اليوم ينطلق الحوار الوطني تحت رعاية اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين ورابطة حقوق الانسان، وبمشاركة الرؤساء الثلاثة، والأحزاب الممثلة في المجلس التأسيسي، والجبهة الشعبية التي بذلت المستحيل للهروب من طاولة الحوار، ويتوقع كثيرون أن تقدم على حماقات أخطر من ندوة بالطيب العقيلي لفرقعتها. الجلوس على طاولة الحوار أصبح إنجازا في حد ذاته، حتى قبل التوصل الى حلول وفاقية اعتبارا لدقة الظرف الذي مرّت به البلاد في الشهرين الماضيين بعد اغتيال الشهيد محمد البراهمي، وانسحاب المعارضة من المجلس التاسيسي ودعوتها لحله ثم اشتراطها استقالة الحكومة قبل الدخول في الحوار، ودخول أطراف داخلية وخارجية على خط الشحن والتحريض لتكرار السيناريو المصري في تونس. هذا الإنجاز يحسب اولا للمنظمات الراعية للحوار، ولقيادة اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة تحديدا رغم المآخذ على تشددهما في الدعوة لاستقالة الحكومة و" تورطهما" في توجيه اتهام باطل للنهضة بتعطيل الحوار، والنزول للشارع يوم الخميس المنقضي دون مبرر ولا نتيجة تذكر. المنظمات لعبت دورا تاريخيا في منع القطيعة بين مكونات النخبة السياسية، وتخفيض سقف المطالب من هذه الجهة وتلك، فالمعارضة أصرت على حل التاسيسي والحكومة والنهضة اعتبرتا الحكومة خطا احمر قبل ان تتطور المواقف في اتجاه تحييد التاسيسي وقبول جميع الأطراف بحكومة مستقلة لانهاء المرحلة الانتقالية الثانية وتنظيم الانتخابات. ولعل أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي، يعتبر من اكبر المستفيدين من بدء الحوار، لانه جنب المنظمة الوقوع في فخ التصعيد والدفع نحو الهاوية، في ظل اقتناع بعض الجهات بان الاتحاد سيقوم بنفس دور الجيش المصري، وانه سيكون سيسي تونس. وداد بوشماوي تبدو مستفيدة من الدور الذي لعبته في الشهرين الأخيرين حيث أعادت الاعتبار لدور الأعراف كقوة ضغط اجتماعي واقتصادي، وساهم وجودها في الرباعية في تهدئة الأجواء، رغم الأسئلة الكثيرة التي طرحت حول طموحها السياسي، وترشيحها من طرف بعض الأطراف "المثيرة للجدل" لرئاسة الحكومة. اتحاد الشغل أنجز المطلوب وطنيا، بجمعه الأحزاب على نفس الطاولة، وانعكاس ذلك على توازناته الداخلية أمر مفروغ منه، بعد الهزيمة المرة التي مني بها راديكاليوه اليساريون الذين أرادوه " كبش نطيح" للجبهة الشعبية. استفادة الأعراف من دورهم في حل الأزمة تبدو رهينة حرصهم على تجنب الاصطفاف السياسي، واستثمار الوعي بخطورة الظرف الاقتصادي للضغط على جميع الأطراف من اجل حل الخلافات السياسية وتوضيح الرؤى للمرحلة القادمة وكذلك الالتزام بهدنة اجتماعية وسياسية، حتى يستعيد الاقتصاد عافيته في اقرب الأوقات. الإنجاز الهام يحسب أيضاً لحركة النهضة التي واجهت بمفردها شهرين من "النيران الصديقة وغير الصديقة"، بعد ان تركها حليفاها في مواجهة الانقلابيين، ومحاولات الجبهة الشعبية الفاشلة والمتكررة استخدام الشارع، لاسقاط الحكومة، وطرد النهضة من الحكم، تحت شعار "إسقاط منظومة 23 أكتوبر"، رغم انه لم يتحدث احد عن إقالة المرزوقي، وبدرجة اقل بن جعفر، بعد التوافق على الحفاظ على التاسيسي. النهضة استطاعت بفضل ما أظهره رئيسها راشد الغنوشي من رغبة في الوفاق، ودفع في اتجاه التهدئة وتبني خطاب المصالحة، اختراق جبهة المعارضة، وعزل الانقلابيين الذين سقطت جميع أوراقهم في الماء، وفشلوا في حشر النهضة في الزاوية رغم التعبئة الإعلامية والطوق السياسي الذي حاولوا فرضه على النهضة قبل ان يقع اختراقه بلقاء باريس بين رئيس حركة النهضة والباجي قائد السبسي رئيس حركة نداء تونس. النهضة نجحت على جميع الجبهات، خاصة وأنها حافظت على المسار التاسيسي وعلى تواصل عمل الحكومة، وعلى التوافق على انه لا مجال لاقصاء الإسلاميين من المشهد، ولم تستنزف خيار الشارع، بعد استعراض القوة الجماهيرية في القصبة، والذي جعله الحضور الشعبي الواسع وخطاب الغنوشي من اجل الوحدة ورفض تقسيم الشارع، منعرجا حاسما سحب البساط من تحت أقدام الانقلابيين، الذين فوجئوا بأضخم حشد جماهيري منذ الثورة، وخطاب سياسي ناضج، وقد توقعوا خطابا متشنجا، تحريضيا. وتبدو المعارضة التي سايرت الجبهة الشعبية في مسعاها التصعيدي امام فرصة تاريخية، لطي صفحة الخلافات السياسية، وتسريع المفاوضات حول شكل الحكومة وإنهاء المرحلة الانتقالية، والذهاب الى الانتخابات في مناخ مستقر. الأحزاب الكبيرة والشخصيات السياسية وفي مقدمتها الباجي قائد السبسي الذي " تمرد" على إرادة الجبهة اكثر من مرة وخاصة حين رفض حملة "ارحل" مدعوة الى استثمار الأجواء التي تنعقد فيها طاولة الحوار، لتظهر امام الرأي العام كقوى سياسية ناضجة يمكن ان يمنحها الشعب ثقته في الانتخابات القادمة. وتبقى الجبهة الشعبية الطرف الخاسر من مشاركته في الحوار ومن مقاطعته له في نفس الوقت. فالجبهة التي فشلت في إسقاط الحكومة بالشارع فشلت في تعطيل الحوار، وزادته مسرحية العقيلي بالطيب، شقيق سمير بالطيب راس حربة الجبهة، تورطا في الرغبة في تأزيم الوضع السياسي لتجنب التوافق والذهاب للانتخابات. الجبهة في ورطة حقيقية لان التوافق الوطني يمثل اكبر هزيمة لاطروحاتها الأيديولوجية، وأي مسعى ستقوم به لافشاله سيحكم عليها بالعزلة نهائيا وسيجعلها طرفا منبوذا في الساحة السياسية. الجبهة تدرك انها لن تستطيع التعويل على اختطاف القرار داخل اتحاد الشغل، وان اللعب بورقة الاضطرابات والتشويش وإفساد السنة الدراسية والجامعية سيكلفها باهضا، وسيجعلها مجرد تنظيم يساري متطرف فوضوي، لن يقنع احدا بطروحاته التي استفادت الى حد الان من بحث المعارضة عن طريق لتحجيم النهضة مهما كان الثمن. بداية الحوار ستضع الجميع تحت المجهر، وستكشف الأطراف التي لا تريد الوفاق وتخشى الانتخابات، لذلك يمكن اعتبار انطلاقته الرسمية اليوم رغم المخاوف من التعثر، ومن عودة البعض لأسلوب الابتزاز السياسي ، حدثا بارزا، وخطوة نحو الامام، لن تقلل من أهميتها "خزعبلات " الجبهة الشعبية ورهانات حكومة الظل على "طارئ" يعيد خلط الأوراق من جديد.