هذا شاعرٌ من الحجم الثقيل ومُناضل من الطّراز الرّاقي، طبع القرن الماضي بمثابرته وصلابته النّضاليتين، جذوره ضاربة في رحم الأرض وأحْلامه سابحةٌ في كبد الشّمس يضحك من شدّة الألم ويبكي من فرط سيطرة الأمل عليه، فيَجُرُّ المُواكب لشعره، بما هو ترجمان أحاسيسه النضاليّة وطاقاته الكفاحيّة، إلى سماوات العَراء الصّافي حيث لا زيْف ولا نفاقَ، وحيث الوجوه عاريةٌ عراء الطّبيعة. لم تكن تركيا التي أنجبتهُ في بداية القرن الماضي قد لملمت جراحاتها، ولم تكن قد أجهزت بعدُ بالكامل على ذلك الإرث الاستعماري الثقيل لإمبراطوريّة الرجل المريض، ولكنّ الأوضاع الدّولية المهيمنة ساهمت في تجميع مُكوّنات نبُوغه وتأصّله الشعري. ولاشكّ في أنّ حرفيّتهُ الشعريّة ورقّة ذوقه قد استقت من نبل القضيّة التي انخرط فيها بكلّ بسالة والتزام مزيدًا من الأبعاد الإنسانيّة حفّزت أشعارَهُ لمعانقة أنبل ما في الذات الإنسانيّة من مشاعر وأحاسيس، وأضفت على قصائده عُمْقًا ارتقى بها إلى مصاف الرّؤية الحلم، وجعل منها سِلاحًا فتّاكا ضدّ فكر القمع وفنون المغالطة وعقليّة انكار الآخر ونفيه لأنّه مختلفٌ ومستقلٌّ ومن ثمّة «مُعارضٌ» (1). «يتعفّنُّ الكلامُ في الفضاء إذا لم يكن مأخوذًا من التّراب إذا لم يكن مُوغلاً في أعماق التراب إذا لم يكن مادًّا جذورا قويّة في التراب!» ولأنّه عميقٌ وآخّاذٌ، فإنّ شعرهُ ومنذ بداياته نفّاذٌ إلى أبعد مدى، وشديدُ الإغراءِ لتحفيز الكينُونة الإنسانيّة للإنخراط في شتّى القضايا عدْلاً وشرعيّة. .. إذا لم أحترق وإذا لم تحترق وإذا لم نحترق كُلُّنا فأنّى للدياجير أن تغدو نورًا؟» (من قصيد مثل كرم 1934 الترجمة شخصيّة عن الفرنسيّة) في بعض أسئلة التمشّي: قد لا نخونُ ذاكرته إذا عمدنا في سياق لهذه الرحلة الكاشفة في مسيرته إلى تبسيط المنهج في مُصافحة حميميّة لبعض الجوانب من أشعاره في ارتباطاتها بنضالاته وفي تعبيرها عن أوضاع تركيا في مطلع القرن الماضي، فتدرُّجنا بالتمشّي بين أشعاره وهو رهن الإعتقال وتلك التي صاغها من منفاهُ بعد اطلاق سراحه. وهو تمشّ مزيّتهُ أنّه يُواكب تدرّج ناظم حكمت النّضالي ومُعاناته الإنسانيّة، ومن ثمّة نضج أشعاره واختزالها لهمّ انساني كبير هو ذلك الهمّ الذي رفع شعاره الشّاعر الفرنسي «الفراد دفيني». «لا شيء يجعلنا عظماء إلاّ ألم عظيم» عندما قال العربُ عن الشّعر أنّ أعذبه أكذبه، فإنّهم لم يتصوّروا أن تجُودَ الحركيّة الإجتماعيّة بشعراء من قبيل ناظم حكمت ليكذّبوا هذه المقولة تكذيبًا مقيتا لما أضفوه على أشعارهم من صدقيّة كرعت من مناهل حياتهم الواقعيّة ونضالاتهم الملموسة ومن محيطهم النّضالي. لنواصل القول: عن عُمُرٍ تجاوز الرّابعة عشر بقليل، وبالتّحديد سنة 1916بدأ ناظم حكمت المولود في مدينة «شالونيك» عام 1901 في نظم الشّعر، ومنذ المنطلق كان شعره حاملا لإرث ثقافي تركي متجذّر في التراث المتنوّع لهذا البلد الذي بوّأته الطّبيعة مكانة على غاية من الأهميّة لربطه جغرافيا ومن ثمّة حضاريّا بين قارتين عريقتين ذات ثقافات يُمثّل ثراؤها وتنوّعها إحدى أروع المنابع الثقافية الإنسانيّة الراقية (2). وقد أضفى الإختلاط الثقافي الواسع الذي نتج عن السيطرة العثمانيّة هنا وهناك على تطعيم الرّصيد الثقافي التركي بتنوّع على غاية من الثراء. كما ساعدته أصوله العائليّة الميسورة (3) على بلوغ المعانقة الراقيّة للحِرْفة الشعريّة شكلاً ومضمونًا. وليس من باب الصّدفة أن تُرجمت أشعاره إلى أكثر من ثلاثين لغة في حين مُنع تداوُلُ هذه الأشعار في بلده وفي لغتها الأصليّة ! (3) ومازالت للقول مجالاتُهُ: عندما احتلّت دول الوفاق اسطنبول كتب قصائد ضدّ الإحتلال، وخلال حرب التحرير بقيادة «أتاتورك» اشترك في «الأناضول» بالقتال الدّائر بها. وعلاوة على اشتراكه العملي بالمعارك صاغَ قصائد أُعجب بها «أتاتورك» فطالب بإحضاره إليه، مشجّعًا. وهو الذي ساعد على إرساله إلى الإتحاد السوفياتي للدّراسة. «الشيطنةُ من حقّكَ تسلّقْ الجدُرانَ الواقفة... تعرّف على الأرض جيّدا، وصدّقها ولا تفرّق بين أمّكَ وبين الأرض، أمُّكَ الثانية تعلّق بحُبّ الأرض قدْرَ تعلّقك بأمّك». (من قصيد: «نصيحة إلى أطفالنا») وإلى حدود 1936 أتْقَنَ ناظم حكمت العملَ في الصحف والمطابع و»الاستديوهات» وتمكّن من إصدار عشر دواوين فضْلاً عن الروايات دافع من خلالها عن تركيا جديدة ومتحرّرة متقدّمة واشتراكيّة فاضحًا الفاشية ومُندّدًا بأساليبها. «نحن قادمون من أماكن بعيدة نحملُ بأيدينا مثل فانوس يُطلق ألسنة اللّهب رأس «غاليليه» الذي أحرق بالنّار... نحن قادمون من أماكن بعيدة، بعيدة جدّا آنَ لَنَا أن نشعل حريقا في بيت اللّيل موقدين النّار بخصلاتِ شعرنا إنّنا سنحطّم زجاجات اللّيل المظلمة بجماجم أطفالنا!... والذين سيأتون بعْدَنَا سيشاهدون ليالي الرّبيع، أمسيّات الصّيف لا من خلال القضبان الحديديّة بل عبْرَ عرائش الكروم المزدهرة...» (من قصيد «قبل التاريخ» 1929) ومَادَام هذا التمشّي قد ألّبَ ضدّهُ الرجعيّة التركيّة فقد اعتقل في سجن «بروصة»، وفي شبه سريّة مطلقة حُوكم بثمان وعشرين عاما سجنا بتهمة نشر أفكار هدّامة في صفوف الجيش! «أنَا في السّجن وكلّما اهتدت قدَما قلبي العاريتان الداميتان في السّجن إلى طريقهما الطويل، الطويل أتذكّر ولا أعرف السّبب رفيقي الأذربيجاني: «بيرام أوغلو ابن بيرم» هل هذه الجدرانُ الأربعة هي التي عكّرت قلبي؟ هل هناك قرى خلف جدار الموت؟» (من قصيد «بيرام أوغلو (ابن بيرم)»9 وإزاء غُبن أوضاعه الإعتقاليّة وقساوة المعاملات التي واجهته بها السّلطات التركيّة لم يجد ناظم حكمت بُدّا من شنّ اضراب عن الطّعام مفتوح في العام 1950، نتجت عنه حملة مساندة وتضامن عالميّة قويّة افتكّته من قبضة الرجعيّة التركيّة بإطلاق سراحه، فقادته إلى مغادرة مسقط رأسه نحو الإتحاد السوفياتي، موطنه الثاني ومقرّه النهائي، بما أنّه دُفن لدى وفاته يوم 3 جوان عام 1963 به بعد أن رفض حكّام تركيا القبُول بدفنه في بلده كما رغب في ذلك! «أرْبعتهم كانُوا أمامي، في بحرٍ من الدم كانُوا، أُحبُّ الدم، لأنّه موجودٌ في رحِمِ أمّي وتمتلئ به سلّةُ المقصلة أربعتهم كانوا أمامي في بحر من الدم كانوا، لحقت بهم ربّتوا على كتفي: تقهقريا «يا دانتون»! لابدّ من موتك يا «روبسبيري»... ليعش «مَارَا»! أمّا آنا فمَعَ «بابوف» تجاوزتُهُمْ روبسبير، دانتون بابوف، مارَا.... ليسوا البداية، ولا النّهاية، النّاسُ يُولدون ويموتون ميلاد، وموتٌ، هذه هي الحياة...» (من قصيد «الثورة الكبرى» 1929) إنّ السّكُوتَ وقت يحينُ الكَلامُ مهانةٌ! في خضمّ المحنة الإعتقاليّة لم تفارق ناظم حكمت أصوله وعلاقاته واختياراته، بل إنّها على العكس من ذلك ضغطت عليه حضورًا لافتًا فعبّر من خلاله قصائده عن ألمه العظيم وتسلّح بها ضدّ العزلة والبُعد والنسيان. فزوجته كانت دائما حاضرة في شعره الإعتقالي، ولا غرو في ذلك، فقد أحبّها وتعلّق بها وزادته غربة الإعتقال محبّة وتلعّقًا. «وبغتة أتوجّّهُ لقضبان شبّاكِ زنزانتي ألتصق بها لأصيحَ لسماء الحريّة الزرقاء كلّ ما كتبتُه لك ما أجمل التفكيرَ فيك من خلال اشاعات النّصر والموت ما أجمل التفكير فيك وأنا في السّجن وقد شارفتُ الأربعين» (من ديوان رسائل وقصائد 1942 1946) ولم يفارقه أساسًا إلتزامه النّضالي الذي استطاع أن يملأهُ بذكاء انساني رفيعٍ وعلى غاية من الشّاعريّة مع باقي محاور اهتماماته: «... أخبار سيئة من مدينتي البعيدة مدينة النّاس الطيّبين، الكادحين والفقراء من اسطنبولي الحقيقيّة، تلك المدينة التي تقطنين يا حبيبتي تلك المدينة التي أحملها على ظهري وفي حقيبتي، من منفى إلى منفى، ومن سجن إلى سجن، تلك المدينة التي أحملها في القلب مثل سكّين، مثل صُورتك في عينيّ». (رسائل وقصائد 1942 1946) لقد تمكّن ناظم حكمت من خلال صدقيّة إلتزامه النّضالي وعمقه، ومن خلال تمكّنه من الحرفة الشعريّة أن يهزّ المشاعر الإنسانيّة ليدافع عن قضاياه الثلاثة، وليمجّ أعداءه الثلاثة. فأمّا قضاياه الثلاثة فهي تباعًا: حبّ الوطن والشعب: وهو موضوعٌ تناوله في أغلب قصائده وفي كلّ مراحل حياته من بداياته الأولى إلى الإعتقال ثمّ إلى المنفى. ولعلّ أبرز ما شدّني في هذا الباب المقتطفات التالية أسردها على شاعريّة القارئ، ففيها ما يُحرّك الوجدان في زمن القحط الإيماني وعصر الأنانيّة الماليّة المنزوعة من كلّ الضوابط والثوابت. في قصيد «نصيحة لأولادنا» التي كتبها سنة 1928 يقول ناظم حكمت: «... أسّسْ جنّتك على الأرض السمراء، أخرس بكتاب الجغرافيا، ألسنة الذين يخدعونك، حسبك أن تعرف الأرض، أنْ تؤمن بالأرض، ألاّ تفترق عنها، أمّك الأصيلة هذه. وأحبّ الأرض مثل حبّك لأمّك...» وفي قصيد «العدو» المكتوب سنة 1945 يقول: «... أمّا وطني، فلابدّ أن يغدُو جميلا، كحديقة خلاّن، لا مسودَ فيها ولا سيّد، وستتجوّل الحريّة في وطني الجميل طليقة، ملوّحة بيديها وذراعيْها، وبرداء العمّال الجلدي وهي في أفخر حلّة ... أمّا عدوّك وعدوّي فهو: عدوُّ الإنسان المفكّر الوطن بيْتُ النّاس جميعًا، واعداءُ الفكر، أعداءُ الوطن يا عزيزي...» ويُورد ناظم حكمت في احدى رسائله إلى صديقه كمال طاهر فقرة معبّرة وجارحة، إذ يقول: «آبلغوني بوجود جاسوسيْن بأنقرة حُكم عليهما بالسّجن لمدّة خمسة عشر عاما، ولكنّهما يمضيان هذه العقوبة في «فيلا» إستأجراها معًا في حيّ أنيق تحت حراسة «دركي» وبصحبة أسرتيهما وأصدقائهما ومعارفهما... إنّ الجواسيس يقضون فترة حكمهم في «فيلا» مع حديقة، أمّا الرّجال من أمثالنا، الذين يحبّون وطنهم وشعبهم أكثر من أيّ شيء، فإنّهم يُجرجرُون قيُودهم وبؤسهم في السّجون».