تحيلنا ثورات الحرية والكرامة والعدالة، المضطرمة في المنطقة العربية على التاريخ الطويل لهذه الأمة المجيدة، وما يختزله من مآثر إنسانية وحضارية هائلة. وتذكرنا بمواقف بطولية عديدة احتضنتها الذاكرة، ثم رمت بها في زوايا ودهاليز النسيان، ولفتها بأردية الاهمال. لم تكن تلك المدن الملتهبة ثورة هذه الأيام تعني بالنسبة لي ولغيري أكثر من محطات جغرافية عابرة، ولكنها غدت صورة رائعة لأمة تستعيد أمجادها فهي مدن صامدة ترنو إلى الحرية والانعتاق وتطارد الظلم والاستبداد والتعسف فتعيد لكل عربي ومسلم ما ضاع وسلب من كرامته وشرفه وإنسانيته. كانت مكةوالمدينة وحضر موت ومأرب والاحساء والبصرة وكربلاء ودمشق وطرابلس والقاهرة وفاس وتلمسان وتونس وغيرها، منابع للثورات في تاريخ العرب، وقد استعادت اليوم، زخمها الثوري، لتتواصل ثورات الماضي مع مثيلاتها في الحاضر عبر جدلية المرجعيات والمبررات، فنتذكر ثورة أهل الحرة في المدينةالمنورة ضد الحكم الأموي، وثورة عبد الرحمان بن الأشعث، ضد الحجاج بن يوسف، وثورة يزيد بن المهلب ضد يزيد الثاني، وثورة الحارث بن سريح، والثورة العباسية التي أطاحت بالدولة الأموية سنة 132 هجري وثورة المبرقع اليماني في فلسطين سنة 226 ه وثورة العيارين والشطار وثورة الاحساء في البحرين وثورات كسيلة والكاهنة وميسرة السقاء وأبي يزيد مخلد الخارجي (صاحب الحمار) وعلي بن غذاهم والجبالية. كانت الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هي المطالب الأزلية لهذه الثورات التي غيرت في أغلب الأحيان مجرى التاريخ وهي الوقود الذي يضرم نيرانها التي كلما خمدت إلا وعادت بأكثر قوة. يقول المؤرخ الدكتور، راضي دغفوس: «ما من شك في أن الحركات الاجتماعية ورغم مسمياتها المختلفة (تمرد، عصيان، فتنة، ثورة) تمثل أحد المعطيات الحاضرة في كامل التاريخ العربي الإسلامي». (ملتقى الحركات الاجتماعية في العالم العربي الاسلامي تونس 2011). ومن هذا المنظور فإن الثورات المندلعة الآن في المنطقة تستند الى مرجعية تاريخية متينة وثرية وتلتقي في دائرة مطلبية مشتركة، ترتبط أساسا، بقيم الحرية والعدالة حتى وإن اختلفت أهدافها بين الديني والسياسي والاجتماعي. إن التأكيد على هذه المرجعية التاريخية هام جدا، لأن العديد من الباحثين داخل الوطن العربي وخارجه، يحاولون عن قصد أو بدونه، شد «ربيع الثورة العربية» الى مرجعيات حديثة لا علاقة بها كالثورات الفرنسية والبولشيفية والأوروبية الشرقية، والأمريكية اللاتينية، في حين أن الموروث الثوري العربي الاسلامي مازال شاهدا على حيوية هذه الأمة، حتى وإن طال ركودها وامتد زمن سباتها. فثورات اليوم هي امتداد لثورات الأمس، ومع كل ثورة تينع أغصان الحرية وتمتد فروعها فتنهض الأمة لإطلاق مسيرة جديدة حبلى بالآمال والطموحات.