بقلم : الناصر السعيدي لأن هذه الحافلة تنطلق من محطة احدى الأحياء الشعبيّة للعاصمة ثم تمرّ في مسلكها بمحطّات أحياء أخرى تعاني من الحرمان والمعاناة... رجالها «خدّامة حزام»... ونسوتها عاملات بمصانع النسيج المنتشرة في ضواحي «منّوبة» و«قصر السعيد»...فإن جلّ ركابها من الجنس اللّطيف...ورغم أن التعب والشقاء اغتصب منهنّ النّظارة والوجه المشرق وكبّرهنّ قبل عمرهنّ باعتبار أنّ كبارنا يقولون دوما «الخير يطرّي...والهم يهّري»... فإنّهن يسبقن الحافلة منذ الصباح الباكر لتغصّ بهنّ كلّما قطعت أكثر ما يمكن من الطريق. وفي وسط الحافلة يولد مجتمع مصغّر... بنات منفردات هائمات بعيون شاردة تخترق زجاج النوافذ وكأنّها تقرأ في تمعّن لوحات الاشهار الثّابتة في صمت على واجهات الأكشاك والمقاهي والمغازات... حلقات من البنات يغازلن بعضهنّ هزلا ودردشة لعلّهن يعشن لحظات متعة قبل أزيز الآلات ووحشة سجن المصانع. يعطيها هاك الطفلة متاع البارح... باش تهْبل عليه وهو في عمر بوها. أوه...مالا...عندها حق...مدللّها ومفرهدها... الكرهبة والفيلا والشيخات...خير من طفل صغير منتّف. لا أخيّتي...عجوز كبّي...كيف الزّير المتكّي... لا يضحّك ولا يبكّي. وانطلقت بنتان تغنّيان وتصّفقان...«شايب لا لا ...يا آمّا... شايب لا لا...قدرة ومكاتيب اللّه يا آمّا»...فتتجاوب معها جلّ الرّاكبات بالزّغردة والضّحكات». اللطف يا ربّي... لا حشمة ولا جعرة. ريت ماهو...هذيكة عاملة روحها بطل وهي كمباصة كبيرة في المعمل متاعنا. ما غير ما تقلّي... ماهي القوّادة متاع الشّاف. اللّه يجيرنا...ربّي لا يعطينا ما يغلبنا. الحافلة تترنّح...تتهادى ثم تتوقف فجأة أمام الضّوء الأحمر خلف جحافل السيارات والشاحنات والحافلات والدراجات الناريّة...الجو يختنق داخل الحافلة...ضجر وقلقل وتوتّر...يتنهّدن...يتأفّفن. خبزة مرّة..ربّي يخفّف ها المكتوب. يا ربّي كان نخلطو موخّر إلاّ ما يتّنقب النهار. هدرة كبيرة...على زوز صوردي ناخذو فيهم... لا منحة إنتاج ولا كنام ولا تأمين ولا كونجي. عادة أخيتي قريت على روحك؟ اللّه غالب...ماهو كيف خطبني هاك المكبوب ولد خالتي...قلت نخدم باش نجهز روحي ونهز وذنين القفة مع والديّ. حقة آش عمل سي خطيبك في إيطاليا؟ هانو يستنّى في لوراق...قالوا كل واحد حرقْ باش يعطوه إقامة متاع ثلاثة شهور. ربّي معاه...أنا خويا ما عطاووه الإقامة إلاّ ما عرّس بعجوزة طليانيّة..راهي مصّتلو شبابو وصحْتو. ومن إحدى أركان الحافلة تكلّمت إحدا هنّ بصوت رخيم... معنى معنى تتدلّل : إيجى خالتي...أنت أكبر منّي... شد بقعتي ورْتاح قبل ما نوصلو للمعمل. نعم.. أكبر منّك...كبْ سعد العار...أنت ظفرتْ الشيّب وتقلّى خالتي. صمتت البنت وخيّم السّكون على الحافلة إلاّ من بعض الضحكات الخافتة وبعض الوشوشة والهمس والتوتويت. ما اقواها... ربّي يهدها... شافة بالتكمبيل والتّشحيت...محمرة ومدبّغة وهي في عمر ممّاتي. وفجأة عطست احداهما واضعة يدها على فمها. رحمك اللّه...يهدينا ويهديك اللّه. واللّه نخمّم نخدم اليوم ولاّ ناخذ كونجي. هو أنا عندي ثلاثة أيام ونخمّم في كونجي متاع جمعة كاملة... هانوا الطبّة يبيعو في الشهائد الطبية على خمسة دينارات. هاها ها...وكيف العادة تعمل فيها سفرة لتركيا. ما تشلقش عادة...مشية للجم وبعد تحويسة في «سوسة» بسوق ليبيا ودورة خفيفة في «مساكن» بسوق فرنسا. يامهفّة...وتجيب كالعادة شوية زرابي وماعون وماكياج وثريات وقيّد على تركيا. هاهاها...ويمشي الجافل ويجي الغافل. تقترب منهما احدى الصديقات وتربّت على كتف احداهما. اللطف عليك عزيزتي... هاك تعطس...ردّ بالك على روحك. اللّه غالب..من هاك الستيديو الي كارينو كلّو ندوة والدّوش زوز حيوط فرضاوي تحت الدروج. ماني نعرفها...الديار ولاّت عششْ عششْ باش يكروها للّيبيين...عائلات عائلات احتلّونا في الحومة. ما يغلبك كان إلي يقلّك متاعي...يكرو اللّيلة ب 60 دينار للّيبية ونحن نمشو نزمرو. تعرف إلى حيّنا شعبي والديار فيه نار ومسمار...كراء وإلاّ شريان...والحاكم يتفرّج. ولّينا كيف العصافر نسكنو في قفصّات. يا ناري عليك... قلّو الحاكم...اشكون حاسس بينا ولّى يفكر في مشكلة الديار؟ قلت الحق...يضربو في الملاين ويباتو في المشتل وأفريكا والحمامات ونحن ماكلتنا الميزيريا. مرّ الوقت سريعا تقطعه العاملات بأحلى النّكت والتّنبير والتعليق على برنامج ستار أكاديمي إلى أن ترنّحت الحافلة وتوقفت في محطتها النهائية وتنزل الرّاكبات بسرعة في بطحاء تتفرّع عنها مسالك ومسارب تؤذي إلى مركّبات صناعية ومعامل. امشي اخّيتي...اهبط...قبل ما يفوتنا الوقت ويطردنا عرفنا. لاه يطردنا..على كيفو...والنقابة آش تعمل؟ يا ناري عليك...قلّو نقابة...الراجل ملاّك وصاحب معامل وبنوك ما ينجّمُو حتى واحد...تي قالو حتى الحكومة كيف تحتاج تتسلّف من عندو. تفرغ الحافلة حمولتها من بنات مكابدات وستعود لهنّ حتما عند غروب الشمس لتحملهنّ بتعبهنّ وشقائهنّ الى الأحياء البعيدة...يقف السائق من كرسيه..يتكسّل...ويتثاءب ثم يلتفت زميله في ذيل الحافلة يستعد باش يعمل تعسيلة. يا واللّه...مخي راب ورأسي تكسّر..مالا جوجمة متاع كلام...يا لطيف. يا ولدي..كأنو واحد يخدم في حمّام نساء.