اهتم الدارسون المحدثون بموضوع الاختلاف وخصّوه بنظريات وأبحاث متعددة لإتجاهات، فأكدت الدراسات »البنيوية« وما »بعد البنيوية« أن الاختلاف الديني والعرقي واللوني والجنسي وغيرها من صور الاختلاف ليست ظواهر معزولة بضعها عن بعض بل هي وليدة البنية الثقافية والايديولوجية والسياق التاريخي والاجتماعي الذي نشأ فيه، وقد إهتمت دراسات ما بعد البنيوية اكثر من غيرها بتحديد البنية الثقافية وكشف جملة العلاقات الداخلية التي تحددها معتمدة في ذلك على الابحاث التي أتت بها التاريخية الجديدة وخاصة أعمال »ميشال فوكو«. واعتبر المنضوون تحت هذا الاتجاه ان الاختلاف بين الجنسين والاختلاف العمري يمثلان أهم أنواع الاختلاف نظرا لارتباطهما الوثيق بواقع الحياة اليومية وتأثيرهما في نسيج العلاقات التبادلية. وقد أفادت الدراسات الانتروبولوجية والدراسات النسائية والدراسات الجندرية من هذه الابحاث وارتأت تفكيك البنية الثقافية للمجتمع للتوصل الى فهم ظاهرة الاختلاف. لقد سارت هذه الدراسات على خلاف المجتمعات التي أكدت على أهمية الوحدة والتكتّل والانسجام في مختلف المجالات من اللغة الى الدين الى منظومة القيم والسلوك والتصورات التي تشكل الثقافة لذلك فإن العلوم الانسانية الحديثة مثل »الاتنوغرافيا« و»الأنتروبولوجيا« و»علم الاجتماع الوظيفي« لم تتردّد في إعتبار هذا التجانس مزعوم وهو لا يتعدى الظاهر ورأت أن الاختلاف يمثل القاعدة التي بنيت عليها الثقافات، في حين عمد اصحاب السلطة الفعلية من ساسة وعلماء ورجال دين وغيرهم إلى تبرير النظام الاجتماعي القائم، وبذلك توصلت الثقافة السائدة الى انتاج ايديولوجيتها التي تشرع التمييز وتدافع عنه بدعوى انه يخدم مصلحة الجماعة ويحقق اهدافها وانسجامها. تبدو مظاهر الاختلاف مستقلة في الظاهر ولكنها متصلة ببعضها البعض اتصالا وثيقا بل وفي كثير من الحالات تخضع للمنطق نفسه وتتحكم فيها الآليات نفسها لتنتج المواقف المتشابهة ان لم نقل المتماثلة، فنجد نزوعا سلطويا اقصائيا مثل الاستعلاء والاستنقاص والاعتراف والتهميش والتعالي والهيمنة والخضوع وغيره. ان المجتمع هو الذي يثبّت علامات الاختلاف بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل ولعل مسلك رفض المختلف يكاد يكون هو نفسه في جميع صور الاختلاف. لقد ألحّت الدراسات الجندريّة على تنزيل الاختلاف في اطار رؤية اكبر تتمثل في النظر في طريقة تشكيل الثقافة للفرد ونحتها لشخصيته حتى يعكس الانموذج المرغوب فيه، وهذا يعني ان دراسة ظاهرة الاختلاف تقتضي تحليل بنية المجتمع فهي التي تسمح لنا بفهم أسباب الاختلاف وتبين منطقه الداخلي وهو ما قام به فلاسفة الاختلاف في الغرب مثل نيتشه، هايدغير، جيل دولوز. وجاك داريد، وليوتار من خلال كشفهم النقاب عن تعقد مفهوم الاختلاف وثرائه وعلاقته بمفاهيم أخرى. وقد نسج الدراسون العرب على منوال غيرهم فانشغلوا بموضوع الاختلاف وخصوصا بمعالجة الاختلاف الديني والاختلاف المذهبي والاختلاف الثقافي، في حين ظلت ضروب أخرى من الاختلاف مهمشة وخارج دائرة الإهتمام. وتبقى من أهمّ ضروب الاختلاف التي انشغل بها الباحثون العرب هي دراسة الاختلاف بين الجنسين بين المرأة والرجل التي نمت وازدهرت بفضل التيّارات النسوية المتعددة التي اهتمت بتحليل بنية المجتمع »البطريركية« وإبراز مظاهر التمييز بين الرجل والمرأة، كما انها ناضلت في ذات الوقت من اجل القضاء على اللامساواة بين الجنسين. لقد شهد القرن التاسع عشر تعدد الاختصاصات وخضوعها لمنطق التفريع (الفروع)، ومن ثمة عملت الدراسات النسوية على بعث اختصاصات جديدة تتخذ من قضية المرأة وعلاقتها بالمجتمع والرجل مواضيع بحث معمّق فظهر التاريخ النسائي وقد أكدت الباحثات المؤسسات لهذا الاختصاص ان هناك تمييزا ضد النساء في كتابة التاريخ اذ عمد المؤرخون الى طمس عدة احداث تخص مشاركة المرأة في الحياة اليومية أو في المجالات السياسية أو العلمية الى غير ذلك من وجوه التعتيم ومن ثمّة طرحنّ على أنفسهنّ مهمة اعادة النظر في كتابة التاريخ. يرجع الفضل الى »روبرت ستولر« في تحليل طريقة تشكل الذكورة والانوثة وهو أول الباحثين الذين دعوا الى الفصل بين الجنس والجندر. وقد ولد مصطلح الجندر من رحم الدراسات النسوية حيث رأت مجموعة من الباحثات ولاسيما في التاريخ وعلم الاجتماع ان التركيز على تحليل قضية المرأة قد يؤدي الى تهميش دور الباحثات ويقلل من فرص مشاركتهن الاكاديمية، فاعتبرت (الباحثات) ان العامل الاساسي الذي يؤدي دورا حيويا في انتاج مفاهيم تميز بين فئة وأخرى هو المجتمع الذي يعمل وفق أنماط تعرف بأنها »رجوليّة« ولكنها لا تعبر في الواقع عن جميع الرجال ولا عن جميع النساء بداهة، وفق هذا الطرح يصبح الرجل أيضا ضحية مجتمع يكبّله بتعريف نموذجي عن الذكورة مثلما يقيّد المرأة بتعريفات للأنوثة المثلى. لذلك رأينّ أنّه يتعين على الباحث النظر في التشكيل الثقافي والاجتماعي الذي يخضع له الفرد ليكتسب صفات تدرجه في خانة الذكورة أو الانوثة وهي صفات متغيرة تاريخيا وتختلف من مجتمع الى آخر، كما أوضحت ذلك الدراسات ويتم ذلك عبر الثقافة. إنّ »الجندرة« تصبح بذلك عاملا من العوامل المنتجة »للامساواة« ويسمح لنا تفكيك بنيته بإدراك ان الاختلاف بين المرأة والرجل لا يرتبط بالفروق »البيولوجيّة« إنما هو نتاج ممارسة ثقافية واجتماعية وسياسية. وقد جاءت الدراسات الجندرية تلبية لحاجة موجودة بالفعل في الاوساط العلمية »الانجلوسكسونية« منذ اواخر الستينيات، وقد شهدت تطورا كبيرا سنة 1970 أدى الى ظهور اختصاصات عديدة مثل »انتربولوجيا الجندر«، و»سوسيولوجيا الجندر« و»تاريخ الجندر«. إن دراسة »الجندر« قد ساهمت بشكل كبير في اضاءة البحث في واقع النساء والرجال معا، ولعل النجاح الكبير الذي احرزته الحركة النسوية تمثّل في زعزعة مفهوم الأنوثة وموقع المرأة داخل التركيبة الاجتماعية. وللتذكير فإن ارهاصات الاهتمام بدراسة الاختلاف بين الجنسين قد انطلقت مع »سيمون دي بوفوار« وحاولت الدارسات الفرنسيات النهل من النظريات و»الانجلوسكسيونية«، فاهتمت بدراسة العلاقات الجندريّة القائمة على الهيمنة، و»بناء الانوثة« وبدا لهن ان هوية المرأة هوية مفروضة عليها باعتبار انها ملزمة بالتشبث بصفات حددها المجتمع الذكوري. ولئن اهتمت الدارسات الامريكيات والبريطانيات بالحياة اليومية للنساء وبنظام العلاقات بين الجنسين وبأسباب اقصاء النساء من الحقل السياسي وألحت على الثالوث: الجندر الطبقة العرق، فإن الباحثات الفرنسيات ركّزن جهودهنّ على تفكيك بنية الخطاب الذي يصاغ حول المرأة وعلى دراسة نظام اللغة في محاولة منهنّ للإنفلات من »المركزية القضيبيّة« ومن القوانين التي حددها المجتمع الذكوري وقد رأت المنتميات الى هذا التيار انه قد آن الآوان لتحويل النساء من الهامش الى المركز، واعادة النظر في بنية الازواج المتقابلة: الذكورة / الانوثة، الداخل / الخارج، الخاص / العام، الطبيعة / الثقافة. وقد استفاد الدارسون الغربيون من الحركة المعرفية التي وفرتها الدراسات في مجالات مختلفة (الدراسات التاريخية، والثقافية ودراسة الأقليات والمهمشين والانتروبولوجية وعلم النفس وعلم الاجتماع الاتنوغرافية). واستطاعت النجاحات التي حققتها الحركة النسوية خلخلة الواقع الذكوري اجتماعيا وثقافيا ودعت الى اعادة النظر في اسس التنشئة الاجتماعية وتوزيع الأدوار ونظام التنقّلات، فالمجتمعات الحديثة لا تقوم على الدعائم نفسها التي انبنت عليها المجتمعات القديمة فليست ثمة أدوار ثابتة وحدود صارمة بين الجنسين كما يزعم البعض، بل نحن ازاء حالة من »التشويش الجندري« و»اضطراب الهويات الجنسية« وهكذا تتهاوى الانوثة والذكورة وتتصدع النماذج ويكون الفرد في حاجة الى تأسيس هوية جندرية جديدة، ومن الزاوية كان الإلتقاء بين المنضوين تحت هذا الاتجاه وبين »حركة المثلييّن« لتظهر الدراسات المثلية التي عملت بدورها على تفكيك بنية المجتمع وابراز أشكال هيمنة الرجل على الرجل والتراتبيّة الموجودة داخل مجتمع الرجال. ❊ استفدنا من دروس الاستاذة آمال الڤرامي.