الصباح بلغة الرومانسيين هو السحر والصفاء والهدوء.. وهو في الخريف حشرجة أوراق الشجر ولمعان برق ينذر بالغيث وضجيج جرّار الفلاح ينطلق الى مزرعته باكرا ليحرث السهل الممتدّ... وهو في الشتاء سواد حالك تتدثّر به الأشجار العارية وقد أنهكها البرد القارس بينما يتعالى من البعيد نباح كلاب القرية تتحلق حول حرّاس الليل من هبّوا لقرع الأجراس معلنة عن انبلاج يوم جديد... وهو في الربيع شدو العنادل وزقزقة العصافير ترقص على أغصان السنديانة وهي تتحلّى بعطر الأزهار الملونة... وهي في الصيف اشراقة شمس المتوسط الوهاجة يُلّطفها نسيم عليل يحمل لنا شذى الطحالب وهديل الأمواج وهي تتلاطم بمراكب الصيادين... في لحظة انبلاج يوم جديد من رحم ليلة مظلمة نستعد في بيوتنا لعطاء متجدّد بروح فيّاضة تتوق للبذل والعطاء... فننتشر بين المقاهي والطرقات ووسائل النقل والمحلات العمومية نحتفي بالصباح الجميل... فقد نكون في ركن من المقهى نترشف «قهوة عربي» على أنغام مذياع يهدينا أجمل الكلمات بصوت عذب... «قهواجي دور... قهواجي دور... هاتلي قهيوة» بلكنة صفاقسية لصاحبها «محمد الجموسي»... وقد يكون أحدنا أو بعضنا في سيارة أجرة وهي تطوي الأرض طيّا تنشد الوصول الى الأهل والخلاّن بعد غياب طويل وقد فاض مذياع السيارة بروائع الأغنية العربية بصوت السيدة «فيروز» وهي تشدو بأجمل القطع الموسيقية... «طلعت يا ما آحلى نورها شمس الشمّوسة» و«أجمل صباح» ثم يتواصل السحر مع الصوت العذب لنجاة الصغيرة... «يا مسافر وحدك» وبعدها... «القريب منّك بعيد»... وتتبعها «سميرة توفيق» بصوتها البدوي... «سافر يا حبيبي وارجع».. وقد يكون أحدنا فلاّحا يبكّر الى حقله يطلب الرزق فتتجاوب معه أجمل الأغاني تتهادى من مذياع معاونه وهو يفتح أبواب الاصطبل ليهيء وسائل الحرب والبذر... «يا صباح الخير يالّي معانا... الكروان صاح وغنّانا» بالصوت الشذي لكوكب الشرق «أم كلثوم» وبعدها ينطلق صوت شحرور الخضراء «علي الرياحي» بأغنيته «الزيتونة» ويواصل بأروع ما غنّى... «زينة با بنت الهنشير» فينسجم معه «محمد الجموسي» وهو كمن يوشح لوحة طبيعية بأجمل الألوان... «أكباشك ترعى وتغني... غني يا فاطمة غنّي»... وكلما تسارعت الدقائق تودّع الصباح إلاّ وتعالت الأغاني من كل الرّبى والتلال تتراقص مع صدى صوت الفنانة «شريفة فاضل»... «فلاح... كان فايت بيغني» بينما انفرد مذياع شاحنة فلاّح مجاور مرّ في المسلك القريب ينتشي بالصوت الجوهري لوديع الصافي... «طل الصباح»... حتى صارت «الأغنية الصباحية» عادة وبوّابة الصباح الجديد... يمهد ليوم سعيد لما للأغنية من وقع وتأثير على ذهن سامعها تمسّه في العمق وتهبه شحنة نفسانية لا تقدر عليها إلاّ الموسيقى. هذا ما كنا نسمعه... ونفتخر بأننا لازلنا على العهد في يومنا هذا... عكس جيل اليوم من يبدأ صباحه على سماع «الراب» والموسيقى الصاخبة السريعة... ألحان تصمّ الآذان وتستفزّ العواطف لا تعي هدوء الصباح وسحره... ولا تعترف ب«لوكه» الرومانسي بل تعتدي على قداسته وهبته... «وللنّاس في ما يعشقون مذاهب»... هم يقولون هذا وأنا أسأل في هذه الحالة وأتعجب.. ربّما!!!