خرج الاسبان، منذ أسابيع، الى الشوارع، «مدجّجين» بشعارات الغضب، وواصل اليونانيون احتجاجاتهم، وانتفض الاسرائيليون، وهاج الانڤليز وماجوا، ولاشك أن عدوى هذا المدّ «الثوري» ستصل الى فرنسا وايطاليا وبلدان اوروبية أخرى في الايام القليلة القادمة. إن هذه الحركات الاحتجاجية التي بدأت تغزو القارة العجوز بعد أن اضطرمت في بلاد العرب انطلاقا من تونس، تؤكد بوضوح تام أن العالم يعيش، منذ سنوات، فوق براكين نائمة من الغضب لأسباب عديدة متراكمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكيل ملامح العالم الجديد. كان سقوط الاتحاد السفياتي وانهيار المنظومة الشيوعية المنعرج الأول في التداعي الذي شهده العالم، ثم جاءت الازمة الاقتصادية العالمية لتكشف عن هشاشة النظام الرأسمالي. لقد انتهى عصر الايديولوجيات والنماذج الاقتصادية المعلّبة، فتعددت الحروب، وتكاثرت بؤر الفتن، واتسعت الهوة بين الشمال والجنوب. كان كل شيء يدل على انخرام المنظومة العالمية على جميع المستويات، فما ان تجاوز الاقتصاد العالمي مخاطر الازمة التي ألمّت به في السنوات الاخيرة حتى طوّقته أزمة اخرى أشد ضراوة، عصفت بأكبر دولة في العالم وجرفت معها بقية البلدان التي تدور في فلكها. من هذا المنظور فإن الثورات المضطرمة في العالم العربي وتلك التي اجتاحت أوروبا تتنزّل في عمق الوضع الاقتصادي العالمي المتردّي، ولا يمكن شدّها الى مبررات اخرى، حتى وإن حاول البعض، لأسباب ايديولوجية لفّها بأردية اخرى. قد تكون الثورات العربية قد انفجرت بسبب «تفاعل كيميائي» بين الاجتياح المادي والحرمان من الحرية والديمقراطية، ولكنها في أوروبا ذات صبغة اقتصادية خالصة، ففي اليونان اندلعت الاحتجاجات بسبب الخطة التقشفية الصارمة، كذلك الشأن في اسبانيا، أما في انڤلترا فقد طغى المعطى الاجتماعي واتساع الفوارق بين الاغنياء والفقراء وهو السبب ذاته الذي فجّر غضب الاسرائيليين المشدودين الى الغرب شدّا متينا، فمسألة الحريات والديمقراطية في هذه البلدان ليست مطروحة اطلاقا، ولم يطالب المحتجون باسقاط الانظمة التي انتخبوها، بل عبّروا عن غضبهم من السياسات الاجتماعية والاقتصادية المتبعة، والتي أثقلت كاهل الطبقة الكادحة. إن كل الثورات المضطرمة الآن والتي من المنتظر أن تضطرم في المستقبل القريب في مناطق عديدة من العالم هي نتيجة حتمية للأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، التي أكدت افلاس السياسات المتبعة في الدول الرأسمالية والهياكل المصرفية الدولية، وهو ما من شأنه أن يطرح سؤالا حائرا حول مستقبل الثورات العربية في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم في العالم فهل ستبقى ثورات «حرية وكرامة» أم ستتحوّل الى انتفاضات اجتماعية ذات مرجعية مطلبية، فتسقط الحرية أمام ضرورة الحاجة؟ لاشك أن المتمعّن النزيه في خصوصيات الثورات العربية الراهنة يلاحظ يسر مدى طغيان الطابع الاجتماعي على مضامينها بالرغم من شعارات الحرية والديمقراطية التي رفعتها، ومن الوارد جدّا أن يلتف هذا الطابع بالكامل عليها في ظل الانهيار الاقتصادي العالمي، لتلتقي جميع الثورات المضطرمة في الشمال والجنوب حول مطلب مشترك هو تلبية الحاجات الاجتماعية والاقتصادية.