بلغ عدد الأحزاب المرخص لها من قِبل وزارة الداخلية، إلى حد الآن، واحدا وثمانين حزبا، وهو عدد مرشح للإرتفاع مع اقتراب موعد الانتخابات. وقد يكون هذا التناسل السريع والمكثف للأحزاب والحركات والمنظمات مؤشرا صحيا من شأنه أن يبعث روحا من التنافس في ساحتنا بعد خمس وخمسين سنة من هيمنة الحزب الواحد والفكر النمطي الأحادي، وما أنجر عنها من كبت وضغط ومنع ومصادرة وتعقب ومطاردة. فالمسألة، من هذا المنظور طبيعية، ولا تدعو إلى التعجب أو الخوف والانزعاج، كما يعتقد البعض من الذين فاجأهم هذا المد المتدفق من الأحزاب وهالهم أمر انتشارها بسرعة. فتكوين الأحزاب والمنظمات حق مقدس في كل الديمقراطيات، طبقا لمتطلبات القوانين ذات الصلة، ولا أحد باستطاعته تحديد عددها ومنع تناميها، فالانتخابات من جهة والزمن من جهة أخرى كفيلان بهذه المهمة. لكن الوضعية تطرح العديد من الأسئلة الهامة: من سيمول هذا الكم الهائل من الأحزاب؟ كيف ستتجنب التداخل في برامج بعضها البعض؟ ما هي قدراتها على استقطاب الناس؟ وهل باستطاعة وسائل الاعلام مواكبة أنشطتها بمكيال عادل؟ إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة أمر على غاية من العُسر، زد على ذلك ان الناس يجهلون، في غالبيتهم، اسماء هذه الأحزاب وقياداتها وتوجهاتها، فلو قمنا باستفتاء في هذا المجال، لاكتشفنا ان المستجوبين لا يستطيعون سرد أسماء أكثر من أربعة أحزاب على أقصى تقدير، أما عن ايديولوجياتها فحدث ولا حرج، إذ باستثناء حركة النهضة ذات المرجعية الدينية الواضحة فإن البقية تتراوح في المخيال الشعبي على إيقاعات متشابهة، خاصة وان أغلب الأحزاب تدعي «الوسطية» بكل ما فيها من ضبابية وتموجات مفتوحة على جميع التأويلات الممكنة. ومن المفارقات التي تنفرد بها ساحتنا السياسية الراهنة ان بعض الوجوه أكثر شهرة وحضورا إعلاميا من أحزابها، لأنها ببساطة، تركز على ذواتها أكثر من تعريفها بتوجهات وبرامج الأحزاب التي تقودها أو تنتمي إليها، ف:«الشخصنة» مازالت للأسف الشديد، متجذرة في تقاليدنا السياسية، وفي الفكر العربي الإسلامي بصفة عامة. لا شك ان أغلب هذه المظاهر هي الإرهاصات الأولى للديمقراطيات الناشئة، ويجب التعامل معها بصبر وجلد ودقة، فمثل هذه المسارات التحررية تتطلب الكثير من الجهد ومداومة البذل حتى تكتمل وتصبح من التقاليد الأساسية في حياة المجتمع. نحن الآن في بداية المسيرة، وهي طويلة وشاقة، ومحفوفة بالكثير من الصعوبات. فكل الديمقراطيات في العالم، وخاصة منها، تلك التي جاءت بها الثورات، عرفت ولادة عسيرة، وتدرجا صعبا، لكن الإرادة الشعبية التي تفجر الثورة تقدر على بناء أعتى الديمقراطيات.