عبر الخطب الحماسية، والتصريحات الصحفية المتقاطعة، انطلق بين قيادات حزبي حركة «النهضة» و»نداء تونس» ما يشبه الحملة الانتخابية المبكرة، رغم أنه لا موعد عندنا لهذه الانتخابات، ولا هيئة لدينا ستشرف عليها، ولا قانون انتخابي ستتم على أساسه.. الباجي قائد السبسي زعيم «نداء تونس» انخرط نهاية الأسبوع، من خلال برنامج تلفزي في التكهن بالنتائج التي ستفرزها الانتخابات المقبلة، واضعا حزبه في المقام الأول...أما راشد الغنوشي رئيس حركة «النهضة» فقد قال قبل أسبوع في صفاقس إنّ حركته « ستفوز في الانتخابات المقبلة والتي تليها والتي بعدها» .. الثقة بالنفس مطلوبة لدى المشتغلين بالسياسة .. وليس هناك من شك أنه من حق القيادات السياسية أن تحفّز همم أنصارها، وترفع من معنوياتهم، وأن تحثهم على بذل كل الجهود من أجل الفوز بالانتخابات... ولكن التوقيت مهم جدا في هذه المسألة. ما يجري الآن من استباق للأحداث وحديث عن النتائج والفوز والهزيمة بخطب حماسية وتصريحات نارية أحيانا يحمل العديد من المخاطر ويمكن أن يؤدي الى انعكاسات سلبية ما لم يقع الانتباه إلى الأمر والتحلي بروح المسؤولية . الانتخابات لا تحسم نتائجها برفع معنويات الأنصار فحسب .. ولا بالتكهنات المتفائلة جدا من هذا الطرف أو ذاك.. ولا حتى بنتائج استطلاعات الرأي مهما كانت مصداقيتها .. ولا تنفع معها دوما الانطلاقات المبكرة في السباق.. وهذه «التسخينات» التي تعرفها الساحة السياسية بدأنا نلمس انعكاساتها، ويتجلى ذلك سواء من خلال ارتفاع حدة النقاشات بين أنصار هذا الحزب وأتباع تلك الحركة، وكذلك على صفحات المواقع الاجتماعية، حيث مرت آلة الشتم والسب والتشهير إلى السرعة القصوى. لقد عبرت جهات عديدة عن مخاوف جدية جراء عمليات التسخين والشحن والتجييش في علاقة بموضوع الانتخابات، وعدم أخذ خصوصية المرحلة الانتقالية بعين الاعتبار، وتجاهل هشاشة الأوضاع العامة للبلاد، وما يتطلبه ذلك من قدر كبير من الرصانة والحكمة خاصة من قبل القياديين في الأحزاب «الكبرى» وضرورة عدم الانسياق وراء مغازلة أهواء الأنصار، واللعب على مشاعرهم وحماسهم. فعوامل الاحتقان على الساحة الوطنية كثيرة، ومنها بالخصوص تواصل غموض الصورة حول ما يحدث في جبل «الشعانبي» وحجم المخاطر الإرهابية التي تتهدد البلاد، والغليان المستمر بين بعض القوى السياسية بسبب المسودة النهائية للدستور، وكذلك الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي لا تزال تعيشها العديد من الفئات، التي تندفع أحيانا وتقوم باحتجاجات تتعطل معها آليات الإنتاج، وكذلك واقع التهميش الذي لا يزال يهيمن على العديد من الجهات الداخلية التي لم تر بعد من التنمية الموعودة أي شيء. وهي الملفات التي كان من المفروض أن تركز الطبقة السياسية الاهتمام عليها لا تركها جانبا، وإطلاق العنان لأحلام الفوز بالانتخابات المقبلة وتأكيد هذا وذاك أن حزبه هو الأفضل والأقوى والمؤهل لكسب هذه الانتخابات. فمثل هذه التصريحات والخطب، قد تفهم من قبل بعض الشرائح على غير معانيها ومقاصدها، لتتحول بذلك إلى عامل إضافي للاحتقان نحن في غنى عنه... فرعاية التجربة الديمقراطية الناشئة في بلادنا تتطلب أولا وضع الآليات الضرورية التي تضمن إجراء الانتخابات في أحسن الظروف، وخاصة في كنف الأمن والهدوء. وكذلك تربية الأحزاب لأنصارها على الالتزام بالسلوك الديمقراطي، وبقبول نتائج الانتخابات مهما كانت، حتى لا نصبح في اليوم الموالي لإعلان النتائج على فاجعة. إن رهان إجراء الانتخابات القادمة في أحسن الظروف سيحدد مصير عملية الانتقال الديمقراطي برمتها. و«كبار» الساحة السياسية يدركون ذلك جيدا، ويعون أن نجاح التجربة يمر عبر ضمان انتخابات حرة وشفافة، ودون أي مظهر من مظاهر العنف. لأن أي انفلات سيكون وبالا على الجميع. ولا أحد سيكون فائزا معه. والمطلوب من هؤلاء «الكبار» التوقف عن هذه «اللعبة» والكف عن عمليات التسخين المبكرة جدا التي قد تضر أكثر مما تنفع.