عاد الحديث بقوّة هذه الأيّام عن القضاء بشكل وضعهُ في فوهة بركان الانقاد اللاذع والتشكيكات الخطيرة حول حقيقة الأداء الّذي تُمارسهُ منذ الثورة إلى حدّ الآن وعلى نحو طرح أسئلة حول حقيقة تخلّيه عن مهمّته المركزيّة والمحوريّة في تطبيق القانون وإنفاذ العدالة في مساواة بين جميع المواطنين. وتزدادُ الأسئلة استعصاء وصعوبة بالنظر إلى تكاثر الأخطاء القضائيّة في التحقيق والأحكام الصادرة والغموض الّذي ما يزال يلفّ التعاطي مع عدد من الملفات، هذه الأخطاء الّتي تزامنت مع دخول البلاد في أزمة سياسيّة خانقة ممّا دفع ببعض المحلّلين عدم استبعاد فرضيّة أن تكون المؤسّسة القضائيّة ، أو على الأقل جانب مهمّ منها ، منخرطة بشكل أو بآخر في تغذية حالة الاحتقان ومزيد توتير الأجواء في البلاد. الخطير في أداء المؤسّسة القضائية أنّ مؤشرات عديدة تدفع إلى القول بأنّ بعض القضاة يُرسلون برسائل سياسيّة للداخل والخارج في تماه غريب-عجيب مع الصراع الحزبي والسياسي الدائر في البلاد في مُحاولة للتأثير والاصطفاف بوجه خاص وراء قوى المُعارضة في معركتها مع السلطة القائمة في ظل احتدام معركتي قانون تحصين الثورة ومشروع الدستور الجديد قبل اغتيال الفقيد محمّد البراهمي وإسقاط الحكومة وحلّ التأسيسي والانقلاب على الأوضاع الآن. القضاء الذي يُخفّض الأحكام ويطلق سراح القتلة وعصابات التخريب والحرق كما يبدو في قضية الاعتداء على السفارة الأمريكية ،هو نفس القضاء الّذي تعامل بشدة مع الصحفي الهاني أو المغني ولد الكانز أو الفتاة أمينة؟ هو نفس القضاء برأ مهندس وعراب الإعلام النوفمبري عبد الوهاب عبد الله ووضعهُ خارج السجن؟. لأنه ببساطة لم يثبت ما يدينه بالتدخل في الإعلام. حاكم التحقيق الذي زجّ بزياد الهاني في السجن حتى قبل استنطاقه، ينتمي لسلك برأ عبد الوهاب عبد الله من قضية تمويلات التجمع رغم أنه كان الوزير الوحيد الذي يضع صفة "عضو الديوان السياسي" في ختمه الرسمي، ورغم أنه كان رئيس لجنة الإعلام في مؤتمر التجمع المنحل .. وحتى في قضية كاكتوس لم يأخذ عميد القضاة بأقوال الرؤساء المديرين العامين الذين أثبتوا تدخله لكاكتوس ... الطريقة الّتي تمّ التعامل بها أوّل أمس السبت مع قضية الصحفي زياد الهاني لم تظهر حالة الارتباك الّتي يعيشها القضاء التونسي من تجاوز لأبسط الإجراءات القانونيّة في ضرورة الاستماع إلى المتهم أوّلا والاطلاع على وجهة نظر لسان الدفاع عنهُ وحالة الارتباك في الإسراع بنقل المتهم إلى سجن المرناقية قبل انتظار قرار استئناف قرار الإيداع في السجن ، هذا القرار الّذي زاد في توريط المؤسّسة القضائيّة عبر التصريح في ساعة متأخرة من مساء نفس اليوم بالإفراج عن الهاني بضمان مالي قدره ألفي دينار، فقط، بل أظهرت أن القضاء قد يكون بات خارج نطاق سيطرة الحكومة الحالية التي وجدت نفسها مثل "شاهد ما شافش حاجة". فهل من مصلحة الحكومة الحالية أن تضيف الى همومها ومتاعبها، سجن صحفي؟ ما هو المغزى من دعوة 3 صحفيين للتحقيق في يوم واحد، والزج بأحدهم في السجن؟ لماذا تصرف القضاء بهدوء في القضية المثارة ضد زياد الهاني، بسبب ادعائه بتورط مدير عام المصالح المختصة السابق محرز الزواري في اغتيال بلعيد، ومسارعة حاكم التحقيق بإيداعه في السجن من أجل " تهجمه" على وكيل الجمهورية طارق شكيوة؟ هل تم إيقاف الهاني، من باب التضامن بين القضاة، أم لتوريط الحكومة في مواجهة مع الصحفيين، بعد زوبعة سفيان بن فرحات في " شمس اف م"؟ هل كان حاكم التحقيق المُباشر للملف خاضعا لضغوطات ؟ أم كان حريصا على تنفيذ تعليمات خارجة عن الاستقلاليّة وبعيدا عن الضمير المهني والأخلاقي الذي كان من المفروض أن يكون مُتحليّا به أم أنّه كان طرفا في جوقة إعلاميّة وحقوقيّة وسياسيّة كانت تبحثُ عن خلق زوبعة في وقت باتت فيه الخطوات سريعة نحو الحوار الوطني وإنهاء الأزمة السياسيّة؟ أم أنّ الرجل كان حريصا على تنفيذ القانون ؟ أم ماذا بالضبط ؟. زياد الهاني لم يسجن لأنه اتهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة بأنه مشعل الحرائق. زياد الهاني لم يسجن لأنه اتهم محمد شمام القيادي النهضوي المقيم في السويد منذ عشرين سنة بأنه المشرف على الأمن الموازي في وزارة الداخلية. زياد الهاني لم يسجن لأنه اتهم مدير عام المصالح المختصة السابق بالتورط في الإرهاب. ولكنه سجن لأنه اتهم وكيل الجمهورية طارق شكيوة بالكذب. هل هذا معقول؟ القضية شابتها إخلالات صريحة تنال من حقوق الدفاع وشروط المحاكمة العادلة وهي إخلالات عدّدها بدقة بيان المرصد التونسي لإستقلال القضاء برئاسة الأستاذ أحمد الرحموني وكذلك بيان جمعية القضاة التونسيين برئاسة الأستاذة كلثوم كنّو ، وحتى قرار دائرة الإتهام الصادر ليلا بالإفراح أكّد غياب عنصر الحيادية في هذه القضية وأنّ التحقيق غير مستقل وأنّ هناك محاكاة واضحة لممارسات قضاء بن علي. والسؤال: لماذا؟ لماذا دفع القضاة بأنفسهم إلى الوقوع في دائرة الانتقاد إن لم يكن الاتهام بالتواطؤ مع جهات مّا ناهيك وأنّ الطرف المقابل في القضيّة ليس هو سوى وكيل الجمهوريّة أو بالانخراط في أجندة سياسيّة مُعارضة هدفت إلى صناعة ضحيّة أخرى لحكومة الإسلاميين ورمز جديد لمعركة "الأحرار والمناضلين" من أجل حريّة الصحافة في عصر الدكتاتوريّة الناشئة وضخّ رصيده بمظلوميّة نفّذها قضاء التعليمات والفساد وتكميم الأفواه ، كما أكّد ذلك القيادي في الجبهة الشعبية المحامي عبد الناصر العويني في إشارته. ما حدث للزميل زياد الهاني، ورغم تحفظنا على كثير من مواقفه وأدواره "المسترابة"، نبهت اليه "الضمير" التي كانت سبّاقة إلى طرح ملف القضاء بين التعليمات والثورة المضادة ودكتاتورية القضاة، وفي تقييمها للحكومة منحت وزير العدل نذير بن عمّو 5 / 20 وهو أقل الأعداد نظرا لما اعترى القطاع الذي يُشرف عليه من التباسات وحالات غموض، ولكن الحكومة لم تتحرك وتوارت وراء شعار استقلالية القضاء، التي ظهرت يوم الافراج عن مقتحمي السفارة الامريكية، وعن كثير من المتهمين في قضايا الارهاب ومنهم مورط في اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي، وايقاف ناشطات "فيمن" وولد الكانز، وإحالة وزراء الثورة على القطب المالي ... وتأكدت اليوم بإيداع زياد الهاني السجن لأنه تطاول على وكيل الجمهورية!! الحكومة تدفع اليوم ثمن تهاونها في إصلاح القضاء، واكتفائها باجراءات سطحية للتطهير وحالة الصمت لدى الحكومة وصنّاع القرار الوطني المستأمنين على الثورة وأهدافها على ما يدور في المؤسسة القضائيّة من غموض والتباس وتشكيك واسع في الداخل والخارج، أكبر دليل على ذلك. فاستقلالية القضاء التي تحدث عنها بن عمّو والبحيري ولعريض ، سقطت في امتحان " زياد الهاني" كما سقطت في امتحانات سابقة لم تستفد منها الترويكا التي وجدت نفسها متهمة بالزج بصحفي في السجن، كما اتهمت سابقا بتشجيع الإرهاب لانها حكمت على مقتحمي السفارة الأمريكية بأحكام مخففة ...