رفض الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أخيرا، الاذن بنشر صور أسامة بن لادن مقتولا، ليؤجج الاشاعات التي انطلقت منذ لحظة إعلان اغتياله (انظر مقالنا يوم أمس). وللولايات المتحدةالامريكية حكايات طويلة ومثيرة مع صور القتل والتعذيب! فعندما أعطى دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، الاذن بنشر صور تعذيب الجنود الامريكيين للمعتقلين في سجنيْ «أبوغريب» و«غوانتانامو»، كان قد تدارس المسألة جيّدا مع أجهزة المخابرات وفرق الدعاية والمستشارين الاعلاميين وكبار الاستراتيجيين المختصين في الأمن القومي، لتأمين نجاح العملية الدعائية على جبهتين اثنتين الأولى ابراز قدرة الآلة العسكرية الامريكية على استعمال كل ما تراه مناسبا وضروريا للوصول الى أهدافها، واستعراض قوّة الردع التي تمتلكها، وبالتالي ترهيب اعدائها، وتأكيد استعادتها لمناعتها وصلابتها وبطشها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والثانية الايهام بأن ما حدث ليس اختيارا اساسيا، وإنما هو ممارسات محدودة مكانيا وزمانيا، حتى لا نقول معزولة، وفي هذا الايهام محاولة للحفاظ على الهيبة الاخلاقية لأمريكا، لكن أكبر صفعة تلقّاها الامريكيون كانت يوم استعمل المحاربون في العراق وأفغانستان الاسلوب ذاته، فوظّفوا الصورة بجميع أشكالها لابراز قدرتهم على الردع، وبثّ الرعب في نفوس الاعداء من جهة، وذلك بنشرهم لصور القصاص المباشر من الجواسيس والعملاء، وللتأكيد على مرجعياتهم الاخلاقية من جهة أخرى، وذلك بإظهار حسن معاملتهم لبعض الرهائن! لقد كانت الصورة، في مثل هذه الحالات، اداة للتوظيف الدعائي في حلبة الصراع. أما في مسألة تراجع باراك أوباما عن نشر صور اغتيال أسامة بن لادن، فالامر لا يخلو من حسابات وتقديرات تتعلق، اساسا، بالاستراتيجيات الدعائية في مثل هذه الظروف الدقيقة والحساسة. فالولاياتالمتحدة تحرص على الابقاء على وهج الانبهار بمقتل عدوّها اللدود أسامة بن لادن، في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية، بالداخل والخارج، واستغلالها في اجندات انتخابية ومزايدات سياسية، لأن نشر صور صادمة لزعيم تنظيم القاعدة مقتولا ومشوّها، في هذا الظرف بالذات، من شأنه أن يحوّل الانظار عن القيمة العسكرية والسياسية للحدث الاساسي (عملية الاغتيال) ليركّزها على معطى غير أخلاقي (الجثّة المشوّهة). لكن من جانب آخر فإن عدم نشر الصور يثير، أيضا، مشكلة إعلامية ودعائية كبيرة، اذ يؤجج، كما ذكرنا آنفا، الاشاعات، فيتسرّب الشك الى الناس، ويذهبون في التأويل مذاهب شتّى، وقد تصاب مصداقية الادارة الامريكية في الصميم، ويتقلّص الدعم الشعبي الذي كسبته عند الاعلان عن اغتيال زعيم تنظيم القاعدة. فالصورة، جزء هام من المنظومة الاعلامية المتطوّرة، وهي من هذا المنظور، سلاح ذو حدّين، بقدر ما تستفيد منه، فإنك معرّض لمخاطره. وإن كان الأمريكيون، قد أثبتوا دوما، تفوّقهم العسكري في كل الحروب التي شنّوها، فإنهم لم يكسبوا جميع معارك الصورة التي أضرموها، بل تؤكد الوقائع أنهم انهزموا في العديد منها. واليوم، يجد باراك أوباما وأعضاء إدارته أنفسهم في مأزق حقيقي، فبعد أن أعلنوا عن استعدادهم لنشر صور مقتل أسامة بن لادن، تراجعوا فجأة. وفي هذا التردد الدليل القاطع على تواصل معاناة الولاياتالمتحدة مع معارك الصورة!!