بلغ الحوار الوطني فصله الأخير الذي لا فصل بعده وهذا يعني لجماعة الحوار الاتجاه نحو إحدى الفرضيات الثلاث التالية: 1 الإعلان الرسمي عن فشل الحوار الوطني وسحب الرباعي الراعي للحوار لمبادرته كاملة. 2 الإعلان عن اسم الشخصية المكلفة برئاسة الحكومة القادمة على قاعدة الحدّ الأدنى من توافق الثلاثي الفاعل والمؤثر، حركة «النهضة» و«الاتحاد من أجل تونس» و«الجبهة الشعبية». 3 إدخال تعديلات طارئة وجوهرية على مضمون المبادرة الرباعية. أولا في فرضية الإعلان عن فشل الحوار الوطني: بصرف النظر عن مختلف المواقف المبدئية من الحوار الوطني سواء المؤيدة له أو المعترضة عليه أو المتحفّظة عليه، فإن فشل الحوار الوطني لا يعني بالضرورة فشلا للرباعي الراعي له بل فشلا للطبقة السياسية في الوصول بالمبادرة الرباعية إلى برّ الأمان، وفي هذه الحالة يجد السيد حسين العباسي نفسه أمام حتميّة كشف حقائقه الأربع أمام الرأي العام فيشير بالاصبع مباشرة إلى الأطراف التي أفشلت الحوار وهو ما كان يسعى دوما إلى تجنّبه وهذا ما لا تخشاه المعارضة عموما و«الجبهة الشعبية» تحديدا التي لا ترى نفسها معنية بتلميحات السيد حسين العباسي. فالإعلان المحتمل عن فشل الحوار الوطني يعني بالضرورة وضع المعارضة في وضع أقوى مما هي عليه الآن على الأقل نظريّا، فهذا الوضع الجديد سينقلها من واجهة الصراع السياسي الذي استأثر بكامل جهدها وقدراتها وطاقاتها خلال الأشهر الخمسة الأخيرة إلى مكانها الطبيعي في واجهة النضال الاجتماعي وهو كذلك الوضع الطبيعي لاتحاد الشغل ولاتحاد الصناعة والتجارة وهو أكثر ما تخشاه حكومة «الترويكا» في الظرف الراهن. لقد وضعت حكومة «الترويكا» بنفسها من العصيّ في عجلة سياساتها التنموية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ما يجعلها غير قادرة على ما بنته بيديها من أوضاع متفجّرة على جميع المستويات تضاف إليها المخاطر التي يحملها مشروع ميزانية الدولة لسنة 2014 وعدم تجاوب مؤسسات النقد الدولي بالشكل المطلوب مع الحاجات العاجلة للحكومة من السيولة المالية، فضلا عن تداعيات إعلان الحكومة عن إحداث كليات طب وطب أسنان ونفض الغبار عن مشروع ميناء المياه العميقة بالنفيضة المعروف بمشروع الدكتور حامد القروي، وهي تداعيات كانت على درجة عالية من الحدة ومن السرعة فاجأت حكومة «الترويكا» وفاجأت حاتى قيادات حركة «النهضة» بعد ردود الفعل غير المتوقعة لإطاراتها ولقواعدها في العديد من الجهات، ذلك أنّ المشاريع المعلن عنها أيقظت ما هو كامن في وجدان الشعب التونسي وأحيت ما فيه من حساسيات ونعرات جهوية موروثة تحمل من المخاطر أكثر ممّا تحمله الصراعات السياسية القائمة، هذا حتى قبل أن يتطرّق الأخصائيون إلى جدوى ونجاعة ومردودية هذه المشاريع، وعلى ضوء هذه المستجدات الثقيلة ليس في وسع مجلس شورى حركة «النهضة» المنعقد نهاية هذا الأسبوع سوى الدفع بقيادة الحركة إلى التمطيط مجدّدا في فعاليات وفي آجال الحوار الوطني إلى حين إعادة ترتيب البيت الداخلي للحركة في قادم الأيام وامتصاص الغضب المتنامي في أوساط كوادرها وقواعدها قبل غيرهم. ثانيا في فرضية الإعلان اليوم قبل الغد عن اسم الشخصية المكلفة برئاسة الحكومة القادمة على قاعدة الحدّ المطلوب من التوافق الوطني: تبدو هذه الفرضية مستبعدة اليوم الاثنين على الأقلّ، ولكنها واردة دون تأخير بعد يوم الاثنين، وفي هذه الحالة ستمرّ جماعة الحوار الوطني إلى الخطوة الثانية في المسار الحكومي والمتعلقة أساسا بحجم الحكومة وبتركيبتها وبصلاحياتها، وحتى هذه الخطوة فهي مرشحة لأن تطول أكثر ممّا هو متوقّع بحكم الحسابات والرهانات المحيطة بها، ولكن هذا يعني أن رئيس الحكومة المرشح مهما كان اسمه سيتلقف على الطائر وضعا ملغما على جميع المستويات قابلا للانفجار أكثر في أيّة لحظة مهما كان حجم الضمانات والتطمينات الداخلية والخارجية المقدمة له. ونفهم أنّ حكومة «الترويكا» مثلما تناور على البقاء فإنها تناور كذلك علي الانسحاب، فهي في ظلّ الهدية المسمومة التي ستقدمها للحكومة القادمة، في حاجة إلى ما يشبه استراحة المحارب فتتخلّى بهدوء عن إدارة الشأن العام لتعود بأكثر قوّة لاحقا على أنقاض فشل مؤكد لأية حكومة قادمة. ثالثا في فرضية تعديل جوهري في مضمون المبادرة الرباعية: قد تكون هذه الفرضية استنتاجا ممكنا للفرضيتين السابقتين إذ تقتضي إجمالا: مواصلة اعتماد الحوار الوطني كآلية تعامل بين الأطراف السياسية. إسقاط المسار الحكومي من جدول الأعمال والتخلّي عن فكرة حكومة كفاءات بديلة وتحميل الحكومة القائمة مسؤوليتها كاملة في إدارة الشأن العام إلى حين إجراء الانتخابات القادمة إلا إذا قدمت هذه الحكومة استقالتها عن طواعية وبإرادة منها. تركيز كلّ الجهد على مسارين، الأول سياسي من داخل الحوار الوطني من خلال استحثاث نسق وضع مشروع دستور خال من كل الشوائب التي علقت به وتركيز الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بما يسمح بتحديد موعد إجراء الانتخابات والتفكير جيّدا في وضع كل الشروط والآليات الكفيلة بتحييد الإدارة بالكامل حتى تدور هذه الانتخابات حرة ونزيهة وشفافة على الوجه الأفضل. أما المسار الثاني فهو من خارج الحوار الوطني من خلال تفعيل المنظمات المهنية والأحزاب السياسية لنسق نضالها الاجتماعي في مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة والملحّة.