بقلم: مصطفى قوبعة في سباق اللحظات الأخيرة من ماراطون التحوير الوزاري الموعود، تراوح الوضع بين الفرملة وبين الهرولة. ومعلوم أن موضوع التحوير الوزاري المرتقب اهترأ واستُهلِكَ قبل الإعلان عنه، وهو ما يفقده كل المعاني المأمولة والمنتظرة في حال إقراره، والخشية كل الخشية أن تتحول الرجّة الإيجابية المراد إحداثها من وراء هذا التحوير إلى رجة سلبية على جميع الأصعدة فيأتي بنتائج عكس ما تنتظره قطاعات شعبية واسعة وعكس ما خطط له سياسيّا من هذا الطرف أو ذاك. فجزء كبير من الشارع التونسي بصرف النظر عن ولاءاته السياسية من عدمها يأمل في تحوير وزاري في حدّه الأدنى يرفع من أداء العمل الحكومي بما ينعكس إيجابا على أوضاعه المعيشية المتردية، ويفرز فريقا حكوميا في شكله وفي مضمونه قادرا على إرساء جوّ من الثقة بين السلطة والمعارضة والشارع عموما، بما يخفف من حدة الاحتقان الاجتماعي والسياسي السائد حاليا، والمرشح لمزيد التأزم وطنيا وجهويا في المستقبل. أما ما خطّط سياسيا لهذا التحوير، فيكفي القول إن تباعد المنطلقات بين الأطراف السياسية سواء صلب جلها أو في ما بينها يوحي بأن التحوير سيُولد ميّتا. ومن المفارقات هنا أن مجلس شورى حركة «النهضة» فوّض إلى السيد حماد الجبالي بصفتيه رئيسا للحكومة وأمينا عاما للحركة دون غيره من قيادات الحركة مهمة إجراء المشاورات المتعلقة بالتحوير الوزاري مع مختلف الأطراف السياسية، ولكن في المقابل نلاحظ نشاطا متميزا وملفتا للشيخ راشد الغنوشي رئيس الحركة في هذا الحراك السياسي من خلال السعي أحيانا إلى المسك بزمام المبادرة والتفاوض شخصيّا مع أطراف وشخصيات سياسية لها وزنها وإشعاعها وثقلها الشعبي والسياسي مثل «الحزب الجمهوري» و«حركة الشعب»، وأخرى لا إشعاع ولا ثقل شعبي لها لكنها تؤمن لحركة «النهضة» الأغلبية داخل المجلس التأسيسي في صورة انفراط عقد «الترويكا» أو جزء منه، ومنها بالخصوص «كتلة الحرية والكرامة» والعربي الجلاصي ومن ورائه بعض النواب من أتباعه الجدد. فهل يتنزل دخول رئيس حركة «النهضة» المباشر على خطّ المشاورات في سياق دعم «لوجستي» لجهود رئيس الحكومة أم هو تحدّ لهذا الأخير ولصلاحياته المفوضة له من طرف مجلس شورى حركة «النهضة»؟ وهل يتمتع رئيس الحكومة بما يكفي من هامش المبادرة ومن حرية «التصرف» في المشروع أم أنه في كل الحالات يبقى مكبّلا بضوابط وبحسابات لا يعرف سرّها إلا الشيخ راشد الغنوشي؟ وهل توفّر الانسجام المطلوب بين رئيس الحركة وبين أمينها العام وبين أهمّ مجموعات الضغط ومراكز القوى داخل مجلس شورى الحركة في اتجاه إجراء تحوير وزاري وفق ما تستوجبه متطلبات المرحلة أولا وأخيرا؟ صراحة، لا شيء يوحي بذلك ولكن لننتظر وسنرى، وبالرجوع إلى حيثيات وفعاليات هذا السباق الخاوي، فازت «الجبهة الشعبية» بقصب السباق بمقاطعتها له قبل أن ينطلق وكأن شعارها كان «عاش من عرف قدره»، ذلك أنه بصرف النظر عن جميع الاعتبارات والخلافات السياسية المعلومة فإن «الجبهة الشعبية» لا ترغب سوى أن تكون شريكا في النجاح وشريكا من أجل الأفضل، وفي ظل غياب ما يمهّد ولو نسبيا لأسباب النجاح فإنها تجنّبت منذ البداية أن تكون طرفا وشريكا في الفشل، وهذا ما يحسب لها من وجهة نظر الرأي العام. وعلى خلاف «الجبهة الشعبية» التي تعاطت مع المسألة من منطلقات مبدئية فإن الأمر يختلف مع حزب «نداء تونس»، فمن حيث المبدإ فإن حزب «نداء تونس» لا يرى مانعا في التعامل الإيجابي مع حركة «النهضة» خدمة لمصلحة تونس حسب تقديره، كما أن حركة «النهضة» لا تعترض في النهاية على شكل ما من أشكال التعامل مع «نداء تونس»، لكن يبقى الأمر مؤجلا إلى فترة لاحقة إلى حين مزيد نضج الظروف الذاتية والموضوعية له. أما «الحزب الجمهوري» فلم يسقط في فخّ الإغراءات المنصوبة إليه، ضمن وجهة نظر حركة «النهضة» وخصوصا رئيسها، فإن «الحزب الجمهوري» هو صيد ثمين لا يقدر بثمن سياسي، كيف لا وهو الحزب الوحيد الذي تكرّم عليه الشيخ راشد الغنوشي شخصيا بوزارتي سيادة، ولا غرابة في ذلك ف«الجمهوري» بمقدوره أن يجرّ وراءه «المسار الديمقراطي الاجتماعي»، وحتى إن تنصّل المسار فإن حركة «النهضة» بإيقاعها ب«الحزب الجمهوري» تكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد: - التخلص دون كلفة سياسية داخل المجلس التأسيسي من شريكيها في الحكم وهما حزبي «التكتل» و«المؤتمر». - تعويض حزبي «المؤتمر» و«التكتل» المهترئين سياسيا وشعبيا بحزب على الأقل له ما يكفي من الإشعاع والثقل الشعبي بما يخدم حركة «النهضة» وصورتها وطنيا ودوليا. ولأن «المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين» حسم «الجمهوري» أمره في المحطة الأخيرة من السباق ورأى أن في المحطات الانتخابية القادمة من الأهمية ما يفوق بكثير مغامرة اقتسام الكعكة هي غير محسوبة العواقب فالحزب «الجمهوري» وقد بدأ ينتفض من جديد بعد مخلفات تجربة السلطة في فترة ما قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 أقر العزم في النهاية على عدم تكرار التجربة التي كلفته غاليا في السابق. ويبقى موقف حزب «حركة الشعب» إلى حد اللحظة مترددا رغم الحظوة التي لقيها لدى رئيس حركة «النهضة» ف«حركة الشعب» هي كذلك صيد ثمين ولو بدرجة أقل من «الجمهوري»، ولكن الحفاظ على وحدة الحركة دون غيرها من الاعتبارات هو الذي سيحدد في نهاية المطاف موقف قيادة ومناضلي «حركة الشعب» بشقيهم القومي المحافظ المتجاوب عموما مع حركة «النهضة» والقومي اليساري المتحفظ على أيّة مبادرة انفتاح تجاه حركة «النهضة»، وأغلب الظن هنا أن هاجس الحفاظ على وحدة الحركة سيكون حاسما في اتخاذ القرار النهائي بما يعني أن «حركة الشعب» ستبقى أقرب إلى «الجبهة الشعبية» منها إلى حركة «النهضة» وأن أية خطوة منها في اتجاه التحالف مع حركة «النهضة» ستؤدي ببساطة إلى انقسامها تنظيميا. نفس الهواجس تعاني منها «حركة التحالف الديمقراطي». فموقف هذه الحركة الناشئة حديثا لا يختلف كثيرا عن مواقف «حركة الشعب» وتبقى بدورها حريصة على وحدتها وعلى تماسكها في أولى مراحل بنائها، حتى أن مناضليها الذين خرجوا إلى الشارع بمناسبة إحياء ذكرى 14 جانفي فضّلوا الالتحاق بمسيرة «الجبهة الشعبية» و«الجمهوري» و«المسار» دون غيرها من التنظيمات السياسية. أما حزبا «المؤتمر» و«التكتل» فلم يتخلصا بعد من ردود فعلهما السيئة والخاطئة ولم يتيقّنا بعد ألا مستقبل سياسيا لهما سواء أمسكا بتلابيب «النهضة» أو انسحبا بمحض إرادتهما خاصة لما علما بعرض رئيس حركة «النهضة» ل«الجمهوري» فتصرّفا كالذي يقول «الماء اللي ماشي للسدرة الزيتونة أولى بيه». وفي كل الحالات فإن حركة «النهضة» راضية ببقاء هذين الشريكين إلى جانبها وفق شروطها ولكنها غير مستعدة بالمرة للتنازل لهما وفق شروطهما وهي التي تعلم علم اليقين أن هذين الشريكين قد بلغا من الضعف والوهن السياسي ما قد يجعلها تقلب الطاولة حتى ولو وصل بها الأمر إلى إعادة النظر في منصبي رئيس الجمهورية ورئيس التأسيسي وهو إجراء إن حدث لا يفيد سياسيا في شيء حزب «المؤتمر» وحزب «التكتل» بعد أن احترقت أوراقهما وفقدا مصداقيتهما أمام الرأي العام وقد حصّل ما في الصدور، ولعل تصريح رئيس الحكومة يوم افتتاحه مؤتمر منظمة الأعراف وتهديده بمصارحة الشعب بالعديد من الحقائق هي رسالة مبطّنة موجهة إلى حزبي «المؤتمر» و«التكتل» قبل أي طرف سياسي آخر خارج الحكم.