ما فتئ رئيس الحكومة مهدي جمعة يذكر تصريحا أو تلميحا بأنه سيغادر قصر الحكومة بالقصبة فور انتخاب مجلس تشريعي وتشكيل حكومة جديدة تستند إلى الشرعية الشعبية، موقف كرره مهدي جمعة على أسماع جمع من الصحافيين إلتقاهم في بداية شهر أوت ، قال «جمعة» يومها إنه سيعود من حيث أتى وبأن دوره انتهى وبأنه بلا طموح سياسي مضيفا بأن «الخدمة العسكرية عام واحد أما أنا فقضيت سنتين كاملتين»، ملمحا إلى المدة التي قضاها وزيرا للصناعة في حكومة علي العريض وشهور رئاسته للحكومة التي تنتهي نهاية العام الجاري . وكنا كتبنا في «التونسية» عن هذا اللقاء الذي جمعنا وعدد من زملائنا برئيس الحكومة ووزراء الدفاع والعدل والداخلية وأشرنا إلى أن البعض يسأل عن الحكمة من «خسارة» رجل دولة بعد أن عرف كواليس القرار الوطني والإقليمي والدولي؟ وهل تربح تونس في المنظور القريب إن غادر جمعة المشهد السياسي برمته بعد أن تعرف عليه كبار زعماء العالم وربطته بهم صلات ثقة مكنت تونس من مساندة لا نظير لها في وضع إقليمي تسوده الفوضى؟ أحد المقربين من رئيس الحكومة كان حاضرا في لقاء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمهدي جمعة أخبرنا بأن ميركل سألت جمعة في نهاية المقابلة» السيد رئيس الحكومة ماذا ستفعل بعد الانتخابات؟» فأجاب جمعة» سأعود من حيث أتيت بعد أن أكون أتممت مهمتي»، كما أن تسريبات مؤكدة تكشف أن السلطات السعودية والإماراتية لم تتحمس بما فيه الكفاية لدعم تونس إقتصاديا بسبب خوف هذين البلدين من «هوية» الحكومة التي ستخلف مهدي جمعة، ومعلوم أن السعودية والإمارات لعبتا دورا محوريا في الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين في مصر وساندتا عبد الفتاح السيسي بشكل غير مسبوق لتجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مصر ، ولا شك أن استمرار جمعة في الحكم سيلقى الترحيب من محور السعودية –الإمارات المعادي لتيار الإسلام السياسي. أما الجزائر فاتخذت تكتيكا مغايرا إذ مدت يدها لحركة «النهضة» وخص زعيم الحركة باستقبال الرؤساء في آخر لقاء جمعه بالرئيس بوتفليقة ويرى مراقبون أن الجزائر تدرك أن حركة «النهضة» طرف رئيسي في حكم تونس على مدى السنوات القادمة ولذلك تخير أن تتعامل معها منذ الآن قبل أن يزيد عودها اشتدادا وتعود إلى كرسي السلطة، ولكن الجزائر ستكون أول المرحبين باستمرار جمعة في المشهد السياسي التونسي بعد الانتخابات القادمة بعد أن تعاملت معه ووثق فيه صناع القرار السياسي والعسكري في الجارة الكبرى. العقبة الرئيسية أمام مهدي جمعة هي التزامه الأخلاقي هو وعناصر حكومته بألاّ يترشحوا في الإنتخابات القادمة حتى لا يكونوا خصما وحكما في الوقت نفسه، ومن الواضح أن مهدي جمعة حريص على احترام ما إلتزم به عند تعيينه رئيسا للحكومة إذ أعاد تذكير وزرائه في مجلس الوزراء المنعقد يوم 27 أوت الجاري (أوّل أمس) بجملة من القواعد من أبرزها توفير الظروف الملائمة للانتخابات والبقاء على نفس المسافة من جميع الأحزاب مع الحياد التام، والنأي بالمؤسستين الأمنية والعسكرية عن كل التجاذبات السياسية. غير أن هذا الالتزام لم يمنع بعض الأطراف السياسية من اقتراح فكرة استمرار «جمعة» ولكن في موقع آخر، ولئن لم يبادر أي قيادي سياسي بإعلان المقترح بشكل صريح فإن ما تأكد أن المقترح هو أن يترشح مهدي جمعة لرئاسة الجمهورية ليكون الضامن لأي حكومة ستفرزها الانتخابات باعتبار شبكة العلاقات التي نجح الرجل في نسجها مع أهم الفاعلين في الساحة الدولية بإسهام لا يمكن تجاهله لوزير الخارجية الدكتور المنجي الحامدي ، فقد حظي مهدي جمعة بترحيب لافت من الرئيس الأمريكي باراك أوباما والإدارة الأمريكية عموما التي سرعت من أجال تسليم الأسلحة لتونس فضلا عن مضاعفة هباتها العسكرية دعما لها في حربها على الإرهاب ، كما أن المؤسسات المالية الدولية عبرت عن ارتياحها للتعامل مع مهدي جمعة باعتباره مخاطبا كفؤا يمكن الوثوق به. أما داخليا فقد خرج جمعة سريعا من عباءة السياسي الوافد من الخارج الذي «تربى في القطن» بأن كشر عن أنيابه في ملف الإرهاب ولم يتردد في غلق المساجد الفوضوية وإيقاف نشاط الجمعيات المشتبه في تواطئها مع الإرهاب... ويرى مراقبون أن جمعة نجح في استمالة التونسيين إليه بقدرته على الإنصات إلى شواغلهم وقد مثلت زياراته إلى معبر راس جدير ومينائي رادس وحلق الوادي رسالة بالغة التأثير في قطاع واسع من التونسيين. ومع ذلك يبقى من العسير على مهدي جمعة أن يخرج على التونسيين ليقول لهم لقد قررت أن أترشح للرئاسيات، ويظل السيناريو الأمثل أن تأتي الخطوة من طرف آخر يملك المصداقية والتأثير الشعبي. ولا يستبعد بعض المتابعين للشأن السياسي أن تصدر المبادرة عن الإتحاد العام التونسي للشغل الذي كان مهندس ارتقاء جمعة لرئاسة الحكومة. وفي تصريح لافت قال بلقاسم العياري الأمين العام المساعد للإتحاد العام التونسي للشغل على موجات راديو موزاييك»إن المرشح الذي يمكن للإتحاد أن يسانده هو كل من يتعامل بمسؤولية مع تونس ويحافظ على السيادة الوطنية والعلاقات الخارجية والبعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية كما يجب أن يكون رئيس تونس القادم مدافعا عن الحريات عموما وعن حرية الإعلام خصوصا»، وهو تصريح قابل للتأويل، فالمواصفات التي ذكرها العياري تتوفر في نظر الكثيرين في مهدي جمعة و لا شيء يمنع من ترشيحه من طرف الإتحاد العام التونسي للشغل . سيناريو آخر يظل ممكنا وهو أن تبادر بعض الأحزاب بترشيح رئيس الحكومة للرئاسيات خاصة أمام ما يتردد حول إمكانية انسحاب الباجي قائد السبسي من السباق الرئاسي وكثرة المترشحين التي ستتسبب في تشتت أصوات الناخبين خاصة مع ما يتردد من إمكانية خوض منذر الزنايدي لغمار الانتخابات الرئاسية وهو ترشح قد يعيد خلط أوراق اللعبة الانتخابية وخارطة التحالفات السياسية. وفي كل الأحوال فإن المتأكد اليوم أن مهدي جمعة لم يكشف كل أوراقه وربما قلب الطاولة على من حسبوا حساب الحقل ولم ينتبهوا إلى أن حصاد البيدر قد يكون مختلفا...