17 تشرشل وديغول أمام حقائق القوّة الأمريكية في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى... ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته... فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار.ورفض «روزفلت» كل طروحات «تشرشل» وفي تفكيره - كما يروي المؤرخ الكبير «آرثر شلزينغر» في كتابه الضخم عن « روزفلت» - أن الرئيس الذي قاد الولاياتالمتحدةالأمريكية حتى أبواب النصر كان رأيه: - أن الجنرال «ديغول» لا يمثل إلا نفسه، وأن أمريكا لن تعترف له بما هو أكثر من ذلك مهما كانت درجة اعتداده بدوره وادعائه بتمثيل فرسنا، كما أن الرئيس الأمريكي لا يرى فيه إلا محاولة كاريكاتورية للمزج بين شخصيات «جان دارك» و«نابليون» و«كليمنسو» ( زعيم فرسنا في الحرب العالمية الأولى)، وأنه - في هذا الموضوع - على خلاف لا يداريه مع بريطانيا، التي تريد أن تستعمل «ديغول» كحليف صغير في الحرب يسهل عليها انتزاع الإمبراطورية الفرنسية لصالحها، لأنها مازالت رغم ما أصابها - تطمع في تعويض خسائرها في الحرب بإرثها، وذلك ما فعلته في الشام (سنة 1941) حين دخلتها بقصد تحريرها من أصدقاء الألمان ( حكومة فيشي) ثم تركت فيها واحدا من جنرالاتها وهو « سبيرز»، وكلّفته بأن يهندس عملية «ربط» الشام ببريطانيا ونفوذها. - أن «روزفلت» لا يسطيع أن يتصور فرنسا بعد الحرب إلا دولة من الدول المحررة بجهود غيرها، وليس بجهودها الذاتية، وهذه الدول وضمنها فرنسا يجب أن تقبل الحياة منزوعة السلاح، حتى لا تعود أوروبا إلى سباق سلاح جديد يشعل نيران حرب عالمية ثالثة! ومن المفارقات - على الناحية الأخرى - أن «جان لاكوتور» مؤرخ حياة الجنرال «ديغول» يروي عن الزعيم الفرنسي قوله : «إنني أستطيع أن أفهم إنقلترا والصين وألمانيا ، لكني لا أستطيع أن أفهم أمريكا لأنه ليست لها في التاريخ مفاتيح تمكن من ذلك». وعندما ظهرت طلائع انتصار الحلفاء، وتقرر عقد مؤتمر « يالطا» (ميناء البحر الأسود الجميل) - فإن «روزفلت» رفض دعوة فرنسا للمشاركة فيه، قائلا:« إنه لا «ديغول» ولا غيره يمثل فرنسا»، ثم إن «فرنسا لن تكون طرفا في بحث أمور ما بعد الحرب، وإنها سوف تكون موضوعا من مواضيع ما بعد الحرب. فقد استسلمت ونحن حررناها، وكذلك يجب أن يكون». كانت الأمور واضحة من وجهات نظر مختلفة أمام «روزفلت» وأمام «تشرشل» أيضا: - بالنسبة لروزفلت كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية ترى أن الوقت قد حان حتى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية، لكي تؤول أملاك فرنسا إلى نفوذ أمريكا، وكذلك كان من شمال افريقيا إلى الشام ومن غرب آسيا جنوب شرق آسيا ( الهندالصينية الفرنسية وضمنها فيتنام). - وبالنسبة لتشرشل وقد كان يتابع ما يجري ويفهم مغزاه ، فإنه راح يقاوم ويصرّ - لكنه خسر المعركة ، وأصبح عليه أن يتراجع إلى خط دفاعه الثاني، وأن يستميت عليه، فقد خشي أن الدور في ابتلاع الإمبراطوريات واصل إلى بريطانيا، ولم يبق أمامه غير أن يقف في الخط - يعاند ويقاوم، فهو على حد قوله «لم يصبح رئيسا لوزراء ملك بريطانيا حتى يقوم علي تصفية إمبراطوريته!». وكان « تشرشل» في صميم قلبه يدرك أن هذه معركة لا تحتاج إلى عنف المواجهة، ولا يمكن حسمها بصراع مكشوف ، وإنما عليه أن يستدعي إليها كل خبرة وحكمة ودهاء إمبراطورية لم تكن تغرب عنها الشمس! ولم تجد خبرة وحكمة ودهاء الإمبراطورية البريطانية، لأن حقائق القوة هي الحكم الأول والأخير في بقاء الإمبراطوريات أو زوالها. وفي الحقيقة فإنّ «روزفلت» كان في عجلة من أمره، واعيا بأنه إذا كان عليه أن يجرد بريطانيا من ممتلكاتها، فإن عليه أن يفعل ذلك وقت الحرب وليس بعدها . وتروي الوثائق الأمريكية أن «روزفلت» كتب توجيها رئاسيا ( بتاريخ1943) موجها إلى «جيمس لانديس» ( مدير العمليات الاقتصادية في الشرق الأوسط)، يشير فيه إلى أهمية بترول الشرق الأوسط وخطورة الموقع الاستراتيجي للمنطقة قائلا: (وثيقة رقم 24/1541 - البيت الأبيض) 8 مارس 1944 « من الرئيس روزفلت إلى والتر جميس لانديس (مدير العمليات الاقتصادية في الشرق الأوسط) عزيزي «ولتر لانديس» إن الشرق الأوسط منطقة توجه للولايات المتحدة مصالح حيوية ، والحرص على هذه المنطقة وتجنيبها شرور قلاقل الماضي، هو أمر له أهمية متزايدة لها قيمة بالنسبة للعالم كله، وخاصة بالنسبة للتفاوت في استعمال المواد الاستراتيجية والاقتصادية للمنطقة. ومع أن الولاياتالمتحدة لا تنوي ولا ترغب في التدخل في الشؤون الداخلية لهذه المنطقة، فإن هذه الحكومة حريصة على أن ترى أن موقع وموارد هذه المنطقة في خدمة كل الأمم دون تمييز، وهدفنا على هذا الأساس أن تصان مصالح كل الأطراف وأن تتوقف الميزات التي يختص بها طرف على حساب بقية الأطراف. وكانت وراء العبارات معان وإشارات كفيلة بإثارة قلق رئيس الوزراء البريطاني، فقد أحس ( قبل أن تتاح له فرصة قراءة النصوص وهي سرية في ذلك الوقت) - أن الولاياتالمتحدة لا تبغي قسمة عادلة للموقع والموارد ، وإنما هي ماضية إلى هدفين متوازيين في الشرق الأوسط: أولهما : تواجد حاكم في المراكز المهمة استراتيجيا في المنطقة. ثانيهما: نصيب الأسد في ثرواتهما الهائلة نفطيا. وكان «تشرشل» يقاوم بكل جهده، واتجاه الريح ضده مهما حاول . وكان ضمن محاولات « تشرشل» أن يدعو إلى نوع من الوحدة في مجتمع الناطقين باللغة الانقليزية على جانب ، فيقوم اتحاد «أنغلو أمريكي» يرضي كل الفرقاء بتقاسم المصالح بينهم. ولم يكن «روزفلت» يمانع في أية دعوة للوحدة تستند على اللغة الانقليزية ، لأن اللغة في حد ذاتها خطاب، وما يعطي لأي خطاب قيمته هو المضمون - فإذا كان مضمون الأبجدية الإنقليزية هو حقيقة القوة الأمريكية - إذن فإن «تشرشل» يستطيع أن «يتخيل » ما يشاء كما يشاء! وكان ضمن محاولات « تشرشل» أيضا أن يلفت النظر إلى الخطر السوفياتي، وكان هو صاحب تعبير « الستار الحديدي» الذي يوصي بأن الشيوعية المتحصنة وراء الخط الفاصل بين شرق أوروبا وغربها - هي الخطر الداهم على الحضارة الإنسانية كلها. ولم يكن في أمريكا من يمانع في ذلك، لكن الفعل وليس القول هو صانع الحقائق ، وهكذا قامت الولاياتالمتحدة - معترفة بالخطر السوفياتي - بإنشاء سلسلة من الأحلاف العسكرية تطوق الاتحاد السوفياتي من كل اتجاه، وأولها حلف الاطلسي في أوروبا، وحلف جنوب شرق آسيا ( لمواجهة الصين حليف السوفيات وقتها) - ثم محاولة إنشاء حلف في الشرق الأوسط ، ( لكن خطى هذا الحلف الأخير تعثرت في حرب السويس سنة 1956). وبرغم أن بريطانيا ظلت حتى بعد حرب السويس تعاند فيما يتعلق بالشرق الأوسط لاعتقادها أنه بموقعه وثرواته - احتياطي أخير له، فإن هذا الاحتياطي جرى شراؤه منها في صفقة قيمتها أربعمائة مليون دولار كانت ضرورية لإنقاذها من أزمتها المالية الخانقة في أعقاب حرب السويس.