أيها الأحياء تحت التراب سلاما أستيقظ على أصوات الرياح القوية، تحدث الهلع في كل ما تحت قبضتها وتمدّ مخالبها لشبّاك غرفتي تفتحه، فتظهر شجرة اللوز المزهرة مرتبكة مذعورة وقد سقط عنها عدد من الأزهار. أجراس في رأسي تدق بسرعة، والألم يجعلني أنهض من السرير بصعوبة شديدة لأحكم اغلاق النافذة. الطقس شديد البرودة رغم أن مارس قد هلّ منذ أيام، في الأمس القريب لم أكن أرى في الرياح هلعا ولا في صوتها رعبا، كنت أشدو مع ترنيماتها وأتناغم مع جنونها الجميل، أوجاع الحلق تلازمني مع أمراض أخرى أبت أن تتخلى عن مواساتي. في حقيبتي المعلقة حذو السرير مرآة، أخرجها لأرى بقايا وجهي... العينان الواسعتان، النضرة التي أصبحت ذابلة ذاهلة، البشرة ناصعة البياض التي غدت شاحبة صفراء ... والشعر الجميل الذي بهت لونه وانطفأ لمعانه واشتاق لمداعبة مشطه. يقتحم غرفتي صوت خالتي زهرة : كيف حال ثُريّا اليوم؟. تجيبها أمي : على ما هي عليه. يا لقسوة الأقدار، البارحة لحقت ليلى بابنها بعد شهرين من وفاته ماتت حسرة وحزنا عليه، المسكينة كانت تستعد للاحتفال بزواجه من ثريّا هذه العطلة،والآن هما تحت التراب ، آآآآآآآآآه حسرتي على شبابك يا عزيز. يتناهى لي صوت أمي وهي تحدث خالتي بحزن شديد: مسكينة ابنتي، ما كدنا نهنأ باستفاقتها قليلا من فجيعة استشهاد خطيبها حتى عاودتها الأزمة إثر موت أمه. ثريّا تموت يوما بعد يوم يا زهرة... ابنتي ستضيع، أخبريني ماذا أفعل؟ آه أخيتي، رافقيني إلى المطبخ ، سأعدّ قهوة. إيه أختاه ليس بيدنا إلا الدعاء... سأشرب معك قهوة وأغادر لأزور ابن فاطمة... قيل أنه خرج البارحة من المستشفى. أخرجوا من صدره الرصاصة، ونجا بأعجوبة والحمد لله... ليت "عزيز" نجا أيضا، المسكين كان أيضا في مظاهرة سلميّة حين أطلقوا عليه النار. أُحس أن نيران الرصاص تخترقني الآن وتمزقني إربا. أفتح النافذة وأطل لعلّي أجد متنفّسا، لكني لا أجد إلا ما خلّفه دمار الرياح التي مازالت تدوّي. أطلق زفرة طويلة آملة بإفراغ خباياي لكن صدأ الحرقة يحجب لؤلؤ القلب، أخاطب نفسي أرثيها وأرثي من ترك دنيانا للأبد: البارحة يا حبيبي رقدت حذوك أمك الحنون، وقد كانت تحمل داخلها روحك وروحها معا. كنتُ يا حبيبي ألتقي بها فأستنشق عبيرك فيها وتشم عطرك بي، ولكن شاءت القدرة الإلهية البارحة أن أودّعها هي أيضا وإلى الأبد، وقد حمّلتها سلامي الكبير وشوقي اللامتناهي إليك وبعض الورد الأبيض الذي تعشقه، اليوم مرّ على استشهادك شهرين تماما يا حبيبي. تنتابني نوبة من السعال فأغلق النافذة. أتّجه إلى المطبخ مثقلة الخطى مرتعشة العضلات، بصوت أبحّ ألقي على أمي تحية الصباح: تقول أمي بحنان: كيف حالك اليوم، ماما ثريّا؟ بخير، الحمد لله. فجر اتصل، يسأل عنك ولكنك كنت نائمة وجوالك مغلق، كان حاضرا أمس بجنازة المرحومة حين أغمي عليك. شكرا له ... ثم أضيف: كم الساعة الآن يا أمي؟ بعد العاشرة بقليل. أمي، أنا مختنقة أريد الخروج. تصمت ولكني أستمع لقلبها يصرخ وجعا. وأخيرا تقول: حبيبتي، مرضك لا يلائمه البكاء ولا الخروج للبرد. ليس الأمر بيدي يا أمي. أتدرين؟... فجر يذكرني بالمرحوم عزيز كثيرا. نعم فهو صديقه الوحيد،آه، ربما أن فجر لا يشبه عزيز لكننا نراه كذلك لأننا نحب أن نراه فيه. ربما بنيتي... أرجوك ثريّا، تناولي صحن محلبية قبل الخروج لا يا أمي أرجوك . إذن أسكب لك كأس زعتر ممزوج بالعسل هو مغذّ وشاف شكرا، ماما أتعبك دائما. لو كان لي، يا حبيبتي، ما تركت أشواك القدر تلمس خصلة من شعرك لكن... أعرف يا حبيبة قلبي لكن تلك هي الحياة... أضع شالا أبيضا فوق فستاني الأسود. تقول أمي وهي تتمعن جسدي الذي اعتراه الهزال: تقصدين المقبرة؟ لا يا أمي أقصد البحيرة. في هذه البلدة القريبة من العاصمة تنام المنطقة الأثرية "أوتينا" محاذية بحيرة كبيرة وجميلة. تهدأ حركة الرياح بعد أن أمالت أعناق الأشجار وأسقطت الكثير من ثمارها. أحرّك قدميّ متأرجحة القلب، يأخذني الخيال بعيدا كأني برفقة عزيز نتحد، نتناجى ونغنّي، حتى أبلغ البحيرة حيث كنا نلتقي دائما وقد أنهكني المسير وضيّق أنفاسي. صوت الناي القريب يذيب القلب، أغمض عيني علني أنعم ببعض الراحة لكن الزمن يقفز بي إلى الثالث من ديسمبر الماضي، كان حينها الجو دافئا هادئا، والسماء والأرض تتناجيان حين قلت لعزيز: تأمل الطبيعة كم هي جميلة ومتناغمة مع الوجود. أنصت لها... شمّ عبيرها... وحده الإنسان يدمّر ويخرّب وينهب ويقتل وينزعج جدا من فهم نفسه... همّه دائما المال والسلطة و العالم الخارجي. حبيبتي، عُبّاد السلطة والمال يسخرون من هذه القيم وهذا العالم الجميل الذي تتحدثين عنه... هم مستعدون لسحق كل البشر للمحافظة على كراسيهم وأموالهم. هذا الدكتاتور نحن من صنعناه وذاك العدوّ نحن من سمحنا له باقتحامنا... قال لي حينها وهو يمسك خصلة من شعري وعيناه تضطرم حبا: هناك شموع صغيرة اليوم تحاول إنارة الظلام الشاسع ربما الغد أجمل حبيبتي . لكن دعينا من هذا الآن. اليوم عيد ميلادك سنشعل الآن شمعتنا ونشم الورد الأبيض ونغنّي. أنتبه أني أبتسم متوجعة وحيدة جالسة أمام البحيرة أنظر إلى وجهها الذي تعلوه تموّجات كنت يوما أُسحر بجمالها. ثم أغوص ببصري في عمقها علني أظفر في قاعها عمّا يجعلها نابضة بالحياة رغم ما يسودها من طفيليّات وسواد، فأعي أن هذه الأشياء فيها سر لبقاء البحيرة و رمز لهذه الحياة،وأنها تشبه كثيرا الإنسان الذي تبدو له الدنيا أحيانا جميلة، رغم ما تخفيه له من مصائب ورغم ما رسّبت داخله من أحزان. أحسّ بانفراج لحظيّ، لكن اليأس الذي يجثم على صدري يحرمني الوصول إلىّ... تنفرد بي أشباح التعاسة فتعبث بي كما تشاء. أحسّ فجأة يدا تلمس كتفي فيقفز قلبي وأقول: عزيز؟ يقول فجر بصوت حزين: ثُريّا كيف جئت إلى هنا وأنت بهذه الحالة؟ فجر؟ كيف علمت أني هنا؟ أمك أخبرتني. أظن أنها لا تستحق أن تعذبيها كل هذا العذاب أنا... لا... أقصد .. . في هذه اللحظة أحس أني أحترق، وأموت، ومع هذا أتمالك نفسي. إني أحس يا ثرية بك جيدا ، لكن تلك مشيئة الله أختاه ... أرجوك أصبري... فكري فيك و في عائلتك. تقول بصوت لا تكاد تسمعه. نعم... هيا نعود. يقول بحنان وحزن: أنا أيضا أفتقده كثيرا... تعلمين أنه صديقي الوحيد وأنهم أصابوه وهو بجواري ومات وهو في حضني. نسير قليلا، ثم نقف حذو المسرح الأثري الروماني. بيما الراعي ما زال ينوح بنايه وما زالت الطبيعة تشاركه الحزن الممزوج بالأمل. هل أنت مواظبة على دواء الحنجرة والضغط؟ قليلا... عديني بأنك ستواظبين. أعدك يسود الصمت قليلا ،ثم يقول فجر: غدا صباحا أعود إلى مدينة بوسالم، تلاميذي بحاجة لي. بهذه السرعة؟ . لقد غبت كثيرا عن المعهد بسبب الثورة وبسبب استشهاد الاعزاء ،أنت أيضا يجب أن تعودي إلى عملك، فهو قريب، أما أنا فبوسالم بعيدة، يبتسم بطيبة ويواصل: ولكنها جميلة بأناسها الطيبين. أعدك أخي أني سأحاول أن أشفى وبعدها إن شاء الله أعود لعملي. نواصل السير صامتين، الرصانة والرجولة تغمران وجهه الشاحب الصامت، الذي يخفي كمّا هائلا من الحزن والألم. ربما الصمت أبلغ من الكلام فكثيرا ما كانت الكلمات خالية من المعاني وكم وُجدت معاني دون الكلمات. أفتح الباب الخارجي ببطء، التلفاز مفتوح، أصوات أمي وأبي وأخي، وأصوات الملاعق والصحون. أدخل الصالة على صوت أخي يوسف معلقا على مجازر طاغية من طغاة هذا الزمن التي ينقلها التلفزيون : أنظروا ما يفعله العربي بأخيه العربي... ينتبه أبي لدخولي فيغّير القناة و يرحّب بي قائلا: أهلا ثريا، أرجو أن النزهة قد أراحتك؟ أقول وأنا أحاول أن أبتسم: نعم أراحتني. ثم أسأل أخي: يوسف، هل هدأت الأمور الآن في معهدكم؟ اليوم الأمور هادئة لكن الغد... لا نعلم ما يخفي هؤلاء الأشرار... لقد خربوا ونهبوا وروّعوا وقتلوا بلا رحمة. تضيف أمي: كم أثبت بنو بلدنا شجاعتهم وشهامتهم وتآزرهم... اجلسي حبيبتي لنأكل معا، سأجلب لك الشربة فهذا "الكسكسي" لا يلائم حنجرتك . أكملي فطورك "ماما" ، سأسكب لنفسي. نفطر و نشرب الشاي ثم أبقى مع يوسف أشاركه مراجعة دروس الفلسفة تشجيعا له فالامتحانات على الأبواب... تطل علينا أمي من حين لآخر حاملة غلالا أو عصيرا وقلبها يستبشر خيرا بهذا التطور الملحوظ الذي منّ به الله على ابنتها. بعد الغروب أصعد إلى السطح... المسرح الأثري والبحيرة بالكاد أراهما... أضواء سيدي بوسعيد تتلألأ في شموخ وتحد. أهمس لنفسي: آآآه يا تونس الغالية، الإناء ينضح بمن فيه، ترى كيف سيكون غدك و الناس هُم الناس، والأعداء يتربصون بك؟" أتنهد بعمق ثم أرفع عيني للسماء هامسة: يا الله قد طال بي العذاب والاغتراب، ولكن قلبي مانفك يبصر أن رعايتك تشملني وأن أنوارك تشرق بي أبدا". ... أحس بتعب شديد فأنزل السلالم وألقي بجسدي على السرير، ثم أنام وكأني لم أنم منذ سنين. يتململ الصباح فاتحا أجفانه فيشرق الضياء على الأرض... أفتح الباب الخارجي، فألمح فجرا مارا بعجلة أمام منزلنا حاملا محفظته، نبتسم سويا للصدفة الجميلة ونتبادل التحية. يوصيني بنفسي، ويعدني بأننا سنكون دوما على اتصال. يسلم ويبتعد، أهمّ بالبكاء لكني أتماسك وأتمعن في خيوط الشمس الحالمة الفرحة وهي تشقّ السحب ثم أرى حمامتين، إحداهما سوداء والأخرى بيضاء تطوفان وتتسابقان، أحيانا تعلو السوداء وتتوارى البيضاء وأحيانا تختفي السوداء وتشرق البيضاء.