رغم ضبابية هذا المشهد السياسي يعتبر هذا الحراك في هذا الاتجاه أو ذاك ظاهرة صحية خاصة في هذه المرحلة الانتقالية لأن التاريخ علمنا أنه لا توجد ثورة معقمة أو عذراء وكل ثورة لابد أن تعتريها اختراقات داخلية وخارجية وهذا لا ينقص من قيمة الثورة التي نأمل أن تنتهي ببناء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي يقوم على القانون والمؤسسات والتداول على السلطة ويقطع مع الاستبداد. بعد الانتخابات التاريخية التي شهدتها تونس في 23 أكتوبر 2011 والتي عبر فيها الشعب لأول مرة عن إرادته بكل حرية وكانت انتخابات ناجحة بشهادة كل المنظمات المحلية والدولية رغم بعض الثغرات والتجاوزات التي لا تخلو منها أي انتخابات تسلمت الترويكا المتكونة من حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية المعتدلة وحزبا التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية ذا التوجه اليساري المعتدل مقاليد السلطة لإدارة المرحلة الإنتقالية التي سيتم خلالها كتابة دستور جديد مع التحضير للإنتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة. بعد سنة من الإنتخابات اختلفت الآراء حول أداء هذه الحكومة الإئتلافية فبينما يرى الشق المعارض أن هذه الحكومة التي يسيطر عليها حزب النهضة لم تقدم شيئا وزادت في تدهورالأوضاع الإجتماعية والإقتصادية يرى الشق الآخر أنها حققت العديد من النجاحات مع بعض الإخفاقات اذ استطاعت المحافظة على استمرارية الدولة مع بعض الأرقام الإيجابية على المستوى الإجتماعي والإقتصادي رغم الظروف السيئة والعراقيل. خلال هذه السنة شهدت تونس نوعا من المخاض السياسي تولد عنه عديد الانشقاقات في عديد الأحزاب وبروز أقطاب جديدة قدمت نفسها كبديل سياسي لعل أبرزها الحزب الجمهوري(حزب ليبرالي وسطي) والجبهة الشعبية (أقصى اليسار مع قوى قومية بعثية) وحركة نداء تونس بقيادة الوزير الأول السابق الباجي قائد السبسي إضافة إلى تكتلات أخرى أقل حجما. وقد احتد الجدال السياسي إلى درجة الإحتقان خاصة بين حركة النهضة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي وحركة نداء تونس والتي يقودها الوزير الأسبق الباجي قائد السبسي والتي اختلف على تصنيفها فبينما يرى معارضوها أنها الخيمة الجديدة لبقايا النظام السابق المتحالفة مع بعض القوى الإنتهازية يرى مؤيدوها أنها تحالف ليبيرالي ديمقراطي من أجل احداث نوع من التوازن داخل المشهد السياسي للقطع مع هيمنة الحزب الواحد. فبعد حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي والذي يمثل حزب بن علي وهو امتداد للحزب الاشتراكي الدستوري الذي يحمل رمزية تاريخية باعتباره الحزب الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وساهم في بناء دولة الاستقلال ظهرت على الساحة العديد من الأحزاب والتكتلات التي حاولت استقطاب الدستوريين لكن كثرتها والصراع من أجل الزعامة جعلها في حالة من التخبط السياسي. ومع بروز حزب حركة تونس وجد الدستوريون القدامى المحسوبون على الفترة البورقيبية والجدد المحسوبون على نظام بن علي ضالتهم السياسية في شخصية السبسي الكاريزمية كما يراها أنصاره للم شتات هؤلاء وارجاعهم للحياة السياسية من الشباك كما يرى معارضوه بعد الرفض الشعبي لهم . رغم التحسن النسبي للوضع الأمني في هذه المرحلة الإنتقالية شهدت تونس العديد من الإحتقان السياسي شمل الإعتصامات الإجتماعية المطلبية والإضرابات في جل القطاعات إضافة إلى عديد الانفلاتات الأمنية كقطع الطرقات والنزاعات القبلية . واذ يرى مناصرو الحكومة أن هناك ثورة مضادة تهدف إلى إفشالها ويقودها أنصار النظام السابق وبعض القوى المعارضة لتيار الإسلام السياسي. ويرى أنصار هذا الرأي أن بقايا النظام السابق مازالت متغلغلة في مفاصل الدولة وأن العديد من أجهزة الدولة مخترقة من هؤلاء وخاصة الأجهزة الأمنية المتحالفة مع بعض رجال الأعمال النافذين والمرتبطين بالنظام السابق والذين يسعون إلى إرباك الحكومة وإدخال البلاد في فوضى عارمة من أجل الانقضاض على السلطة. وقد حاول هذا التيار اللعب في البداية على عنصر القبلية (أو العروشية كما تسمى في تونس) لاحداث نزاعات وفوضى مبرمجة وبعد فشل هذا الخيار نتيجة ضعف العقلية القبلية في تونس حاول هذا التيار اللعب على الورقة السلفية لاحداث انفلاتات أمنية واعتداءات وتنسيبها للتيار السلفي الذي أصبح مخترقا من بعض العصابات الإجرامية التي لبست العباءة السلفية اضافة إلى جر بعض التيارات السلفية المتشددة للقيام بأعمال عنف كردود انفعالية والدخول في حالة صراع مع السلطة وتصويرها للرأي العام في هذا الشكل يجعل مصداقية الإسلام السياسي خاصة فيما يتعلق بنبذ العنف في الميزان. وفي حين يرى معارضو الحكومة أن هذه الاحتجاجات هي نتيجة فشل الخيارات الحكومية وعدم تلبية مطالب الثورة وخاصة ملف تشغيل المعطلين عن العمل وغياب المحاسبة ومحاولة حركة النهضة السيطرة على مفاصل الدولة من خلال التعيينات الحزبية التي تراها النهضة ضرورة لتنفيذ برنامجها الإنتخابي وتجنب المعرقلين. وقد استطاعت المعارضة في هذه الفترة جر الحكومة التي اتسم أداؤها بالتردد وعدم المصارحة إلى صراعات وهمية مع الإعلام والقضاء واتحاد الشغل. رغم ضبابية هذا المشهد السياسي يعتبر هذا الحراك في هذا الاتجاه أو ذاك ظاهرة صحية خاصة في هذه المرحلة الانتقالية لأن التاريخ علمنا أنه لا توجد ثورة معقمة أو عذراء وكل ثورة لابد أن تعتريها اختراقات داخلية وخارجية وهذا لا ينقص من قيمة الثورة التي نأمل أن تنتهي ببناء نظام ديمقراطي تعددي حقيقي يقوم على القانون والمؤسسات والتداول على السلطة ويقطع مع الاستبداد. الوسط التونسية - 9 ديسمبر 2012