الولايات المتحدة الجديدة لم تَعُد مُستعدّة لتمويلِ الحلف الأطلسي الذي لا يخوضُ حُروبَ مصالحها أوّلاً وأخيراً ، خاصّة وأنّ فرنسا الجديدة تدعو إلى حلف عسكريّ يُدافع عن مصالح الاتحاد الأوربي ويخوض عند الحاجة حروبَ المصالح الأوربيّة فقط. وواشنطن لم تَعُدْ مُستعدّة لتجريد جيوشها خارج أراضيها لممارسة دَور الشرطيّ عبر العالم فَتتكبّد الخسائر المالية والبشرية والأخلاقية كما حصَلَ في الفيتنام والعراق ، وفَوق \لك يحصد غيرُها معها أو أكثر منها غنائم تلك الحروب. لكنّها ستدير حُروبَ مصالحها عن بُعْد بأموال وجنود جيوشِ أنظمةٍ وحكوماتٍ عميلة مُقابل قواعد أمريكية عسكرية في دول تلكَ الأنظمة وَ الحكومات العميلة المحميّة مِن تلك القواعد العسكريّة الأمريكية. مِن هذا المُنطَلَقِ نشأت فكرةُ إقامَةِ "حلف الناتو العربي". نُذَكِّرُ بأنَّ مِصْرَ بقيادةِ الرئيس "حسني مبارك"اقْتَرَحَتْ مَشروعاً سنة 1998لإقامة حلْفٍ عسكريٍّ عربيّ ، خارجَ اتفاقيّة الدفاع العربي المُشْتَرَك، وفي سنة 2015أعادَتْ القاهرة ولكن بقيادَةِ الرئيس "عبد الفتاح السيسي" طَرْحَ مشروع مماثل قَوامه 40ألف مقاتل وَدعا" السيسي" العاهلَ الأردني "عبد الله الثاني" إلى الانضمامِ إليه .وذلك قبل أربعة أشهر تقريباً مِن إقدام الجنرال "مايك فلين" عقب إقالته من منصب رئيس وكالة الاستخبارات الدفاعيّة ، في جلسة استماعٍ مع أعضاء الكونغرس ، على حَثِّ الحكومة الأمريكيّة لأجل "العمَل على إنشاء وَدَعْم إطار هيكَلي عَربي شبيه بحلف الناتو... لِمُواجَهَةِ إيران".هُنا نُذَكِّرُ بأنَّ مصطلَحَ "الهلال الشيعي" المزعومأوحت به الدوائرُ الاستخباراتيّة الأمريكيّة إلىالملك الأردني عبد الله الثاني خلال زيارة أدى فرائضها إلى الولايات المتّحدة أواخر سنة 2004 فاستخدَمَ هذا المصطَلَح لأوّلِ مَرّةفي لقاء له مع صحيفة "الواشنطن بوست" أثناء الزيارةِ ذاتها. كَصَدى لهذا المُصطَلَح أعادَ الرئيس "دونالد ترامب" طَرْحَ المَشروع في زيارته مع ابنته إلى الرياضبالصيغة التالية التي يبدو وضوحُها فَجّاً وَصفيقاً : " بِناء تحالُف عسكري لِدُوَلٍ عربيّةٍ مِنَ المَذْهَبِ السنّي على غرار الحلْفِ الأطلسي" – والأخير ليس سنيّاً ولا مسيحيّاً لكنّه يخدم المصالح الأمريكيّةَ والصهيونيّة في العالَم في مُواجَهَةِ الخَطَر السوفياتي السابق المَزعوم ، لكنّ "حلف الناتو العربي " سيخدم المصالحَ الأمريكيّة والصهيونيّة في العالمِ أيضاً ولكن هذه المَرّة بِزَعْمِ وُجود "خَطَر تَمَدُّدٍ إيرانيّ يَستَخدِمُ عَصَبيّات الولاء للمذهب الشيعي". وعلاقة الكيان الصهيوني بهذا الحلف "العربي" ستكون وثيقةً تماماً كما كانت وثيقةً بالعصابات الإرهابيّة المسلّحة التي كانت تعتدي على الدولة الوطنيّة السوريّة ، والولاياتالمتحدة الأمريكيّة "سَتُقَدِّمُ ما يلزَمُ لحلف "الناتوالعربي" مِن " الدّعمِ والتنسيقِ الاستخباراتي واللوجستي والسياسي " تماما كما كانت تقوم المخابراتُ الأمريكيّة بِدَعْمِ "تنظيم القاعدة" خاصّةً عندما كانَ تكفيريّوه الإرهابيون "مُقاتلينَ مِن أجْل الحريّة" (حسب التوصيف الأمريكيّ آنذاك) ضدَّ نظام كابول "الكافر" والحليف للاتحاد السوفياتي. وكانَ النظامُ السعودي يدعَمُ أولئكَ "المُقاتِلينَ مِن أجلِ الحريّة" بالمال والسلاح والمتطوّعين الجدد مِن خلال "أسامة بن لادن" ، تماماً كما سيفعل النظام السعودي الحالي الذي أوكِلَتْ إليه قيادة "حلف الناتو العربي" الجديد ، وبِصفقات الأسلحة التي تعاقدَتْ عليها الرياضُ مع واشنطن (تصل في مجملِها إلى 350مليار دولار على مَدى عشر سنوات) ستُبنى بِها القوَّة الضاربة للحلف العتيد!. وربّما لهذا الهدَف قد تُنَفَّذُ "برامج تصنيع أسلحة" على الأراضي السعوديّة وبتمويلٍ سعوديّ طَبعاً ، ضمن ما يُسَمّى "رُؤية 2030" لتشكِّلَ "منظومة تسليح عملاقة تتكامَلُ مع صفقات السلاح الأمريكي المُستَورَد". لاشكّ أنَّ واشنطن فاتحَت حكوماتٍ عربيّةً مُباشَرَةً أو كَجسِّ نَبْض وَلقيتْ مُوافَقَةً مبدئيّةً مِن مُعْظَم هذه الحكومات في المَشرقِ والمَغربِ " العربيّين " . ولكنّ فكرةَ المشروع لقيَتْ رَفضاً قاطِعاً مِن إيران كأنْ يَصفَ ، مَثَلاً، وزيرُ دفاعها العميد حسين دهقان ذلك المشروع ب"مؤامرة الناتو العربي للتحشيدِ العسكري ضدَّ إيران وَحُلَفائها" ، كما رَفَضَتْهُ روسيا مِن خلال وزير خارجيّتها سيرغي لافروف الذي قال عن ذات المشروع بلغته الدبلوماسيّة الرصينة إنه" لا يُساعد في حلِّ المشاكل" ، لكنّ التعبير عن التطيُّر الروسي مِن هذا المشروع الأمريكي كان واضِحاً أكثَر على لسان "فيرونيكا كاشنينيكوفا" أستاذة العلوم السياسيّة الروسية التي حذّرَتْ مِن أن "المشروعَ سيرفعُ دَرَجَةَ التّوَتُّر في المنطقةِ وسيُفضي إلى الحرب". الحربُ لم تتوقَّفْ بَعْدُ في المنطقة ، مِن اليَمَن إلى سوريا إلى ليبيا وَتَتَرَبَّص بالجزائر. ولايزال للإرهاب التكفيري خلاياه النشيطة في العراق والأردن وَمِصر وتونس والصومال والمغرب ، ولا يزال إرهاب الدولة الإسرائيلي يُدَمِّر ويسفك الدمالزكيَّ على امتداد الأرض العربية الفلسطينية والسوريّة التي يحتلّها ، ويستبيح "السيادة" اللبنانيّة والسيادةَ السوريّةَ أنّى وكيفما يشاء. إذا نظرنا إلى مشروعِ "حلْفِ الناتو العربي" على خلفيّةِ مهرجان حكومات الكيانات الخليجيّة التطبيعيّ مع الكيان الصهيوني ، فإنَّ مِن مهمّاتِ هذا المشروع فَرْض "صفقة القرن" بالقُوَّة على حساب حقوق الشعب الفلسطيني المَشروعة، ولكن إذا تَمَعَّنا في زيارةِ "بنيامين نتنياهو" إلى سلطان عُمان فإنَّنا نرى لهذا المشروع مهمّةً لا تقلّ خطورةً في شمال أفريقيا ، لن تكونَ مفرداتُها هذه المرّة "عَرب سنّة" و"إيرانيين شيعة" بل ربّما ستكون هنا "عَرَب سنّة" وَ"إمازيغيينإباضيين" . دائماً استخدام الأديان ومذاهبها وإثارة الشوفينيّة العرْقيّة (فكيف إذا تضافر العرْقُ والدّينُ أو المَذْهَب مُجتَمِعينَ ضدّ عرق ودين أو مذهب مُجتَمِعين أيضاً؟) لتنفيذ سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ " الاستعماريّة القديمة؟. وتدميرُ الجيش الجزائري لا يزالُ هَدَفاً استراتيجيّاً إسرائيليّاً بِقَدْرِ ما هُوَ نَهْبُ ثرواتِ الجزائر وتدمير اقتصادها ودولتها الوطنيّة لايزال هَدَفاً أمريكيّاً. في هذا السِّياقِ تَدْفَعُ واشنطنَ وتل أبيب العواصِمَ الخليجيّةَ إلى "تطبيع " علاقاتها الدبلوماسيّة مع دمشق تحت شِعار إعادَتِها إلى "البيت العربي" أو "الجامعة العربيّة" أي إلى خَيْمَةِ البَداوَةِ العربيّة مُتَّكئينَ إلى عرْفهِم البدويّ الذي يُصَوِّرُ لَهم أنّ دمشقَ سترضى باستِعدادهِم لِدَفْعِ المال "ديّةً" مُقابِلَ الدم السوريّ الذي سفكوه (لقد دَفَعوا حتى سنة 2015 فقط مائة وسبعة مليار دولار لأجْلِ سَفْكِ دَمِنا) . الغاية الأمريكيّة – الإسرائيليّة مِن ذلك ليس فقط إحراج دمشق إزاء حليفتها التاريخيّة طهران بل وإبعاد قوّاتها عن الأراضي السوريّة ، وتالياً نَسْف العلاقة بين سورية وحليفها الآخَر في الحرب على الإرهاب "حزب الله" بغية الاستفراد به في سيناريو قيْد التنفيذ مُعَدّ في لبنان لهذا الهَدَف. مِن جِهتِها تُشَجِّعُ موسكو حليفَتها دمشق على قُبُولِ فَتْحِ السفارات الخليجية وغير الخليجيّة المُغْلَقَة في العاصمة السوريّة ، ليس "طمعاً" بأموال خليجيّةلإعادَةِ إعمار سوريّة فقط (على مبدأ شَعرَة مِن ظهْر الخنزير مَكْسَب) ، بل وأساساً لِعَودَة سوريّة إلى المُسَمّاة "جامعة الدُّوَل العربيّة" ، فَرُبّما تنجح الدبلوماسيّة السوريّة ليس في إحياء "مُعاهَدَة الدفاع العربي المشترك" التي وُلِدَت مَيْتَةً أصْلاً، بل ربّما في إجهاض مشروع "حلف الناتو العربي" سيّئ السّمعة. وفي هذا الخِضَمّ المُتَلاطِم هل ستُراهِنُ إيران (لتفنيد الصبغة الشيعيّة لتحالفاتها في المنطقة)على مُحاولتها إعادَة تسويق قَطَر وتركيا وحركتي حماس "الفلسطينيّة" و"النهضة" التونسيّة وكذلك حركة "النهضة" الجزائريّة ، على الرغم مِن أدوارهم الإجرامِيّة ضدّ حليفها السوري؟. أم ستجدهم حين تبدأ الحرب عليها يأكلون غلى مائدة معاوية ويضربونها بسيفه؟. أحدُسُ أنَّ خيبةَ إيران من الذين ذكرتُهُم آنفاً ستكون كبيرة ومريرة. إذا نَجَحَتْ الولاياتُ المتّحدة في إقامةِ "حلف الناتو العربي" وقامَ بالمهام المُنْتَظَرَة منه ، وَتَخَلَّصَتْ مِن العقَبَةِ الإيرانية ، بَعْدَ أن اقتَنَعَتْ ،مُؤقّتاً، بأنّ سوريا بالنسبة إليها "رمالٌ وَمَوت" على حدّ تعبير "ترامب" ، فإنَّ مهاما أخرى سَتوكَل إلى "حلف الناتو العربي" خارج المنطقة، ربّما ضدّ روسيا والصين وغيرهما وإلا كيف نفهم دَعوَةَ الرئيس الصينيّ "شي جين بينغ" كبار القادة العسكريين في بلاده يوم 30/12/2018إلى "الاستِعداد للمعارك ، وتعزيز القوات المسلّحة الصينيّة لمُواجَهة الطوارئ" بَعْدَ تأكيده على أنّ مِن حَقِّ بلادِهِ "تحقيق الوحدة مع تايوان بالقوّة" ومَنْع استِقلالها ، ردّاً على توقيع "ترامب" قانوناً يؤكّد "التزام واشنطن بتايوان"؟ . فمَن يجزِم إذَن، بأنّه ليس ثمّة مشاريع أمريكية – صهيونيّة أنْشِئتْ أو بصدد الإنشاء في شرق آسيا وجنوب القارة الأمريكية وفي أفريقيا ، وربما لاحقا في أوربا، على غرار "حلف الناتو العربي" قد تموّلها الكيانات الخليجية أيضاً لِخوضِ حروبٍ لأجْلِ تَوَسيع أسواق مصانع الأسلحة الأمريكيّة خاصّةً.