نعتقد أنّ «منبر الاستقلال» لمرجان ومورو وبلحاج علي قد يكون وُلِدَ ميّتا وتوقعاتنا تنحى نحو تواصل مبادرة السبسي، وقد يمضي (السبسي) رغم منبر مرجان إلى تأسيس حزبه الوسطي بما قد يعجّل بانضمام المستقلين والدساترة المترددين . وفي مرحلة ثانية الالتقاء بمساريْ الشابي وأحمد ابراهيم في جبهة وسطية واسعة. (التونسية بتاريخ 8 أفريل 2012). ب«نداء تونس» كما أطلق عليه محرروه من الشخصيات الوطنية كمرحلة ثانية لبيان السبسي الأول،تثبت الوقائع على الأرض تواصل هذا المسار ولو ببطء. وقد تطورت المبادرة ب«نداء تونس». فهل تنتهي مبادرة السبسي بحزب وسطي كبير أو على الأقل بجبهة واسعة؟ أم تبقى في مستوى مضغة الأفواه التي سرعان ما يعمّها النسيان لو واصلت سير السلحفاة في مخاض ولادتها دون مراعاة لسرعة تغير تجاذبات المشهد في كل آن وحين؟ وبقطع النظر عن نجاحها أو فشلها، ما هو تأثيرها على تكتيكات اللاعبين الرئيسيين في الساحة السياسية؟ القراءة الثاقبة لما بين سطور «نداء تونس» لا يمكن أن تنجح في فكّ ما عسر منها على الفهم إلا إذا ركزنا في البداية على الشخصيات المكوّنة للجنة العمل المؤقتة للتفعيل والمتابعة. الملاحظة الأهم هي أننا لا نجد تجمعيا واحدا «من أزلام النظام البائد» واستعملنا هذه العبارة عمدا للتدليل على «الإسهال» في استعمالها تماما كعبارة «بفضل سيادة الرئيس» في عهد بن علي. وهذا ما تفطّن له السبسي ف«أقصى» أي شخصية (على الأقل إلى حد الآن) عليها خلاف أو احتراز باعثا بثلاث رسائل: الأولى للشعب وملخّصها أنّ قدرته على تجميع ما تشتت في الانتخابات الفارطة لا تعني بالضرورة حضوره الشخصي بل المجال مفتوح لكل الكفاءات التي تؤمن بجدوى المبادرة. الرسالة الثانية موجهة للحكومة وأساسا ل«النهضة» و«المؤتمر»: من بيده «تجمع» عفوا حجر فليرمه! بما قد يعني عدم قلقه حتى من نتائج اقتراح إقصاء التجمعيين من الانتخابات القادمة. فالمبادرة في مرحلتها الثانية أثبتت أنها أكبر من أن تُكون غطاء لهم (دون أن تغلق الباب دونهم وهذا ما قامت به كل الأحزاب الأخرى بما فيها الحاكمة!) والدليل شخصيات لجنة المتابعة التي قد نختلف أو نتفق عليها لكننا لا يمكن التشكيك في عدم تورطهم مع النظام السابق، بل إنّ البعض منهم كان معارضا واضحا له. والرسالة الثالثة لبعض الدساترة وأساسا لكمال مرجان، لتأكيد قراره (السبسي) المضي قدما نحو تأسيس حزب أو جبهة وسطية واسعة وعدم استعداده لأن يكونوا(الدساترة) فصيلا منفردا بمبادرته، مقابل ترحيبه ببعضهم من الذين يقبلون أن يكونوا جزءا مساهما فحسب ككل الأطراف الأخرى (السيدة سلمى الرقيق اللومي عضوة لجنة المتابعة هي قيادية في الحزب الوطني التونسي وهو نتاج اندماج أحزاب بتوجهات دستورية وبقي على مسافة من حزب كمال مرجان). وبذلك استطاع الباجي الخروج من جبة الاتهام الجاهز والسهل الذي يلوكه خصومه وهو أنه «واجهة لعودة التجمعيين». فنأى بنفسه عنهم. بالنسبة لمحتوى النداء ،لم يختلف عن مطالب السبسي السابقة ولكن الصياغة تغيرت بشكل جذري. فالدخول في تفاصيل الأمور السياسية والاجتماعية والحقوقية والدستورية والتأسيسية والإدارية وحتى السياسة الخارجية بأسلوب جمَع بن النقد المبطن للمشهد الحالي وبين طرح البدائل المفصَّلة، يُعتبر تحوّلا لافتا للانتباه لأنّ تشخيص الواقع ونقده ثم استعراض سبل المرور إلى مرحلة الاستقرار لا يمكن أن يكون لمجرّد إبداء الرأي فحسب، بل هو خارطة طريق بديلة لل«حُكم»!. ومن أبجديات العمل السياسي مقارعة البرامج بالبرامج للوصول إلى الحكم والشروع في تطبيقها، لذلك نكاد نجزم أننا في حضرة حزب قائم الذات مع تأجيلٍ للتأسيس مع تردّد محسوب في قرار «التحزّب» التقليدي الواضح حتى وإن بقيت الديباجة في مستوى أدنى باسم «لجنة العمل المؤقتة للتفعيل والمتابعة». هذا الغموض في هيكلية هذا الحزب الافتراضي (طبعا لو واصلنا في نفس التأويل) منطقي وسببه تكتيكي بحت، وهو أنّ المشرفين الحاليين على المبادرة ينتظرون (و بالأحرى يتوقعون) التحاق عدد هام من الشخصيات المستقلة بما في ذلك الجمعيات والشبكات المدنية ذات الثقل الجماهيري والقادرة على زحزحة قواعدها المستقلة عن سلبيتها واستقالتها من الشأن العام، وانتظار التحاق بعض الطيف الدستوري المتشتت نتيجة خلافات تشق العائلة الموسّعة بعد تخلّصه من التردّد بين التمسك ب«النقاء» الدستوري المحض وبين التموقع داخل عائلة أكبر وأكثر تعددية على اختلاف المرجعيات الفكرية وهذه المبادرة قادرة على لعب هذا الدور. يضاف إلى ذلك، انتظار أصداء المبادرة لدى الطبقة السياسية وأساسا ما يسمى بالمعارضة الحالية .فلئن كانت مواقف الحزب الجمهوري والمسار الديمقراطي الاجتماعي معلومة ومرحبة منذ البيان الأول للسبسي دون إفصاح عن وسائل تفعيل هذا الترحيب، فإنّ البقية ظلت غامضة المواقف ومحتارة بين بقائها سجينة خطها الإيديولوجي الذي قد لا يسمح لها احتراما ل«نقائها» الثوري المزعوم بالترحيب بالمبادرة، وبين إلزامية الخضوع لمتطلبات المرحلة القائمة على البراغماتية والتحالف على أساس المهمة العاجلة بعيدا عن كل تكلّس إيديولوجي أو خطاب «ثورجي» لا يجد صداه في صناديق الاقتراع يوم الحساب الشعبي. وفي هذا الشأن، لنا معلومات مؤكّدة أنّ بعض القيادات داخل تيارات يسارية وقومية وتقدمية بدأت وإن بصوت خافت تتجرأ على الدعوة لانتصار الخيار البراغماتي الواقعي في انتظار شجاعة مصارحة قواعدها. ويمكن الرجوع للتصريحات الإعلامية الأخيرة لبعض رموز هذه التيارات اليسارية لنفهم كيف أن قيادييها وإن لم يؤيدوا علنا مبادرة السبسي فإنهم أيضا لم يعارضوها بقولهم إنّ من حق كل مواطن تونسي ممارسة العمل السياسي بمن فيهم السبسي. وهذا الموقف يُعتبر تحولا راديكاليا، إذ كان خطابهم قبل انتخابات التأسيسي تحريضيا «اجتثاثيا» ومتشنجا مما ولّد خاصة لدى القواعد الشعبية البسيطة ل«التجمع» المحلّ خوفا وعدم شعور بالأمان عكس الخطاب الهادئ والمطمئن الذي قدمته لهم حركة «النهضة» بما مكنها من أصوات إضافية معتبَرة دون أن ينتموا إليها لأن الأصوات تتساوى يوم الاقتراع. ويبدو أن هذه التيارات استوعبت جيدا هذا الدرس ومن الممكن أن تساهم في إنجاح المبادرة بشكل أو بآخر، بمعنى إمّا مباشرة أو بالتزام الصمت والحياد تجاهها دون هرسلتها و«شيطنتها» حتى تعمل على التمدد والتوسع بعيدا عن ضجيج الاتهامات.فالمواطن العادي يبحث بالأساس عن الأمن لا بمفهومه التقليدي الضيق فحسب بل في إطاره العام أي سلامته الجسدية والمعنوية، أمنه الاجتماعي بالشغل والجماعي بتكريس علوية القانون وحياد الإدارة وغيرها. و«نداء تونس» عمل على تقديم بدائل «آمنة» تطمئن المواطن وتنقد الحكومة تارة بالتلميح وتارة أخرى بالوضوح (تحييد الإدارة بالكف عن اعتماد الولاءات والرجوع عما حصل منها،تحييد المساجد وإنهاء ظاهرة الميليشيات...)، والصياغة صريحة لا تحتمل التأويل فهي تتحدث عما يعتبره أصحاب النداء حقائق سلبية تسببت فيها الحكومة الحالية بما عمّق حالة «اللاأمن» الجماعي والفردي. بهذه التفاعلات وبقراءة الردود الشعبية أيضا التي يمكن فهمها من مواقع التواصل الاجتماعي (وجود رابط للمساندة على الفايس بوك يعطي فكرة معقولة عن مدى تفاعل الناس )، سيزول الغموض التنظيمي للمبادرة، إذ أن التيارات أو الشخصيات التي ستختار الالتحاق بها ،ستبحث أيضا عن التموقع داخلها بما سيؤدي حتما إلى مفاوضات نتيجتها التوافق حول توزيع المناصب القيادية بين كل المكونات وبمراعاة كل المشارب الفكرية.عندها فقط ،أي لو نجحت المشاورات بتنازلات متبادلة، ستكون المرحلة التي لا بد منها وهي الإعلان الرسمي عن جسم هذه المبادرة :الحزب الكبير أو الجبهة التقدمية الواسعة. فهل ينجح «نداء تونس» في المرور إلى المرحلة الثالثة للمبادرة؟ خاصة وأنّ الجميع تقريبا يؤكد على أنّ طلب الحكم هو لب العمل السياسي ولا يمكن الادعاء بكونه معرقلا للحكومة ونقصد هنا أية حكومة ما دام قائما على طرح بدائل، ومستوفيا لشروط احترام قوانين وتقاليد اللعبة الديمقراطية.. بل إن قياديي «النهضة» الحاكمة أشاروا مرارا إلى هذا المعطى الثابت في العمل السياسي.