الجيوش الأمريكية تحتل أرض الرافدين وتقتل شعبها وتنهب خيراتها... مئات آلاف الجنود والمرتزقة الأمريكيون في أطراف الدنيا لترويع شعب آمن... ولكن لا وجود لأخبار تتعلق بهذا الأمر على صفحات الجرائد اليوميّة الأمريكية برغم أن العراق كان يعيش وقتها على وقع ما سميّ بانتخاباته الديمقراطية التي ترعاها حكومة السيد أوباما... فقط مربّع صغير ببعض الجمل في احدى الصفحات الداخليّة لبعض الصحف أو جمل قصيرة يقرؤها مذيع الأخبار التلفزية في ثوان، »لا مجال لإهتمام الأمريكي بغير شؤونه المباشرة إذ لا يتوقع المواطن هنا من حكومته ان تتفرّد بصنع القرار، بل إن حكومته تستجيب لصغوطات المجتمع المدني الذي يحدّد حاجيات الشعب... فقط لها أن تتصرّف بالسياسات الخارجيّة ومتعلقاتها من حروب ودمار ما دامت تدور خارج الأراضي الأمريكية«... هكذا كان يحدّثنا الدكتور أكرم إلياس في محاضرته الشيّقة التي قدّمها لنا نحن بعض الصحفيين العرب المشاركين في برنامج تتبع السياسات الخارجية الأمريكية والاعلام في مقر مركز الميريديان في واشنطن »دي سي«. المواطن هناك لا يعنيه من أمر الدنيا أكثر من قوت يومه وأسباب رفاهه وألوان فريقه المفضل للعبة البايسبول أو كيفية المساهمة في تجميل الحديقة العمومية المواجهة لمنزله... إذ لا يبدو مهتما كثيرا بما تسببه قواته المسلّحة من دمار في افغانستان أو العراق... يسألنا دافع الضرائب الأمريكي باستمرار »لماذا تسلمون أموالنا دعما لمليون ونصف إرهابي يقطنون قطاع غزّة ويطلقون على حلفائنا الصواريخ« هكذا أجاب أحد مسؤولي لجنة السياسات في الكونغرس الامريكي، ذلك الديمقراطي الهادئ الذي كرّر بذات الهدوء دائما »نعم إسرائيل حليفتنا الأولى في المنطقة ونحن لا يمكن أن ندعم من سيلقيها في البحر...« ولا يفهم هذا الديمقراطي السمين ما يفسّره له الرفاق من ان هذا الكلام قد أبلاه الزمن وأن كل دول الجوار الاسرائيلي العربية قد أمضت مع حليفته هذه إتفاقيات سلام وأنها هي من تتعنّت في تطبيق إلتزاماتها تجاه التسوية... وأن جيش دفاعها هو أكذوبة العصر... فهو جيش هجوم خرج من أرضه ليبدأ بشن الحروب في 1956 (مصر)، 1967 (مصر)، 1982 (لبنان)، 2006 (لبنان)، 2009 (غزّة)... وأن إسرائيل دولة عدوانية تمتصّ دم دافع الضرائب الأمريكي لتطوير ترسانتها النوويّة المتكدّسة تفاصيلها منذ منتصف القرن الماضي كما تعلن هي على الملأ، ومع ذلك لم يُفكّر أحدٌ في مهاجمتها بإسم إمتلاكها أسلحة الدمارالشامل مثلما لُفّق إبّان الغزو الأمريكي للعراق... لم يشأ أنّ يفهم هذا الديمقراطي أن إنحياز أمريكا لاسرائيل وظلمها لشعوب الأرض هو سبب الإرهاب المعولم وأن سياساتها الخارجية المتعجرفة هي السبب الرئيسي لصورتها المشوّهة لدى شعوب العالم العربي. ❊ إسرائيل، إسرائيل من التنظير إلى التنفيذ، أو من مبنى الكابيتول إلى البنتاغون انتقل بنا المشهد ولكن المتن واحدٌ... من شخص يتحدّث بهدوء مميت إلى آخر يتحدث بصلفٍ مميت... عسكريٌّ ببدلة تشريفات وحذاء لمّاع كان يجوب بنا أروقة مبنى البنتاغون سائرا إلى الخلف في مشية واثقة تُساعدهُ خلالها قامته الفارعة في الإطلالة علينا من علٍ... يشرح لنا رسومات زيتيّة للآباء المؤسسين ويعبر بنا واجهات تحمل ابداعات أطفال أمريكا وشوفينيتهم قبل أن يصل بنا رواق فخر الجيش الامريكي... رواق يجسّد ويحوي بعض تفاصيل تدخلات أكبر جيش في العالم في العمليات الانسانية من كوارث طبيعية (زلازل، فياضانات، براكين، تسونامي) وعمليات انسانية (تطهير عرقي، إبادة جماعيّة) ونشر الديمقراطية والحدّ من اسلحة الدّمار الشامل. في هذا الرواق حيث تخنقك رائحة ذرق الغربان التي تحيط بالمبنى من كل جانب... هناك تطالعك أنت الزائر لمقرّ وزارة الدفاع واجهة بلورية تركن بداخلها بزّة عسكرية عراقيّة تلبسها دمية بلاستيكية، بزّة تحمل شارة الجيش العراقي مجلّلة بألوان راية العراق العظيم... قفص بلوريّ به زيّ وقبّعة وعلم وجندي بلاستيكي.. هي كل رموز العراق، تنحشر داخل هذا القفص ليشاهدها الزائر ضمن إنجازات أمريكا الإنسانيّة... يتواصل الاختناق بالذرق والذكرى وذاك الرجل الطويل يشرح التفاصيل المبسّطة لنصب ضحايا البنتاغون في هجوم 11 سبتمبر 2001 ويشير إلى قاعة العبادة التي تجاوره ومبكى استسقاء الدموع في صلاة الخوف... يكاد ينفذ منك الاكسيجين تماما وأنت ترقب الشموع المتلئلئة على الرخام الاسود... والاكاليل الجافّة على الجدران والمعمدانات ودفتر التواشيح... ياه... كم يحتفون بالحياة وتعزّ لديهم الموت... كم أرواحهم نفيسة وكم هي لدينا بالية... أسرع الخطو نحو الباب بعد انتهاء الزيارة أستعجل المغادرة من هذا المبنى المخيف الذي تتوالى بين أروقته كل أنواع الأزياء العسكرية (بحريّة، بريّة، فضائية) أو جويّة كما تتوالى به كل كوارث الحروب... أهرب أهربُ نحو الفضاء لأترك ورائي كل تلك الفضاعات وكل ذاك التفتيش وكل تلك الأوهام... أهرب لأتتبع سبيل الحقيقة على جناح غيمة أو حمامة فالتة من القصف... أهرب من صناعة الخوف والمتاجرة بالأحلام... أهرب إلى شعري ونثري.. أهرب إلى أملي بغد تسود فيه الفراشات وتعمّ فيه الرياحين... أهرب الى الاحلام والنجوى... أهربُ فتصدّني كياسة تلك السيدة الفائقة الجمال والاناقة التي ترطن ببعض كلمات عربية وهي تستقبلني في مبنى وزارة الخارجية صحبة زميلين آخرين لها مهمتهم الاشراف على وحدة التواصل الالكتروني مع العالم العربي، هي تعدّ البيانات والمؤتمرات الصحفية في ما يتعلق بأمريكا وعالمنا العربي... مبتسمة وساحرة تخبرنا عن تعاطفها معنا ومع الانسان ومبتسمة أيضا تحدّثنا عن السياق العام لعملها... تودّعتا بتمور وحلوى عربيّة عند الباب وكأنها تقول إنها ضوابط السياسة ثم تحيلنا لزميليها الذين يحمل أحدهما سحنة عربية (يمني على الأرجح) يتولى الردّ على كل التعاليق التي تصل وحدته على الموقع الالكتروني الذي أحدث للغرض... ويشرح وجهة نظر بلاده أمريكا في تجاوزها لقوانين حقوق الانسان وقتل الابرياء وانحيازها لاسرائيل... يتكلم العربية أحيانا... فتسافر بي الخواطر إلى أحفاد الشنفرى وإبن خلدون وأسأل كيف تحوّلت سمرتهم وأعْجم لسانهم في فضاءات البرد والخوف هذه؟