بقلم: شكري بن عيسى (*) ثلاثة قيادات ذات وزن ثقيل لكل منها تتخلى عن مسؤوليات عليا كانت تتحملها بالحركة ذات المرجعية الاسلامية ، في ظرف سنة تقريبا، على التوالي رياض الشعيبي وحمادي الجبالي وعبد الحميد الجلاصي، ما ترك حالة من الاستياء والقلق في صفوف الانصار، وخلّف جملة من الاستفهامات لدى الراي العام، عملت في كل مرة قيادة الحركة على التهوين من اثرها وامتصاص الصدمة بالدهاء المألوف حتى لا تحدث الرجة او الانقسام، بعد ان حاولت التستر عليها لمدة قد تطول او تقصر في مرحلة اخيرة، اثر فشل محاولات الاثناء والتراجع في البداية. طبعا قد تختلف الظروف الخاصة للاستعفاء من المهام او الاستقالة من الحركة وقد تختلف الحيثيات المحيطة بها ولكن ما يجدر رفعه ان هذه القيادات تلتقي في انتماءها للصف الاول، والاهم انها تحتل مواقع مختلفة حساسة داخل جسم الحركة، رياض الشعيبي في المجال المضموني، حمادي الجبالي في الامانة العامة، وعبد الحميد الجلاصي في الهيكلة والتنظيم كمنسق عام للحركة في خطة نائب رئيس ومدير الحملة الانتخابية في 2011 و2014، وما يجمع بينهم ايضا هو انتماؤهم لمجموعة قيادات "الداخل"، ما يطرح السؤال المنهجي حول قيادات "الداخل" وقيادات "المهجر"، مع بقية العناصر الاخرى ذات الصلة، في موازنة الحركة وهيكلتها العامة واستقرارها. في ادارة الاحزاب السياسية الجوانب المضمونية والامانة العامة والهيكلة والتنظيم هي ابرز المركبات على الاطلاق داخل الكيان الحزبي، وهي الوظائف المفاتيح داخل الجهاز الحزبي، وهو ما يزيد في طرح التساؤل حول الصلاحيات واليات اتخاذ القرار، وهل ان الامر مركّز في مركز نفوذ واحد بطريقة او باخرى، ما ازعج كل هذه الاطراف خاصة وانها كلها اجمعت على انها لم تجد الاطار المناسب لممارسة سلطاتها لمدة طويلة، والامر يبدو انه اعمق من تعدد هياكل المداولة والقرار داخل الحركة على ما يبدو. الحقيقة ان مسألة وحدة اي تنظيم في الواقع وتماسكه وتناغمه هي قضية دقيقة وحساسة خاصة مع كبر حجم التنظيم وتعدد تمثيلياته الجهوية والمحلية وتعدد هياكل القرار وتشعبها داخله، ومع تصاعد التحديات التي يواجهها في البيئة التي يشتغل داخلها بالنظر الى مهمته ورسالته، والامر ينطبق هنا على النهضة التي وجدت نفسها في ظرف قصير تتحول من السجون والمنافي والتشتت الى التوحد وبناء الحزب والحصول على التاشيرة ثم خوض الانتخابات الاولى والفوز فيها ثم الحكم ثم الخروج من الحكومة ثم الانتخابات الثانية ومواجهة استحقاق تشكيل الحكومة والتموقع في الساحة الوطنية، بما حملته هذه المراحل من اهوال واحوال، يصعب على اكبر التنظيمات اجتيازها دون اثمان قد تكون في الغالب باهضة. صحيح الاوضاع كانت معقدة وحادة ولكن برغم الديمقراطية عموما في خصوص مراجعة القواعد وانتخاب الهياكل واحترام الاجراءات داخل الحركة، الا انها تتضح من حين الى آخر مجرد شكليات اجرائية تخفي وجود اجنحة وشبكات ومراكز نفوذ تتحكم وتهيمن، تكشفها الاستقالات اذا تعددت وتنوعت ومست المناصب الحساسة، جملة من المسائل في الصدد لا يزال يلفها الغموض تتعلق بالتمويل الذي يحتكر مصادره الغنوشي من مشاريع الحركة المتنوعة في الخارج، وما يمثله من نفوذ للرجل خاصة بالارتباط مع جناح "الخارج" الذي يمثل القوة المهيمنة داخل الحركة. في الواقع الحركة تشقها عديد الثنائيات التي انتجها مسارها الطويل المعقّد، على امتداد قرابة الاربعين سنة، مجموعة الداخل/ مجموعة المهجر، مجموعة الجنوب/ مجموعة الشمال، المركزية/ القواعد، الشيوخ / الشباب، الصقور/ الحمائم، هذا زيادة على ثنائية الدعوي/ السياسي، والاخواني/ التونسي، والديني/ المدني، والتنفيذي/ الشورى، وهي ثنائيات بقدر ما خلقت ديناميكية وثراء داخل التنظيم بقدر ما خلقت الاضطراب وانخرام التوازن في كل مرة لا يقع مراعاة الموازنات الكبرى وحقوق الاجنحة وفي كل مرة لا يقع توزيع الصلاحيات بطريقة ديمقراطية حقيقية تراعي التعددية الفعلية والعدالة وتبتعد على مراكز النفوذ والشبكات والاوزان والمحسوبية. اليوم هناك تهميش واضح لمؤسسة الشورى التي صارت مجرد "مطافىء" لا يتم الالتجاء اليها الا عند التأزم ويقع اغراقها بالقضايا المعقدة مع احتكار التنفيذي لاغلب المعطيات والتمشيات، خاصة وان عدد الاعضاء 150 اتضح انه عال جدا ولا يسمح بالتداول السليم، واحد اعضاء "العشرين" العربي القاسمي البارحة الخميس على صفحته في الشبكة الاجتماعية "فايسبوك" اشار الى تهميش المكتب التنفيذي للمؤسسات واحتكار القرار، وحتى تجاوز مقررات الشورى المؤسسة الاعلى، الى حد وصف المتنفذين باوصاف فرعونية، "ما اريكم الا ما ارى"..!! الكثير بالتوازي اليوم داخل الحركة لا يتردد في الاعراب على الانشغال والخوف من "اختطاف" الحركة من شق الغنوشي ومجموعة "المهجر" وايضا الوزن الثقيل لمجموعة "الجنوب" على حساب الشمال والساحل، كما ان العديدين لم يخفوا قلقهم من هيمنة الجناح العقلاني-البرغماتي على حساب الجناح الراديكالي-المبدئي، ويبدو ان موقع "الشيخ" وتحكّمه في العنصر المالي، زيادة على رمزيته داخل الحركة، جعل "المقربين منه" في موقع "الحظوة" سواء القادمين من اوروبا او من عائلته او من مسقط الراس من قابس وما جاورها. الامر يتعلق بالصهر "العزيز" وبناته واولاده الذين لهم موقع "خاص" و"مميز" حتى بدون وظائف رسمية، وراينا كيف ان الجبالي ذاق "المرار" طوال اشهر ديسمبر 2012 وجانفي 2013 والغنوشي لم يقبل برحيل رفيق عبد السلام من حكومة الترويكا التي خلقت التأزم الذي رافقه اغتيال بلعيد الذي ذهب بها، وتم في النهاية هذا الشهر انشاء مركز دراسات استراتيجية للحركة تم ترئيسه عليه، اما المدلل الاكبر فهو زيتون الذي ضجر الجميع وخاصة الجبالي من يده الطائلة ونفوذه الواسع المستمد من راس الهرم، فقد تم اسناده ادارة قناة الت. ن. ن. التي تعيش وضع الهامشية بين الفضائيات التونسية برأس مال غير هيّن. وكانت لمجموعة الجنوب بما فيها الخارج والداخل ايضا الحظوة ابتداء من مقرر عام الدستور وعلي لعريض وابنه هشام واخيه عامر لعريض وحسين الجزيري والصحبي عتيق، وطبعا كان لا بد من الالتقاء خاصة مع مجموعة العقلانية-البراغماتية وعلى راسهم عماد الحمامي وعجمي الوريمي والبحيري ومورو وديلو من الداخل، اما بقية مجموعة النفوذ رئيس مجلس الشورى فتحي العيادي والناطق الرسمي العذاري وبن سالم فكلهم مجموعة الخارج زيادة على منحاهم الجديد نحو البراغماتية التي تعني منطق "التسويات" و"المساومات" و"التوافقات"، التي تطغى عليها "الحسابات"، وتكون فيها القرارات واضحة وجلية معقلها البحث عن السلطة والحكم والانسجام مع البيئة الداخلية الوطنية والخارجية حتى بما تحمله من فساد وانحراف. هذا التوجه او هذا التيار يذكّر الحقيقة بتوجه منظمة التحرير نحو اوسلو، في سنوات التسعينات من القرن الماضي، طبعا مع فارق ان المنظومة القديمة لا يمكن تشبيهها بالكيان الصهيوني من حيث العقيدة، ولكن ما يهم هنا هو قضية "التطبيع" وطغيان منطق "العقلانية" و"البراغماتية" الى حد المغالاة، مسار التسوية الفلسطيني الذي قاد في النهاية الى الاستسلام والى مزيد تغوّل وعنهجية العدو الصهيوني، الذي لم يعط شيئا منذ عشرين سنة سوى تفتيت وشرذمة القضية وخلق التناقضات داخل المقاومة الفلسطينية، لولا صمود حماس والجهاد والجبهة، واتساع الاستيطان وبناء الجدار العازل وخاصة رفع صفة "العنصرية" عن "اسرائيل" في الوثائق والمؤسسات الدولية. لا ندري حقا الى اي حد يتقارب المساران خاصة وان القيادات النهضوية اكلتها النزل الفارهة والصالونات الفاخرة والباتوهات الباهرة والسيارات العريضة، وانعزلت على قواعدها، واتسعت الهوة، وقطعت الى حد مع منطق النضال والمبدئية والقيم، خاصة وانه منذ هروب المخلوع غلّبت الحركة منطق "المصلحة" الانية الضيقة واختارت الخضوع لمستلزمات الواقع واكراهات السلطة وللضغوطات الدولية، ولم تلتزم بالحد الادنى لاستحقاقات الثورة التي تعاملت معها بمنطق التحوّز والغنيمة في اغلب الاحيان، ولا نعلم بالفعل الى اي مدى مستعدة اعلى قيادة الحركة اساسا الغنوشي لخسارة قيادات اخرى لازالت هامشية في التنظيم برغم اوزانها التاريخية، خاصة وان وضع التنازع بين التأقلم والبراغماتية من ناحية ووضع المبدئية من اخرى يتجاذبها وقد تظطر الى نفس مصير الشعيبي او الجبالي او الجلاصي!؟ "الشيخ"، الاشكال هو انه اصبح "ضمانة" في معادلة الحركة ووطنيا بالنسبة للقوى الداخلية والاطراف الدولية، واغلب التفاهمات والاتفاقات تمر عبره، الزعيم التاريخي للحركة، عايش السجون والمنفى، ولكن ايضا "المنظّر" في الحقل السياسي الاسلامي، صاحب المركز المرموق في جبهة علماء المسلمين، والجامع بين التعليم والعيش في الشرق والغرب، هو شخصية مركبة تمثل رمزية ونضالية الحركة ووحدتها وحيويتها، ولكن في المقابل كان لثقله الكبير الذي ارسى "الاستقرار" العامل الهام في جمود الحركة وعدم تجددها، واستمرار منهج "التجربة والخطأ"، ما عطّل ارساء الفكر الاستشرافي والاستراتيجي، وآليات الهيكلة والادارة التي ترسخ الشفافية والديمقراطية بالعمق المطلوب بما يستوعب كل القدرات ويستثمر كل الطاقات. العديد اليوم داخل الحركة الاسلامية يرى للرجل دورا اكبر في الساحة الوطنية والدولية خارج المجال الحزبي الضيق من خلال تجديد الدور الدعوي الثقافي الاجتماعي داخل الحركة الذي جمد على مدى سنوات وفقدت به الحركة ذات الاسس الاسلامية خصوصيتها ومصدر قوتها المركزي ومنبعها الاصيل، خاصة وان كثير من القوى على يمينها ربحت مساحات واسعة بغيابها في هذا المضمار، ونحت منهج الغلوّ والتشدّد، هذا الدور الكبير لا يمنع على "الشيخ" مساهمته في السياسة مباشرة عبر مركز الرئاسة الشرفية (او الروحية) للحركة، ومن خلال رصيده المتميز مع القوى الوطنية والدولية بالتدخل لفض ما يعلق او يتأزم والمساهمة المجدية في الوحدة الوطنية والصداقة والتعاون مع الخارج، زيادة على استعادة مركزه الحقيقي كعالم وداعية على المستوى الدولي.