هذه هي أبرز سمات الوضع الحالي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. فعلى المستوى السياسي بدأت تداعيات الحوار الوطني المنعقد بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل في شوطه الثاني في البروز، فالمجلس الوطني التأسيسي في اول تفاعل له مع محاور البيان الختامي لهذا الحوار الوطني كأنه يقول لاطرافه شكر الله سعيكم ولكن تفاهماتكم ليست بالضرورة ملزمة للمجلس سيّد نفسه، وفي المحصلة كان اجدر بالاتحاد العام التونسي للشغل الانحياز الى مبادرة «الجبهة الشعبية» بالدعوة الى مؤتمر وطني للانقاذ عوض السعي الى جرّ احزاب المعارضة الى الاصطفاف وراء مبادرته لحوار وطني تفوق حظوظ فشله المسبق بكثير حظوظ نجاحه، حتى ان عديد الملاحظين رأوا في هذا الحوار اضعافا للاتحاد مثلما هو استنزاف تدريجي لحراك أبرز مكونات المعارضة، والحد من هامش مبادرتها على أبعد الحدود. وعلى نفس المستوى سجلنا في الفترة الاخيرة تسابق العديد من الوجوه السياسية في الاعلان عن ترشحها للانتخابات الرئاسية القادمة، والحال ان كل الغموض لا يزال يلفّ هذه المسألة سواء بالشروع في وضع الأطر القانونية والتنظيمية واللوجيستية وطنيا وجهويا ومحليا الكفيلة باجراء انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة قبل الحديث عن توافق مبدئي حول آجال تنظيمها او كذلك بالحسم في طبيعة النظام السياسي الذي سيعتمده مشروع الدستور. لم تكتف اذن بعض الوجوه السياسية ب «فرش الحصيرة قبل الجامع» في هذا السياق بل تمادت في الخطإ باستعمال مفردات خلناها ولت بلا رجعة من نوع المناشدة، وهي مفردات اقل ما يقال عنها انها لا تليق بالمرة بمستعمليها وبما يمتلكونه من رصيد نضالي. أليس كذلك يا استاذ احمد نجيب الشابي؟ احيانا يتعين على بعض السياسيين العمل على ان تأتيهم السلطة على طبق من ذهب، عوض اللهاث دون جدوى وراءها، فالسياسة هي كذلك شطارة. ومن جهة اخرى، فإن اخر التسريبات الواردة من داخل اسوار مجلسنا الوطني التأسيسي تشير الي اتجاه مزيد من التعقيد في خصوص النقاط الخلافية من مشروع الدستور عوض حلحلتها وفق تفاهمات الحوار الوطني، بما يوحي والى ان يأتي ما يخالف ذلك ان مشروع الدستور يسير ببطء على طريق الاستفتاء الشعبي، بما قد يحمله هذا السيناريو المتوقع من مخاطر جديدة تنضاف الى المخاطر المتراكمة منذ 14 جانفي 2011. وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فوّت السيد رئيس الحكومة على نفسه في اول لقاء اعلامي له فرصة مصارحة الرأي العام الوطني بحقيقة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبانخرام توازنات المالية العمومية وعموما بتردي المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. في كلمات باهتة وسطحية مرّ السيد رئيس الحكومة مرور الكرام على هذه المحاور في وقت كان ينتظر فيه الشارع التونسي بموالاته وبمعارضته حدا أدنى من القرارات ومن الاجراءات ومن مشاريع على المدى القصير تعيد اليه بعض الطمأنينة، لم ير السيد رئيس الحكومة موجبا لذلك وما الداعي طالما انه يرى من تقييمه الخاص ان الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية هي عادية ولا غير ولا تنذر بالخطر، ولا تستوجب المزيد من الاهتمام ومن المعالجة السريعة؟ وفي الحقيقة فإن التعاطي مع المعالجات الملحة للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم يكن منتظرا من حكومة افتقرت منذ تنصيبها بعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 الى برامج اقتصادية اجتماعية ضمن نظرة شاملة ومتكاملة للاوضاع ولما تتطلبه من حلول. مرة اخرى تختار السلطة القائمة الحلول السهلة التي توفرها مجالات الاقتراض الخارجي سواء من حكومات معينة او من مؤسسات النقد الدولي دون تقدير جيد للانعكاسات المترتبة عن اغراق البلاد في مزيد من التداين غير المنتج بما يهدد سيادة البلاد واستقلالية قرارها السياسي وهي انعكاسات معلومة لدى الجميع، فسيادة الدولة تبدأ من هنا وتقف هنا. ومرة اخرى تختار السلطة وفق ما سرّب في خصوص بعض مشاريع الاصلاحات المضي قدما في مزيد التفويت في قدرات البلاد وفي ثرواتها المنتجة بصفة غير مسبوقة قد تشمل بيع الاراضي الفلاحية للاجانب! في يوم من الايام، سترحل هذه السلطة لتحلّ محلها اخرى، ولكن في كل الحالات ليس من المقبول ان ترحل هذه السلطة من منطق «فليكن من بعدي الطوفان». أما على المستوى الامني، فيمكن ان نتوقف في لقاء السيد رئيس الحكومة بالاعلاميين على نقطتين رئيسيتين: اولا: التهديد والوعيد الموجه الى ما سماه بعصابات عدنان الحاجي، وبصرف النظر عن شخصية عدنان الحاجي او غيره، فإن التلازم والترابط بين المسألة الاقتصادية الاجتماعية من جهة والمسألة الأمنية من جهة اخرى يتطلب اولا وقبل كل شيء توفير حد ادنى من الحلول العاجلة لأهالي الحوض المنجمي، وبالتالي فإن الاصرار على التهديد والوعيد بهذا الشكل مقابل اهمال منطقة الحوض المنجمي بهذا الشكل المتواصل لن يزيد الاوضاع هناك الا تأزما وتعقيدا ولا اعتقد ان السيد رئيس الحكومة مستعد في هذه الظروف لتحمل مسؤولية انتفاضة جديدة في الحوض المنجمي قد تفوق في ابعادها وفي اثارها انتفاضة 2008، وما هيأته من ارضية ملائمة «لثورة» 14 جانفي 2011. ثانيا: الحديث غير المنسجم عن ظاهرة الارهاب في تونس وجماعات «أنصار الشريعة»، وكأن بالسيد رئيس الحكومة بات مقتنعا اليوم، وبخلاف الامس، أنه يتعين عليه التعاطي مع هذين المسألتين كحقيقتين ثابتتين من حيث التواجد الفعلي لبؤر الارهاب في انحاء مختلفة من البلاد ومن حيث حجم التسلح ومن حيث ترسخ العقيدة الجهادية الارهابية في أذهان نشطاء هذه المجموعات. وفي خصوص هذا الموضوع لم يكن السيد رئيس الحكومة على درجة كافية من وضوح الرؤية في ما يتعلق بالمرحلة القادمة ولعله فضل التريث بعض الشيء في انتظار مآل مفاوضات قد تكون مباشرة او غير مباشرة مع رموز هذه المجموعات ومع شيوخها قد تفضي في أحسن الحالات الى اقرار هدنة غير معلنة بين السلطة وبين المجموعات الجهادية الارهابية بعد ان فوتت السلطة على نفسها منذ اشهر عديدة فرصة التصدي لانتصاب الارهاب في بلادنا بوجهيه الفكري والمسلح.