عناوين موغلة في ما وراء السطح إلى القاع المكلوم والعمق المكتنز لذات شاعر توحدت في لحظة امتلاء شعري مع الوجود والأشياء. هي عناوين لاقسام اختارها الشاعر علامات تنير سبيل كلّ من رام سبر أغوار عالمه الشعري الذي جاء كثيفا موغلا في الترميز، يشفّ أحيانا عن صراع مرير يشطر ذاته وينعكس على رؤيته للوجود. تطوّف ذات الشاعر بين قاعين أحدهما ذاتيّ ممعنٌ في اختلاجات الروح وقلقها بحثا عن القيمة والمعنى المسحوقين تحت ستار كثيف من المادية المحضة، والآخر قاع واقعي يجسّر المسافة والهوّة السحيقة التي غدت عنوان الفجيعة بين الذات وواقعها المعيش. مجموعة المعروفي الشعريّة تجربة جمعت بين التأملات الوجوديّة والنفحات الرومنسيّة والالتزام بالقضايا الواقعيّة الوطنية والقومية والإنسانية. امتدّت في زمنها الموضوعي، (زمن الكتابة) من تسعينات القرن المنقضي إلى مفتتح الألفية الثالثة، غير أنّ زمنها الذاتي (الزمن الشعري) كان أعمق امتدادا وأبعد دلالة في هواجسه الذاتيّة ومواقفه من قضايا اجتماعيّة وسياسية واقتصادية، بل إنّ بعض القصائد شكّلت ما يشبه الشهادات التاريخية للشاعر على أحداث عايشها وتأثّر بها فكان له رأي فيها. 107 من الصّفحات متوسطة الحجم، احتوت على أربعة أقسام اشتملت على 19 قصيدة متوسطة الطول إضافةً إلى قصيدتين واحدة بمثابة المقدمة وأخرى بمثابة الخاتمة. ما فوق العذاب القسم الأوّل تناول فيه الشّاعر من خلال 5 قصائد هي على التوالي، »أبو الهول والقطار«، »العرق لا يساوم«»الكادحون« و»صهيل الفرنان« جملة من المواضيع الاجتماعية التي جاءت انعكاسا لعنوان القسم »مافوق العذاب«. حادثة القطار في مصر وعذابات آلاف المعترين و»الغلابة« الذين قضوا فيها فقط لأنّهم فقراء لا حول لهم ولا قوّة، أمّا القصيد الثاني »الكادحون« فجاء موغلا في الانتصار لشريحة العمّال الذين يهرقون العمر من أجل سعادة الآخرين ولا يجوزهم في الأخير سوى التعب. القصيد الثالث تناول شريحة اجتماعيّة ظلّت لسنوات في دائرة التهميش تنوء في صمتها من ثقل التجاهل وتذوي كالشمعة لتعيش ربات البيوت هانئات. »صهيل الفرسان« عنوان شبيه بعنوان الشريط السينمائي الذي أبدعه نورالدين الورغي »ريح الفرنان« والذي تناول نفس المأساة بل لعلّ الشاعر استلهم القصيد من هذا الفيلم: يقول الشاعر: حين يستل عواء الفقر من قمم الجبال شموخها تصبح أوكار النسور... منتزه ثعالب وتبدأ الرحلة... سأغالب... من سوق النخاسة تبدأ الرحلة ... سأغالب... هل سأغالب؟ أمّا القصيد الأخير فقد تناول مأساة شريحة أخرى سحقها التجاهل وتبدّل الأحوال، وهم العاطلون عن العمل، وجاء القصيد تحت عنوان »عاطلون... لا عيد ولا نشيد« تتبع فيه الشاعر رحلة العذاب وما يتبعها من تشوهات تسببها البطالة وما تخلقه من دمار في شخصيّة الشاب العاطل ومن امتهان لكرامته في سوق الاستغلال والجشع: »نجوم شرّدتها موائد الليالي السود نجوم سماؤها أشباح... ضباب... ووعود يا أيها الفراغ المخيف... كسّر قلائدك فجّر خواتمك أخرج من وجهي تفرّ من خطايا القيود«. ❊ ما تحت الأنقاض القسم الثاني »ما تحت الأنقاض« جاء متّجها إلى الذات، مستكشفا لأعماقها، باحثا عن رضوضٍ وكدماتٍ سبَبُهَا عنفُ مِطْرقَةِ الواقع. افتتح القسم بقصيدتين بعنوان »أمنية 1« و»أمنية 2« تتالت فيهما الجمل الشعريّة ممعنة في التمنّي حيث تكرّرت اللازمة الشعرية »ليت بعضا منّي يهرب« في القصيدة الأولى أمّا الثانية فتكرّرت فيها اللازمة »ليت بعضًا منّي يخرج«، أمنيتان أكّدتا على أنّ الشاعر قد اختار الشعر سلاحا لمواجهة الواقع »ليت بعضا منّي يهرب يرتدي الحبر ويكتب جملة بالجهد تخصب« والحلم سبيل للفعل من أجل تغيير الواقع »ليت بعضا منّي يخرج يرتدي الحلم وينسج« واصلت بقيّة القصائد في القسم الثاني البحث في اختلاجات الروح من خلال قصيدة »عش على عتبة الفرح« و»الوجه والمرآة« و»لجّ النغم« و»في انتظار الربيع« وقد جاءت في أسلوب سَلِسٍ ولغة عذبة موغلة في الرومانسيّة الحبلى بالأمنيات والاحتفاء بعناصر الطبيعة، والمسكونة بالألم واليأس والحيرة أحيانا. ما بعد الخراب القسم الثالث تناول فيه المعروفي جملة من القضايا السياسية عبّرت عن مأساة الشعبين الفلسطيني والعراقي حيث جاءت مشحونة بطاقة شعريّة ملتزمة لم تثقل على القصائد وتحوّلها إلى خطاب سطحي مباشر... في قصيدة »الحصار« يستبطن الشاعر صوت الفلسطيني المحاصر وينطق على لسانه: »تأبى القصيدة فك حصاري... فأنا محاصر وكوني محاصر... بشتى أنواع الدّمار فلا التكوين ممكن ولا الخلق ممكن فلا طين ولا فخّار... ورغم هذه المسحة المتشائمة التي جاءت انعكاسا لصورة رسمت في ذهن الشاعر متمثّلة في حصار رمز القضيّة والنضال الفلسطيني »القائد ياسر عرفات في مقرّه برام اللّه« فإنّه لم يشأ إلاّ أنّ ينهيها بتفاؤل »لابد من كسر الحصار لابد من كسر الحصار...« أمّا القصيدة الثانية »جنين وحدها ولا أحد« فقد كانت بمثابة الغزليّة العذبة والبوح الصادق الذي تجيش فيه روح الشاعر بالاعتراف لجنين بالمجد والتفرّد والعظمة دون غيرها من العواصم فهي الوحيدة الصامدة في وجه آلة الدمار الصهيونية. »غلّقت أبوابها... كلّ المدن ضيّعت أنسابها... كلّ السفن أمّا جنين، فاستثناء، فلسطيني وشم على جبين الزمن كما يحمل الشاعر في هذه القصيدة على الخنوع العربي والتواطؤ الذي ميز الضمير العالمي المنافق الذي أغلق أعينه وصم آذانه عن صرخات أطفال جنين. »فليعلم كل الصهاينة والمتصهينين لن تذوي النار فينا لن تركع القدس لن تركع جنين ..... لن يركع في بطن أمه الجنين ولن يركع حجر واحد في فلسطين« بغداد كانت حاضرة يومَ سقوطها الأول (9 افريل 2003) بين يدي الغزاة في مجموعة الشاعر من قصيدة بعنوان »غمام على بغداد« رسم فيها صورة لحالة الذهول التي أصابت الجميع يوم الهوان العربي. »ويتوقف الوقت مذهولا إلى متى نرفع رايات الهوان؟ إلى متى هم الصرح ونحن الهوان؟ إلى متى نحن السجود وهم القيام؟« لينهي قصيدته بإعلانه بغدادَ حبيبَتَهُ رغم كل ما حدث ويحدث: »خذيني بغداد بين ذراعيك ضميني حبيبا فإن جثوت اليوم فنفسي ألوم وليس عليك ملاما« القصيدة الثالثة في القسم الثالث كانت بعنوان »نشيد المخيم« جاءت عامرة بروح حماسية تستنهض الهمم وتحرّض على المقاومة من خلال استحضارها لروح الإصرار على المواجهة داخل المخيمات الفلسطينية رغم بؤس الواقع، ولعل الصورة كانت تنقل شهادة عن نضال أطفال »مخيم جنين« الأبطال. »جنين هدوا ها المخيم كل نبض فينا دمدم لنحرر كل بيت لنفتح كل برعم« آخر قصائد القسم الثالث هي »واحترقت مناديل الوداع« قصيدة رمزية موغلة في الترميز تحكي عذاباتنا في عصر تكالب فيها الموت علينا شبقا في دمنا ولحمنا، فكانت قصيدة ترفع العشق والحب سبيلا للخلاص. »اشتعل الحب... يخرج عنترة من قلب الإعصار يكسر جميل عيون الحصار يقتل كثير يطل عطيل يجوب روميو شوارع لندن يبكي الدمار«. غربة البياض يصل بنا الشاعر بعد رحلة شعرية طويلة عرّج فيها على عذابات الإنسان الفرد تحت عسف الاستغلال والجشع والتفقير الممنهج الذي تذوي فيه روحه إلى أقاصي العتمة والغياب، وعذابات الجماعة / الأوطان المصلوبة على تقاطعات المصالح الدولية والنفاق العالمي الذي يدين الضحية ويبرئ الجلاد. يصل بنا الشاعر إلى القسم الرابع والأخير الذي جاء تحت عنوان »غربة البياض« والذي ضمّ أربعة قصائد اثنتان منهما احتفت بالرمز مستحضرة بعض الرموز التي أثثت المخيال الجمعي العربي وهي صورة »السندباد« وقد جاءت في القصيدة بعنوان »السندباد مسافر في القفص« أما الرمز الثاني فهو أنثوي تمثل في »شهرزاد« التي واصل معها الشاعر رحلة الحكي في قصيدة »الليلة ألفان« حيث يتسامى الشاعر في القصيديتين عن الوقائع والأحداث ليبحر في لجج الخيال وأصقاع الذاكرة الحبلى والمخيال المتحرر من كل حرج الواقع.. هي فعلا »غربة البياض« بحثا عن المعنى وعن القيمة. »على مضض أجوب الوقت ملتحفا حمتي على مضض أشق عباب الأرض سندباد قاربه الوله العليل يا لفح الثلج...« حزن السندباد من حزن الشاعر ووخز الفراق عند اكتمال اللقاء، حين يصرّح »في صدري دموع لم تجد فسحتها لتجري... تلة ثلج... عرائس حنين... غابة أشواق« أما »شهرزاد« فهي المرأة الحلم والمعشوقة الساكنة »موجة القلب« حبيبة الشاعر تسكن الخيال وتعرش في كيانة لولا سطوة الذكورة الشهريارية الشبقة للامتلاك، »يخرج المارد شهريار. كعادته من بين شفاه قارئة الفنجان« شهريار جاء يجتاج ويغزو جرح الشاعر، من هنا تتولد ثورته ودعوتُه شهرزادَ للانعتاق من أسر المخيال. »يا شهرزاد / القصيدة فُكّي ضفائرك شقّي أساورك فُضّي عشق السلطان« لقد كانت روح نزار قباني حاضرة في القصيد دلالة ولفظا ووزنا حتى أنّنا نخال الشاعر يغزل شعره على نفس المنول الذي نسج عليه قباني في قارئة الفنجان« على موعد مع شهريار / السلطان الشبق للسلطة... المارد الذي لا تشبعه كل إناث الكون ولا فنون الحكي الشهرزادي ولو وهبته من السرد »الليلة ألفان«. كما تضمّن القسم الرابع قصيدة رائعة كتبها الشاعر في مرابع الصبى والشباب »جندوبة« معشوقته الأقرب إلى قلبه ووجدانه. »متربعة في القلب تطحن القمح والملح والرأس عال والشعر ليال« جندوبة بكل تفاصليها الكامنة والظاهرة »جندوبة التين والليمون والتوت والزيتون... إلاهة الحب ولاّدة الحنين« هكذا تغنى المعروفي بفردوسٍ مشروخِ الصورة، تداركه النسيان ونكران الجميل، ولكن رغم كل الآلام فإنه ينادي محبوبته. »يا وشم غيمة علا جبهة السنين يا أغنية العاشقين والعابرين يا مدينة داخل أسوار القلب تسامت عن كل الأوسمة وكل النياشين«. هكذا يرتقي الشاعر بمدينته إلى ذرى »المدينة الرمز« مثل فلسطين وبغداد وبيروت والقيروان التي حولها الشعر إلى مدن مفاتيح لتوليد الدلالة وتكثيف المعنى وتوليد الصور.. جندوبة لم تعد مجرد جيب من جيوب الفقر، بل صارت رمزا للخصب والجمال والإباء والنضال رغم التهميش والنسيان. »جندوبة الأجراء والفقراء والشعراء جندوبة الفلاحين في كل حين وحين وحين« ومن ذرى التوحّد مع المكان »جندوبة« يعود الشاعر الى عمقه يحاور الشاعر فيه في قصيدة »أمواج تنقش الرصيف« حيث يبدو قلقا مسكونا بالبحث عن معاني الحب والجمال في وجه الكره والحقد والقبح. »بلبل الرصيف شاعر ينام في الدفتر جواد كالقوس متوتر شمس، يحترق كلما تفجر كلما تجذر« ويبقى رغم هذا الصهيل الشعري بين أوجاع الذات وهموم الوطن الصغير والكبير وعذابات الوجود وآلام القصيدة »للعمر بقية« للسيجارة وللخمرة وللنديم وللكتابة.. بين صرخة البدء وجري الأقداح بين الندامى، ومن »تعب القلب... شرقا وعشقا... غربا وحربا« إلى أن يميل الكأس فيبكي العنب... بين سنابل الأمل والخصب وسلاسل الألم واليباب، دارت ربّة الشعر بين عوالم الذات والوجود والواقع الاجتماعي والهم السياسي، ولم تنس رغم التطواف المضني الطويل أن تهدي الشاعر عبد الستار المعروفي ومدينته »جندوبة« أجمل القصائد وأرفع الأوسمة والنياشين، وأن تنقل رسائل شرائح المهمشين الجدد. المعينات المنزليات والعاطلين قهرا عن العمل والكادحين حتى منتهى العمر.