ابتداء من مفارقة اليوم، وعلى امتداد المفارقات الست القادمة، وتحت هذا العنوان الكبير: "في متطلبات بناء تونسالجديدة"، سأقدم جملة من الرؤى التي يتراءى لي أنها يمكن أن تسهم في بناء تونس التي قامت "ثورة الياسمين" من أجل أن تقوم. ولأنني أؤمن بأن الثقافة هي قاطرة الحضارات الإنسانية، فإنني سأبدأ بالدعوة إلى تحويل وزارة الثقافة من وزارة هامشية إلى وزارة مركزية، بل إلى وزارة من وزارات السيادة... ومثلما يعلم الجميع، فإن علماء السياسة اعتادوا تصنيف الوزارات، حسب نوع الأعباء الملقاة على عاتقها، إلى ثلاثة أصناف كبرى هي وزارات السيادة التي تندرج تحت لوائها وزارة الدفاع، ووزارة الشؤون الخارجية، ووزارة الداخلية، ووزارة العدل... والوزارات ذات الطابع الاقتصادي التي تندرج تحت لوائها مثلا وزارة الاقتصاد، ووزارة التجارة، ووزارة الزراعة ووزارة الصناعة... والوزارات ذات الطابع الاجتماعي والثقافي التي تندرج تحت لوائها مثلا وزارة الصحة، ووزارة التربية، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الثقافة... وانطلاقا من أن وزارات السيادة سمّيت بهذا الاسم لأنها مكلفة بالحفاظ على كيان الوطن... فإنني أرى أن وزارة الثقافة يفترض بل ينبغي أن تدخل في هذا الصنف من الوزارات، بل أن تكون في طليعتها لأنها هي القوامة على هوية الوطن الحضارية، وعلى مقومات الشخصية الوطنية... ولا يذهبنّ الظن بأحد إلى أن هذه المسألة مسألة شكليّة... وإنما هي، على العكس من ذلك تماما، مسألة جوهرية تستتبع الأخذ بجملة من المفاهيم المغايرة التي ينبغي لوزارة الثقافة أن تؤسس عليها عملها المستقبلي، واستحداث جملة من الآليات البديلة التي ينبغي أن تسخّرها في الاضطلاع بمهمتها. وفي رأيي الشخصي، فإنها تستتبع أول ما تستتبع رسم معالم سياسة ثقافية قادرة على إحلال رجال الثقافة والفكر والأدب المكانة التي تليق بهم، والتي تجعلهم قادرين على الدفاع عن قيم البلاد ومقوماتها... ولا يمكن لرجال الثقافة والفكر والأدب أن يكونوا كذلك إذا ظلت يدهم هي السفلى مثلما كان الشأن في ظل النظام المتهافت السابق الذي شكلت سياسة الدعم الثقافي، أحد أسوإ اختراعاته، لأن هذه السياسة لم تكن تهدف إلى تحرير طاقاتهم الإبداعية، بقدرما كانت تهدف إلى تقييدها، وإلى جعلهم يلهثون، طوال الوقت، وراء الدعم، بدل اللهاث وراء ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ولا يذهب جفاء كما يذهب الزبد... لقد كانت تلك السياسة، في الواقع، نوعا من الإرتشاء المقنّع الذي خرّب ضمائرهم، وحولهم إلى ما يشبه العشبة الطفيلية التي تعتاش على "صدقات" يتبعها المن والأذى، وهو ما أفضى بهم، إلا من رحم ربك، إلى الاستقالة من وظائفهم الأصلية في الدفاع عن الحق ومقارعة الباطل وأخرجهم، من دائرة الفعل الثقافي الحقيقي الذي ينطلق من رؤية حصيفة واعية للراهن القائم، ويبشر برؤيا ريادية إلهامية تغييرية، لا يمكن لأي مجتمع يطمح الى التقدم أن يتقدم بدونها... أجل لقد أدت تلك السياسة الى انحسار دور رجال الثقافة والفكر والأدب، والى زرع بذور "الانتفاعية" في نفوسهم حتى باتوا لا يستطيعون الفكاك من أحد أمرين، إما اللوذ بالصمت على الأنساق الفكرية والسلوكية البائسة التي أفرزها النظام المتهافت السابق، وإما الانخراط في الترويج لها بدل مقاومتها، ولذلك فإنه من المتحتم، ونحن نقف على أعتاب مرحلة جديدة من تاريخ تونس أن يتم استئصال هذه السياسة من جذورها، والبحث عن بديل لها يشجع الفعل الثقافي ويذكر الفاعلين الثقافيين التونسيين بأن للوطن الحبيب هوية وقيما ومقومات وانتماءات جغرافية وتاريخية وحضارية ينبغي العمل على ترسيخها، والوقوف في وجه محاولات تفريغها وتغريبها وتمييعها...