ذهاب نهائي ابطال افريقيا.. التشكيلة الاساسية للترجي والاهلي    قريبا: اقتناء 18 عربة قطار جديدة لشبكة تونس البحرية    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    منوبة: الاحتفاظ بصاحب كشك ومزوّده من أجل بيع حلوى تسبّبت في تسمم 11 تلميذا    مديرو بنوك تونسية يعربون عن استعدادهم للمساهمة في تمويل المبادرات التعليمية في تونس    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    الهيئة الإدارية للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس تدعو إلى عقد مجلس وطني للمنظمة خلال سبتمبر القادم    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    تسمّم تلاميذ بالحلوى: الإحتفاظ ببائع فواكه جافّة    افتتاح معرض «تونس الأعماق» للفنان عزالدين البراري...لوحات عن المشاهد والأحياء التونسية والعادات والمناسبات    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    مصر: رفع اسم أبوتريكة من قائمات الإرهاب والمنع من السفر    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    سبيطلة : القبض على مجرمين خطيرين    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    قابس: نقل 15 من تلاميذ المدرسة الاعدادية ابن رشد بغنوش بعد شعورهم بالاختناق والإغماء    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    كرة اليد: الاصابة تحرم النادي الإفريقي من خدمات ركائز الفريق في مواجهة مكارم المهدية    صفاقس اليوم بيع تذاكر لقاء كأس تونس بين ساقية الداير والبنزرتي    عاجل/ القصرين: توقف الدروس بهذا المعهد بعد طعن موظّف بسكّين امام المؤسسة    تحذير: عواصف شمسية قوية قد تضرب الأرض قريبا    المنستير: إحداث أوّل شركة أهليّة محليّة لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    مدير عام الغابات: إستراتيجيتنا متكاملة للتّوقي من الحرائق    بنزرت: جلسة عمل حول الاستعدادات للامتحانات الوطنية بأوتيك    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    الحماية المدنية: 8 وفيّات و 411 مصاب خلال ال 24 ساعة الفارطة    ليبيا: إختفاء نائب بالبرلمان.. والسلطات تحقّق    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    والدان يرميان أبنائهما في الشارع!!    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    إنقاذ طفل من والدته بعد ان كانت تعتزم تخديره لاستخراج أعضاءه وبيعها!!    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    مدرب الاهلي المصري: الترجي تطور كثيرا وننتظر مباراة مثيرة في ظل تقارب مستوى الفريقين    الكاف: انطلاق فعاليات الدورة 34 لمهرجان ميو السنوي    منوبة: إصدار بطاقتي إيداع في حق صاحب مجزرة ومساعده من أجل مخالفة التراتيب الصحية    كاس تونس لكرة القدم - نتائج الدفعة الاولى لمباريات الدور ثمن النهائي    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    تضمّنت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرًا في صناعة السينما العربية    معلم تاريخي يتحول إلى وكر للمنحرفين ما القصة ؟    غدا..دخول المتاحف سيكون مجانا..    البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يدعم انتاج الطاقة الشمسية في تونس    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    التحدي القاتل.. رقاقة بطاطا حارة تقتل مراهقاً أميركياً    منها الشيا والبطيخ.. 5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



برنامج للتنمية ومشروع للإصلاح التربوي
مساهمة الاتحاد في بناء الدولة الجديدة: أعدّه: محمد الهادي الأخزوري
نشر في الشعب يوم 23 - 01 - 2010

نعود مرّة أخرى إلى الندوة الوطنية حول: الحركة النقابية خلال الفترة 1952 1956، التي انعقدت أيّام 7 و8 و9 ديسمبر 2009 وحضرها جمهور غفير من المهتمين وذلك بالنظر إلى أهمية المسائل التي طرحت فيها وخاصة منها اطلاع النقابيين على التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي تمّ إعداده بعد اغتيال حشاد باعتباره الوثيقة الأولى التي بنيت عليها الأسس الأولى للتنمية في البلاد التونسية والإلمام بدوافع إنجازه والوقوف على مضمونه وتأثيراته، وعموما التوثيق لهذه التجربة على قاعدة التعمّق في تاريخ الإتحاد والتفكير الجاد في بعث متحف للحركة النقابية إلى جانب التفكير في معهد للثقافة العمّالية وبرامج استشرافية.
وقد شارك في أشغال الندوة من الجانب العلمي الأستاذان، علي المحجوبي أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية والعميد سابقا الذي اهتمّ بالتاريخ المعاصر وقضايا التحرّر الوطني وصاحب عديد المؤلفات في هذا المجال، ومحمود طرشونة أستاذ الادب الحديث بالجامعة التونسية.
وفي مداخلته، توقّف الأستاذ علي المحجوبي عند العوامل التي ساعدت على تأسيس الاتحاد ومنها:
1 التأثير الناجم عن تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين الأولى.
2 نمو الحس الوطني في صفوف الشغالين.
3 بداية انقشاع الأزمة الاقتصادية التي عرفتها البلاد خلال الفترة 1936 1944 جرّاء انخفاض المردود الزراعي إلى حدّ تأثرت معه بصفة بالغة القدرة الشرائية للتونسيين كما أبرز المحاضر المبادئ التي انبنت عليها المنظمة منذ بداياتها والمتمثلة في:
1 النضال الاجتماعي بالدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية للشغالين.
2 استقلالية النقابة عن أصحاب العمل والدولة والأحزاب السياسية، وقد تواصل هذا التوجّه إلى حدود 1949 حيث تغيّرت نسبيا نظرة حشاد فأصبح مقتنعا بأنّ الإستعمار هو العامل الأساسي لتدهور وضع الشغالين فركّز خلال السنوات الثلاث الأخيرة على النضال الوطني ولعبت منظمته دورا هاما في تنظيم المقاومة المسلحة. في وقت أصبح فيه الاتحاد جماهيريا أكثر من الحزب الحرّ الجديد بحكم تعرّض قياداته إلى الأبعاد والسجون.
وفي هذه الظرفية انخرط الاتحاد في الجامعة الدولية للنقابات الحرّة (السيزل) بناء على قرار مؤتمر مارس 1951 ووظّف هذا الانخراط لدعم القضية الوطنية وقضايا التحرّر الوطني عن طريق ممثله فيها الأستاذ أحمد بن صالح، وقد أفاد هذا الأخير من المدّة التي قضّاها في »بروكسيل« بتلقّي تكوين متين في مجال بناء النقابات وآليات التفاوض والاقتصاد السياسي وأسس التنمية، وعموما انبنى تفكيره على العلاقة القائمة بين التنمية الاقتصادية والرقي الاجتماعي وأهمية أن يدعم النقابات حزب له مشروع مجتمعي على غرار التجربة السويدية التي كانت تقوم على العلاقة العضوية بين النقابة والحزب الديمقراطي الاشتراكي، كما اقتنع أيضا بأهمية النظام التعاقدي في الاقتصاد الرأسمالي لإرساء التوازن الاجتماعي وتكريس مصالح جميع الطبقات.
وبعد اغتيال حشاد بسنتين عاد الرجل بهذا الزاد الى تونس لإعداد المؤتمر الخامس (جويلية 1954) وتزامن ترشيحه على رأس الاتحاد بإلقائه خطابا أمام الباي أقرّ فيه باستقلال تونس، ممّا دعا الاتحاد العام التونسي للشغل إلى تكوين لجنة لإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي ترأسها أمينه العام أحمد بن صالح استعدادا لوضع محتوى ومضمون تنموي لاستقلال البلاد، وصادق المؤتمر السادس للإتحاد المنعقد خلال الفترة 20 23 سبتمبر سنة 1956 على هذا البرنامج الذي تمّ عرض مضمونه على مؤتمر الحزب بصفاقس المنعقد في منتصف نوفمبر 1955 فتبنّاه مشروعا مجتمعيا لبناء الدولة الحديثة في إطار جبهة قومية قوامها إلى جانب الحزب الحر الدستوري الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد القومي للفلاحين، ودُعي الزعيم أحمد بن صالح صاحب المشروع سنة 1961 لتولّي وزارة التخطيط بعد أن تبيّن لبورڤيبة عجز البورجوازية التونسية عن تحقيق الطبقة البورجوازية للتنمية وضرورة تولّي الدولة لهذه المهمّة، فعمل الرجل انطلاقا من البرنامج الاقتصادي والاجتماعي على تحديث الاقتصاد التونسي وتحقيق استقلال البلاد اقتصاديا عن فرنسا فتمّت تونسة أراضي المعمرين بتاريخ 12 ماي 1964 كإجراء مكمّل للجلاء السياسي وأحدثت في 35٪ منها تعاضديات إنتاج في إطار القضاء على تشتّت الملكية الزراعية وتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، واستهدف التخطيط القضاء على التفاوت الاجتماعي والتفاوت الجهوي ببعث كثير من الصناعات في عديد الجهات (الفولاذ ببنزرت، الفسفاط بالقصرين، معمل السكر بباجة، النسيج بقصر هلال، الحامض الفسفوري بڤابس... الخ) فضلا عن إحداث موانئ بكثير من المدن الساحلية وإرساء التنظيم العائلي حتى لا تفوق نسبة النمو الديمغرافي نسبة النمو الاقتصادي وإحداث صناديق الضمان الاجتماعي.
إلاّ أنّ هذه التجربة واكبتها سنوات جفاف من ناحية وعراقيل مفتعلة وموضوعية ممّا جعل الرئيس بورڤيبة يلتفّ عليها للإنخراط سنة 1970 في الليبرالية الاقتصادية، ومع ذلك فإنّ إنجازات الستينات بدأت تعطي أكلها خلال السبعينات وتواصلت نتائجها إلى اليوم من خلال المد التعليمي كجزء من البرنامج الاجتماعي للإتحاد الذي تمّ تطبيقه خلال فترة تطبيق المخطط.
وتعقيبا على مداخلة الأستاذ المحجوبي اعتبر الأستاذ محمد الحبيب العزيز أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية بأنّ العمل النقابي هو الوجه الاجتماعي للحركة الوطنية، حيث أصبح الاتحاد أيضا منظمة محورية في بناء الاستقلال وبناء التنمية كما كان مؤسسه فرحات حشاد شخصية محورية أثناء النضال الوطني بين الاتحاد والمنظمات وبين الاتحاد والحزب وبين الاتحاد والعائلة المالكة.
وإثراء للمداخلتين توقّف المشاركون بصفة دقيقة حول الأحداث التي تلت اغتيال حشاد وحتى إمضاء اتفاقيات الاستقلال الداخلي والتي لعب فيها الاتحاد دورا مؤثرا في مختلف محطّات هذا المسار.
من أجل تربية وطنية
أمّا القسم الاجتماعي للتقرير فقد تمّ تناوله من خلال منفّذه الزعيم النقابي والمربّي الأستاذ محمود المسعدي في مداخلة لأستاذ الأدب الحديث بالجامعة التونسية الدكتور محمود طرشونة، خاصة وأنّ برنامج التعليم الذي طبقه المسعدي سبق من حيث الإعداد البرنامج الاقتصادي حيث تبنّاه الاتحاد في مؤتمره الرابع المنعقد سنة 1951.
فقد شخّص محمود المسعدي أوضاع التعليم في عهد الحماية في مقال نشره سنة 1947 في مجلة »المباحث« بعنوان »مشاكلنا الحاضرة في التعليم«. ويظهر من هذا التشخيص أنّ التعليم كان مشتّتا بين أصناف مختلفة من المؤسسات التعليمية لا يوحد بينها شيء، يزداد بعضها أو يتقلّص أو يُحوّر بحسب ضغوط الأهالي والمثقفين على الإدارة الفرنسية لكن دون أن تحيد عن جملة من الثوابت تهدف بالخصوص إلى طمس الشخصية الوطنية وفرض لغة المستعمر وثقافته فضلا عن عدم تمكين جميع الأطفال في سن الدراسة من دخول المدارس.
وقد بَدَا الوضع التعليمي في الأربعينات مُتردّيا وبَدَت محاولات إصلاحه محدودة لأنّها لا تخرج عن الثوابت التي رسمها الاستعمار لترسيخ أقدامه في البلاد:
تعليم عصري مزدوج اللغة نسبيا في المعهد الصادقي الموروث عن مؤسّسه خير الدين التونسي الذي كان يهدف حسب المسعدي »إلى إحياء الثقافة العربية الإسلامية وتلقيحها بالعلوم العصرية وطرق البحث العلمية الحديثة«.
وكان للصادقيّة شهادتها الخاصة هي شهادة »انتهاء الدراسة الثانوية بالمدرسة الصادقية«. وكان الإقبال عليها كبيرا الاّ أنّ طاقة استيعابها كانت محدودة جدّا. وقد تدخلت فرنسا في لغة التعليم بها فجعلتها بالفرنسية مع ساعات محدودة للغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي وجلعتها تُعدّ التلامذة إلى امتحان الباكالوريا على غرار معهد كَارْنُو الفرنسي الصرّف حيث تدرّس العربية الدارجة اختياريا ضمن اللغات الأجنبية كالانڤليزية والايطالية »وهكذا قُضي على فكرة خيرالدين«.
وفي مقابل هذا التعليم العصري كانت توجد الكتاتيب والمدارس القرآنية والتعليم الزيتوني التقليدي »وكلّها مؤسسات لم يدخلها من الروح العصرية شيء« كما يقول المسعدي.
وبين هذين النظامين كان يوجد معهد الخلدونية الذي أسسه البشير صفر، ومعهد ابن خلدون الخاص. ثمّ أنشأت الحماية تحت ضغط الأولياء »مدرسة ثانوية على شاكلة الصادقية« ومدرسة ترشيح معلمات العربية على غرار مدرسة ترشيح المعلمين، ومعهد »إميل لوبي« للتعليم التقني وجملة من مراكز التعليم الصناعي والمهني. ولكن المدارس الابتدائية التي أُنشئت على شاكلة المدارس الفرنسية لم تكن قادرة على استيعاب الثمانمائة ألف طفل تونسي الذين تتراوح أعمارهم بين سنّ الخامسة والعشرين. فلم يتمكّن من الإلتحاق بها غير أربعين ألف تلميذ، وللإستجابة إلى مطلب وطني في تعميم التعليم الابتدائي وُضع في الثلاثينات برنامج ينصّ على ثلاث سنوات تحضيرية تُفضي إمّا إلى تعليم ابتدائي حقيقي بالنسبة إلى أنجب التلامذة أو إلى تعليم يدوي تطبيقي كالفلاحة مثلا يقوم به »عمّال أكفاء«. وقد اثار هذا البرنامج ضجّة أجبرت الحماية على سحبه ورحل صاحبه. وفي الأربعينات اقترح مشروع ثانٍ للخروج من الأزمة لا يعمد إلى الزيادة في المدارس الابتدائية كما يطالب به الأولياء بل عمد إلى احداث »مراكز التعليم الصناعي والمهني«. وهذا يختلف عن المطلب الوطني المطالب بتخريج المثقفين والتخلّص من هيمنة اللغة الفرنسية. وفي كلّ مرّة تتظاهر الإدارة بالاستجابة، فتحدث مثلا باكالوريا عربية في الخلدونية ولكن المسعدي يعتبرها مزيّفة إذ ليس لها من العربية غير الإسم، كما أنشأت »معهد الدراسات العليا« متفرّعا عن جامعة باريس وجعلت فيه إجازة بالعربية من ضمن إجازاته الأربع. وقد تبيّن أنّ كلّ هذه الإصلاحات كانت تهدف إلى امتصاص غضب الشعب لكن مع المحافظة على الثوابت المتمثلة أساسا في »سياسة الاندماج الثقافي« و»التجنيس الذهني« رغم ادّعاء القيام برسالة لنشر الحضارة والتمدّن.
وهذا بالذات ما أثار غضب نقابتي التعليم الابتدائي والثانوي فأصدرتا لائحة في الموضوع تنتقد تطويل التعليم الابتدائي تطويلا يمنع من وصول جلّ التلاميذ إلى الثانوي.
أمّا التعليم الزيتوني فيبدو أنّ إدارة الحماية كانت تشجع عليه إذ أحدثت ما لا يقلّ عن ثلاثة وعشرين فرعا لجامعة الزيتونة مبثوثة في مختلف جهات الإيالة. ويبدو حسب تحليل المسعدي أنّ الاستعمار كان يهدف من وراء ذلك إلى إظهار ضعف التعليم الزيتوني وحثّ الناس على الأخذ بلغة فرنسا وثقافتها وعلومها.
»وكان التعليم الزيتوني يغلب عليه تعليم النحو والصرف والبلاغة وتعليم الفقه، وأقلُّ شيء كان فيه هو ما يربط بالعبادات ممّا له صلة بالإيمان. وقد بقيت أمورا شكلية إذ أكثر ما يدرس من عبادات قواعد الصلاة والصوم والزكاة وغيرها دون التفات إلى الروح التي هي وراء كلّ ذلك، والتي هي أساس الثقافة الدينية [...] وكذلك [لم يلتفت] إلى العلوم الصحيحة فكان [الاستعمار] يفضّل أن يشجّع هذا النوع من التعليم الذي ليس له من القوّة التي تخلق المستقبل بل فيه محافظة على الماضي ووقوف عند ذلك الحدّ.
ولهذه الأسباب اهتمّ المسعدي بإصلاح التعليم الزيتوني وجعله ضمن أولويّاته بعد الاستقلال كما سنرى.
ذلك إذن هو المشهد التربوي في عهد الحماية الفرنسية، فيه من الثغرات والنقائص ما يدفع الأولياء والمربين إلى مقاومته بكل الوسائل وقد اختار المسعدي العمل النقابي للرفع من شأن التربية والمربّين، فانخرط في الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1948 أي بُعيْد تأسيسه، وترأس الجامعة القومية لنقابات التعليم وكانت تضمّ نقابة التعليم الابتدائي القوية بكثرة منخرطيها، ونقابة التعليم الثانوي الضعيفة بقلّة الأساتذة التونسيين في ذلك الوقت، كما كان عضو اللجنة التنفيذية للأمانة المهنية العالمية للتعليم (1951 1955). وقد ترأس يوم اغتيال فرحات في 5 ديسمبر 1952 بصفته النائب الثاني للأمين العام للإتحاد في غياب النائب الأوّل النوري البودالي الموجود في مهمّة بالخارج ولكن تولّيه الأمانة العامة لم يدم أكثر من يوم واحد إذ اعتقلته الشرطة الفرنسية وأبعدته إلى برج النعام بالجنوب التونسي ولم تفرج عنه إلاّ بتدخل من »السيزل« في ماي 1953 للمشاركة في مؤتمرها »بستوكهولم« كما هو معلوم.
وينبغي أن نلاحظ أنّ العمل النقابي في مجال التعليم لم يكن يهدف إلى تحسين الأجور والرفع من القدرة الشرائية كما هي الحال بعد ذلك بل إلى الدفاع عن حقّ التونسيين في التعليم من جهة، وتعصير التعليم الموجود في تلك الفترة وإصلاح برامجه تأصيلا لكيان تونس وتجذيرها في ثقافتها العربية الإسلامية وتخليصها من محاولات طمس هويّتها وفرض التجنيس الذهني عليها عن طريق فرض اللغة الفرنسية في تدريس جميع الموادّ. ولاشك أن أحوج المؤسسات التعليمية إلى التعصير والإصلاح كان بلا شك التعليم الزيتوني. وهناك شهادة للمسعدي تثبت اهتمام الاتحاد العام التونسي للشغل بهذا التعصير ومشاركة المسعدي في اللجان المكوّنة لهذا الغرض. يقول: »فكنّا في ذلك الوقت إذن نحاول أن نخرج بالتعليم من حالته تلك، فشاركت شخصيا بصفتي مدرّسا في أعمال لجان الاتحاد العام التونسي للشغل التي أُحْدثت مرّتين أو ثلاثا لتعصير التعليم الزيتوني فوضعنا برامج لإحداث مدرسة خاصة بالتعليم العصري واستعنّا بإخوان مدرسين كالأستاذ أحمد الفاني في الفيزياء والكيمياء والأستاذ عبد السلام الكناني والأستاذ بشير قوشة وغيرهم ليقوموا بالتدريس في ذلك القسم العصري من التعليم الزيتوني باللغة العربية«.
ويقول أيضا بخصوص السعي إلى إدراج الأدب العربي في برامج الصادقية وتدريسه بطرق عصرية:« كنت أريد في الوقت الذي فرضنا فيه على الاستعمار إدخال برنامج تدريس الآداب العربية في المدرسة الصادقية تدريسا يضاهي التدريس الذي كان يقوم به الفرنسيون للآداب الفرنسية«.
ديمقراطية التعليم وإصلاحه
بعد المسلك النقابي قبل الاستقلال كان المسلك الحكومي بعده فرصة لتطبيق الإصلاحات التي دعا إليها المسعدي في لوائح اتحاد الشغل وبرامجه. والمدّة التي قضّاها مديرا للتعليم الثانوي بوزارة المعارف ومتفقّدا عامّا للتعليم الثانوي (1955 1958) مكّنته من معرفة قضايا التعليم من الداخل ويسّرت له لمّا تولّى وزارة التربية القومية من 1958 إلى 1968 التفكير في مشروع »الإصلاح التربوي« و»التخطيط العشري« لإصلاح التعليم وتعميمه بالتدريج وكذلك من تأسيس نواة الجامعة التونسية سنة 1960 في نطاق تنظيم هيكلي للتعليم يشمل المستويات الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي. وقد حافظ على نفس الأهداف التي عمل على تحقيقها في إطار الإتحاد وهي تأسيس تربية قومية تونسية بالمعنى الصحيح « تُولي أهمّية للّغة العربية كردّ فعل طبيعي على إرادة طمسها وقت الحماية مع التفتّح على علوم العصر وثقافاته:« وكان من حظّي أن كُلّفت بوزارة التعليم فوضعت ما سمّيناه »البرنامج القومي للتعليم التونسي« ويتضمّن المحافظة أساسا على عنصري ثقافتنا القومية: الإسلام والعريبة لكن مع تفتّح كامل على الحضارة العصرية والثقافة الإنسانية«. أمّا التشتّت الذي سبق تشخيصُه فقد اقتضى »توحيد نظام المؤسسات التربوية ومناهج التعليم فيها »والقصد من ذ لك بالطبع هو إصلاح التعليم الزيتوني وإدماجه في صلب التعليم الوطني. وتتمثّل الغاية الثالثة في ديمقراطية التعليم أي جعله في متناول كلّ طفل تونسي بلغ سنّ الدراسة. وهو لم يكن بالأمر الهيّن نظرا إلى نقص إطار التدريس وغياب البنية التحتية الأساسية. وقد تضمّن التخطيط العشري إدماج 000.65 طفل سنويّا لاستيعاب ما يقارب السبعمائة ألف تلميذ في نهاية المخطّط. وكان الشعب التونسي في نهاية الخمسينات حديث عهد بالحركة الوطنية وبالإستقلال فكان شديد التحمّس للتطوّع ببناء المدارس في الأرياف خاصة. وقد دُعي في وقت من الأوقات إلى التوقّف عن البناء بسبب نقص المعلّمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.