطبقات الضعيفة والمتوسطة. *وماذا عن النتائج؟ - الإصلاحات لا تأتي أكلها في وقت ضيق فمثلا الإصلاح الجبائي ينطلق في 2015 ويكون نسق تطبيقه تصاعديا في ما بعد، حيث أننا لم نرفّع نسبة الضرائب ولكن حاولنا أن يؤدي كل مواطن واجبه، أما في ميدان التهريب وباعتباره آفة تنخر الاقتصاد هناك تدرج ولا يمكن أن نتدارك وضعية سنوات في وقت قصير.. أضف إلى ذلك أنّ المشاكل كانت كثيرة ومتشعبة وحددنا أولويات.. علما أنه وإن كانت مهمتنا تنتهي خلال سنة فان برنامج عملنا الذي وضعناه سيكون على امتداد سنوات. * وكم يتطلّب ذلك من سنة؟ - الإصلاحات الاقتصادية وإعادة الانتعاش تتطلب 3 سنوات على الأقل. * وماذا يتطلب الأمر؟ -لا انتعاشة للاقتصاد بقرار وإنما يتطلب الأمر استثمارا وتهيئة المناخ.. وهذه الفترة الانتقالية لا تترك مجالا للمستثمرين للاستثمار ونجاحنا في الانتخابات ومرورنا من الانتقالي إلى المستقر سيهيئ الأرضية للاستثمار بهدف مزيد نمو الاقتصاد.. كما أننا بدون هذه الأرضية لا يمكننا النجاح. *وما الحل؟ - رسالتي للجميع مفادها يجب توفّر هدوء سياسي واجتماعي لتوفير أرضية توفّر الاستثمار لنمو الاقتصاد. *وماذا فعلت حكومتكم؟ - قمنا بمجهود وصارحنا الجميع وأنجزنا حوارا اقتصاديا ولم نترك الأمور تتأزم وتقييم المؤسسات المالية العمومية كان إيجابيا وتونس انتخبت من قبل مجلة «الايكونوميست» بلد السنة وهذا بفضل المجهودات التي قمنا بها واعتقادي أنه يجب أن يتواصل المجهود على امتداد سنتين أو ثلاث. * وفيما يهم الحكومة القادمة، كيف ترون نجاحها ؟ - المرحلة القادمة لن تكون فيها حكومة تحمل عصا سحرية لقلب الأمور وإنما تتطلب مجهودا متواصلا لسنتين أو ثلاث مرفقا باستقرار سياسي واجتماعي.. لعودة الأمور لنصابها. *بماذا ستنصح رئيس الحكومة القادمة؟ - ليس لي نصائح.. وإنما أطلعته على الوضع وهو صاحب القرار وقدمت له مقترحات في مختلف المجالات، أهمها يخص المجال الاقتصادي إذ يجب مواصلة الإصلاحات في ما يتعلق بالجباية والقطاع البنكي وصندوق التعويض ومسألة المعرّف الوحيد الذي يتطلب بعض الأشهر للتوجه بعد ذلك نحو الدعم المباشر بنسق أكبر للطبقات المستحقة .. كذلك مواصلة إصلاح القانون الإداري لتسهيل الإجراءات عبر الربط المعلوماتي لربح الوقت وتقليص تكاليف الإنتاج، إضافة إلى البحث عن حلول لمشاكل الصناديق الاجتماعية وكذلك تحسين مردودية الإدارة في تنفيذ المشاريع الاستثمارية العمومية إذ لاحظنا تعقيدات إدارية بيروقراطية تتعلق بتنفيذ المشاريع الاستثمارية. * وما هو أسرع ملف يجب أن ينكب عليه الحبيب الصيد؟ بالنسبة للملف الأمني فقد سجلنا فيه تقدما ويجب أن يكون فيه تواصل .. والحمد الله تجاوزنا عديد المطبّات وعادت الثقة في المؤسسة الأمنية كذلك.. كما سعينا لهيكلة المنظومة الأمنية وبعثنا القطب الأمني ونتمنى أن يتواصل عملنا مع حكومة الصيد. كما وضعنا 10 مشاريع لتحديث المؤسسة الأمنية تتعلق بتحيين المعلومات وبتحديث التجهيزات وهذا من تقدير الحكومة لتواصل فيها، كذلك يجب النظر في المجال الاقتصادي والاجتماعي والدبلوماسي ولكن تبقى الأولوية للاقتصاد خاصة.. وتجدر الإشارة إلى أنني لم أسمع انتقادات للإدارة تتهمها بتأثيرها على الانتخابات وهو ما يؤكد نجاح الإدارة التونسية .. *من المؤكد أنكم مررتم بعدة لحظات حرجة.. فمن وقف إلى جانبكم؟ - فريقي الحكومي عاش ظروفا صعبة ومن عوامل الثبات أنّه كان متماسكا، وصادف أن شعرت في بعض الأحيان أني بمفردي ولكن الحمد لله لم اشعر والفريق ولو لمرة بخيبة أمل وكنت واثقا بأننا سنتمم المرحلة الانتقالية نهاية السنة. *وهل كانت الأطراف السياسية تتصل بك لدعمك ولو بكلمة طيبة ؟ - لم نخلق بعد هذا التقليد.. نحن اليوم متوجهون نحو مزيد من النضج لأن المناخ السياسي بصدد التشكل. *وهل وقفت إلى جانبكم مؤسستا المجلس التأسيسي ورئاسة الجمهورية؟ - في ما يتعلق بمؤسسة رئاسة الجمهورية فأنا أتحفظ، أما في علاقتنا مع المجلس الوطني التأسيسي فهناك قوانين تعطلت وكنا نحبّذ لو صادقوا عليها.. والتأسيسي كمؤسسة لم تكن قائمة الذات في الأشهر الأخيرة ولا اخفي عليكم انه منذ الصيف خشيت ان لا تجرى الانتخابات بعد أن غابت المؤسسات الدستورية ولكن كان عليّ إنجاحها مهما كان الأمر. *وماذا عن قضية الإسرائيليين الذين دخلوا تونس على متن إحدى البواخر السياحية؟ - لقد كانت قضية مفتعلة فلم يحدث أي أمر جديد.. ونحن كتونسيين لدينا حسّ بالقضية الفلسطينية.. وهذا النقاش أضاع علينا الوقت. *ماذا أحسستم يوم مساءلتكم؟ - قلت إن تلك المحنة كان يجب أن أتجاوزها. *ألم تغضب؟ -أهم شيء كان وحدة الفريق.. كان هناك التزام بأن نخرج معا وكان هناك التزام بيننا يتمثل في كون كل من تولى مهمة كان أمامه أن يتحمل الأزمات ومن دخل لم يكن له خيار الخروج إلا بعد إتمام المهمة وتقييمها.. وهذا كان واضحا.. وقد بقينا متماسكين رغم تعرضنا لمصاعب .. وكنت أفكر كيف سنخرج دون المس من الحكومة أو خلق صراع مع التأسيسي. *وماذا عن علاقتكم بمؤسسة الرئاسة؟ - حاولنا أن يكون تعاملنا إيجابيا معها وبطبيعة الحال حدثت مواقف عند أحداث الشعانبي... كان كلما وقع إشكال نتعامل معه على أساس صلاحيات ليس تلك المتوارثة ولكن بحسب ما ذكر في النص وتقع أحيانا خلافات في القراءة وكنا دوما متمسكين وثابتين بأن نعود لما ورد في النص.. وهنا وقعت بعض الخلافات. *واتهمتم بمحاولة انقلاب أي بالخيانة العظمى؟ - الإجابة عن هذا السؤال يحول دونها واجب التحفظ. * اليوم انتهى التحفظ؟ - نحن حاولنا رغم الاختلاف في الرأي فضّه في إطار العقلانية. * العقلانية انك طلبت إحالتك على المحكمة العسكرية؟ - لا أجيب. اليوم ينقصنا في تقاليدنا انه عند الاختلاف يجب العودة للنصوص. * لكن هذه حقيقة يجب أن يعرفها الشعب؟ -هذا ان كان أمر يتعلق بي ولكن له علاقات بمؤسسات أخرى وواجب التحفظ من قواعد إرساء تعامل طيب بين المؤسسات. *لو تكررت الفرصة ويدعوك الظرف الخاص للبلاد لتكون رئيس حكومة والمنصف المرزوقي رئيس جمهورية هل تلبّون النداء؟ -أعود مع أي شخص وليس لي إشكال شخصي مع المرزوقي وأنا أغادر اليوم والحمد الله دون مشاكل.. وأكنّ له كلّ الاحترام.. وقد تحملت مسؤوليتي في إطار واقع معين.. وسأتعامل مع كل رئيس يختاره الشعب فهذا خيار الشعب. *يعني هذا ان هناك إمكانية لتعيد التجربة؟ -عودتي لرئاسة الحكومة أمر غير وارد اليوم. ولو احتاجتك البلاد ؟ البلاد في حاجة لكافة أبنائها.. اليوم لي أولويات وأنا لديّ عائلة وهذه مسؤولية كبيرة وقد تحملت مسؤولية وطنية وأديت واجبي الوطني وان شاء الله أؤدي اليوم واجبي كربّ عائلة. *وفي المستقبل ؟ - لكل مقام مقال. *عندما تغادر القصبة هل تقول وداعا او الى اللقاء؟ - وداعا.. وان شاء الله تكون حكومة مستقرة وبالتوفيق للحكومة الجديدة والاستقرار من أهم عوامل النجاح. * السياسة تستهويك؟ - نعم فأنا عشت في بيئة مسيسة.. والسياسة هي تحليل وفهم واستراتيجيا وأهداف تريد الوصول إليها أما سياسة التحزب لا تستهويني ولن تستهويني. *لا ترى نفسك اليوم تؤسس حزبا؟ -لا. *هل ترى أنك يمكن أن تترشح للرئاسة ؟ - في اللحظة هذه لا أرى ذلك.. في هذه اللحظة أفكر في تسليم السلطة في أحسن الظروف على أن أهتم بأبنائي وعائلتي.. وفي أي موقع سأخدم مصلحة البلاد. *البعض قال إن مهدي جمعة أكثر في الفترة الأخيرة من سفراته، فلو أوضحتم الأمر؟ - هناك مراحل والتزامات مع الدول والمنظمات فملتقى «دافوس» هذا مكان يلتقي فيه أكبر أصحاب القرار في العالم والسنة الماضية لم نشارك فيه وكان من المهم المشاركة.. والدعوة تلقيتها شخصيا كمهدي جمعة وكرئيس حكومة وقلت لهم ان تم تنصيب رئيس حكومة جديد فسأسلمه الدعوة وتحدثت مع رئيس الجمهورية في المسألة واسترخصته وحضرت كممثل لتونس.وبالنسبة لرحلتي لنيويورك فان البنك الدولي صرف أول مرة قرضا لحكومة ستغادر، حيث قالوا لوزير المالية انتم التونسيين تفاجئوننا كل مرة. *أين وجهتكم القادمة؟ - لي لقاءات على مستوى شخصي ولي استدعاءات من جامعة كولمبيا واكسفورد لإلقاء محاضرات.. وبالنسبة لمستقبلي لم أرغب في الحديث عن ذلك إلى حين انتهاء مهمتي حتى لا يتم انتقادي. *هل يمكن أن نرى جمعة يعمل تحت إمرة آخرين، كمسؤول؟ - أنا أديت واجبي وسأنهي هذه الصفحة واختصاصي في تسيير المؤسسات والعلاقات الخارجية. *هل تقبل العمل تحت إمرة رئيس في عملك القادم ؟ - لم لا.. أنا أقبل العمل حتى كمهندس. *هل نراكم في مجال الاستشارة؟ - كل شيء مطروح.. سأنهي الصفحة وبعد ذلك سأفتح صفحة جديدة دون الدخول في تناقض..عند الانتهاء من المهمة سأعود للعمل فما يزال باكرا التقاعد. *ستبقى في تونس أو تغادر؟ - سأغادر *هل ستكون الوجهة باريس؟ - الأكثر باريس ولكن مازلت لم أقرر بعد. أجرى الحوار: حافظ الغريبي وسلمى بوراوي