من تامفاهيم التي احتلت وقعا مركزيا في أدبيات النظام المتداعي السابق مفهوم « الوسطية » ولأننا، أصلا، نؤمن بأن الله عز وجل جعلنا « أمة وسطا » فقد كنا أميل إلى حسبان أنه كان، قولا وفعلا، يعتنق هذا المفهوم... غير أن واقع ممارساته كان يؤشر إلى أنه كان يعتنقه اعتناقا انتقائيا، فيزرعه في حقول الدين والفكر والسياسة، أما في حقل الاقتصاد فقد كان يزرع التطرف في أشنع مظاهره وأبشعها، وقد جاءت الوقائع لتثبت ذلك، إذ ليست « مغارة بن علي » التي تغار منها « مغارة علي بابا » الأسطورية إلا أبلغ برهان على ذلك التناقض... ولقد كنا، منذ سنين، نستشعر خطورة هذا التناقض، ونشعر بالخوف من « الشرخ الاقتصادي » الذي بدأ يحدثه بين أبناء تونس التي اختارت، يوم استقلت، أن تتقاسم مواردها بمقدار معقول من التوازن حتى لا ينشطر مجتمعها إلى قلة ترتفع إلى ما فوق الثريا، وغالبية تنحدر إلى ما تحت الثرى... ولعل هذا الشرخ يتجلى بشكل صارخ في الفوارق الشاسعة التي نشأت وترعرعت خلال السنوات الأخيرة بين المرتبات الدنيا والمرتبات العليا التي باتت الدولة وبعض مؤسساتها تصرفها لأعوانها، ففي حين كان الفارق بين أدنى المرتبات وبين أعلاها لا يتجاوز، في مرحلة أولى، العشرين ضعفا على الأقصى، أصبح اليوم يصل إلى المائة ضعف وقد يتجاوزها... وربما برر البعض هذا « المنزع » بتداعيات العولمة وتبعات الخوصصة، والانخراط في دورة الاقتصاد العالمي، ونحن لا ننكر أن لهذه العوامل تأثيراتها، غير أننا نعتقد أن دور الدولة هو حماية المجتمع من هذه التأثيرات، أو على الأقل الحد من مفاعيلها، فلا يوجد، مثلا، شيء يفرض عليها مساواة مرتب مسؤول تونسي في إحدى مؤسساتها بمرتب مسؤول أجنبي جاء للعمل في المؤسسة لأن بلاده شريكة في رأسمالها، وإلا فإن المنطق يفترض أن تساوي بين مرتبات جميع الأعوان بمرتبات نظرائهم الأجانب... وبقطع النظر عن ذلك، فإنني أرى أن الفارق « الجنوني » بين المرتبات بات يشكّل سببا من أسباب إصابة المجتمع بأدواء ينبغي التعجيل بعلاجها حتى لا تفتك به، إذ ليس أخطر على المجتمعات من التحاسد بين أبنائها، ومن اتخاذ الفساد والإفساد سلما لترقّ هو، في الواقع، انحدار... ولقد قال أبو العلاء المعري قديما إن « غنى زيد لفقر عمرو... »، وما أحوجنا إلى أن نتذكر هذه الحقيقة، في هذه المرحلة التي نريد فيها بناء تونسالجديدة على أسس سليمة قويمة... ومن هذا المنطلق، فإنني أدعو خبراء الاقتصاد الوطني إلى التفكير في طريقة مثلى يمكن بها إعادة الأمور إلى توازنها المعهود والمنشود، من خلال إرساء نظام تأجيري يضع في حسابه واقع البلاد، ويحتسب الأجور وفقا لمتطلبات عيش سكانها « الدائمين »، لا متطلبات أجانب « عابرين » سيغادرونها مهما طالت إقامتهم فيها... أما الهدف منه فينبغي أن يكون العودة الى « الوسطية الاقتصادية » التي تعني فيما تعني تحقيق حد أدنى من التوازن في تحديد رواتب جميع موظفي الدولة حيثما كانوا، وإلغاء المرتبات « الفلكية » التي بات البعض في بعض المواقع يحصل عليها دون مبرر، كما تعني الحد من الامتيازات التي باتت توزع على البعض دون وجه حق أو استحقاق، ومنع مراكمة المهام وبالتالي مراكمة التعويضات في أيدي بعض الأفراد المحظوظين وكأن البلاد التي ثار خريجو جامعاتها لأنها لم تستطع تشغيلهم، تنقصها الكفاءات... وانني لعلى يقين من أن مثل هذا النظام التاجيري، إن قيّض له أن يرى النور، سيساعد على تقريب الشقة بين أبناء تونس، وسيسهم في إعادة إعادة التوازن والاتزان إلى المجتمع التونسي، وما أحوجه إليهما.