بعض المدن تخسر ملامحها أو تتهاوى بمجرد غياب أحد رجالها، والمدن كائنات حيّة تتجول في دواخلنا مثلما نتجول نحن في تعاريجها، للمدن روائح بشريّة، وعواطف أيضا، فللمدن صفات بشرية كما حدّث بلزاك عن شوارع باريس، ومدينة تونس عرفت حقبا ومراحل ملأها رجال بضجيج أقدامهم وأقلامهم، ومع أن مدينة تونس ليست وفيّة لماضيها، إذ أن فسخ بعض المقاهي والمطاعم الشهيرة وربما الأنهج والشوارع علامة فارقة في تاريخ مديتنا، فقد تجذبك إحدى روايات حسن بن عثمان أو صلاح الدين بوجاه أو رضوان الكوني أو حسونة المصباحي... وتقرأ عن مقهى ما، أو مطعم أو... وتجذبك الرغبة في البحث عن المكان لترى ما رآه الروائي او القصّاص... فلا تجد المكان أصلا أو تجد مكانه بنكًا أو مؤسسةً أو أي شيء آخر... فتتحول الرواية لديك الى مجرّد قصة خيالية تدور أحداثها في عالم النجوم... وإن كنت من الأجانب فإنك سترمي باللائمة على الروائي أو الكاتب أو القصّاص الذي تحدث عن أمكنة لا وجود لها... باريس مدينة تعجّ بالمقاهي والمطاعم والحانات التي تحمل كراسي أو طاولات عليها إمضاء كتّاب مرّوا من هناك... وتونس مدينة تمحو آثار كتابها وفنانيها فأين كان يجلس المسعدي مثلا وأين كان يتردد الشيخ العروسي المطوي و... II مع ذلك فإن بعض الشعراء والكتّاب والفنانين احتالوا على هذا المحور وخلقوا تقاليد أخرى تتماشى ورغبة المدينة في الإلغاء.. ربما انتصروا، ولكنها حقيقة الجوّالين في أمسيات المدينة كان سليم دولة في إحدى أمسيات الصيف يجوب شارع بورقيبة ويردد بضجر »إن مساء دون حفّة لا يجوز« وهو يقصد صديقه الشاعر »أبو غسّان« الذي كان في سفر... إحدى تفاصيل الكنعاني المغدور هي التجوال في شوارع المدينة... و ل »حفّة« إيقاعه الخاصّ... فهو قصيدة بذاتها... يحضنك الدفء بين ذراعيه قبل ان تباعتك صيحته المموسقة التي تعوّد سماعها أغلب أصدقائه من الشعراء والكتّاب والفنانين »هَهْهَا« ثم يخلع عليك أحد ألقابه الحسنى بعربية غاية في الاتقان... ويقبلك بوحشة دهر من الغياب... كأنك لم تره منذ سنين... أو أنك عدت لتوّك من بلاد بعيدة... »فسليم دولة« هو »أبو السلم« و »فتحي النصري« هو »أبو الفتوح« والقائمة تطول ولكن »أحمد حاذق العرف« المعروف ب »الامبراطور« يصبح لدى حفّة »امبراطوري«... يخصّ به ذاته كأني به يقول إنك قلبي وليس كما تعوّد الناس... يصف لك »حفّة« صديقا لا تعرفه: »إنه رفيق جميل«. III مليء بالحب والجاذبية... قامة مقاتل... وشعر طويل يوحي بالسينما... لحية مربعة كثة تستقيم أناقتها بغليونه الشارد... يتمشى »حفّة« مساء ويزرع جسده / القصيد على شارع الرئيس فيسيل على جنبات الخطى ويفيض... من »مصّوج« أحد أرياف سليانة جاء »ولد دادا« الى تونس عبد ان جاب لبنان واليمن والجزائر وغيرها من المدن في تجربة ربطته بحكيم الثورة الفلسطينية... وحطّ الرحيل على أجنحة عصافير باب البحر. VI لسنوات جمعتنا طاولة... متنقلة وقارة... طاولة منارات وفي أمسيات الفرح بإنجاز عدد من الأعداد تشكلت »كنيسة« منارات: »العرف هو الباب« وصاحب الحبر الآن: »الكاردينال« وسليم دولة »التيولوجي« ومنتصر الحملي : الخوري أما »حفّة« فهو »الكامرلنك« ولك يا أبا »لحفايف« كما يناديك العرف أهدي هذا القصيد: دق ناقوس كنيستنا ووسوسَ، في ليل لا يعبأ بالناس شيطان الحبر ❊ ❊ ❊ انسرح »البابا« على الصفحات (1) يسوّي جدائلها وينادي مَنْ ... مَنْ لي برجال حَرْفُ الحَرْفِ دسائسهم؟ »والكامرلنك«: كل طقوس الموج على شفتيه (2) تحت سواد أناقته وفي تبغه غليون دمه مقبرة الكلمات قفز الموتى على الأحياء و »الكامرلنك« يذرّ الحرف على الظلمات ❊ ❊ ❊ دق ناقوس كنيستنا ووسوس في ليل لا يعبأ بالحبر شيطان الناس منزويا في حلاّج جبّته دماء أبديّة... وتفور يؤرخ للمهمل من أبنية الكلم الغاصب للأشياء نبيّا في عزلته عزّ في زمني المزمن بالدّاء أن يصدح في بيتي نبيّ.. ❊ ❊ ❊ قد يفاجئك الفجر أمام المسرح البلدي ويَقفز من جيب سترتك الكاس والحراس لتشربها على مهل كأن الكاس ما خلقت إلا ... ليجوس خلف عشاقها عسس وتهدي الكاس للحراس وقد تسأل الليل قبل ساعته الأخيرة من كان خلف الباب من كان يهتك أسراري بعذق الوقت عاشق وندامى صاح الليل ملتبسا والليل يفضح سرّ العاشقين الثمالى وسرّ الكاس والحراس ❊ ❊ ❊ ما أجمل الليلة العاشرة من شهر مايو والظن إبليس أزرق يحتفل الشاعر بالشارع والشارع صمت مغلق ما أجمل سنة تسع وألفين والشارع يتوكأ على كرسي أدردْ انظر في سرّ الليل ففي ليلى نجوم ترقدْ وإني في الليل مع »الأفّاكين« نجمنا أبعدْ ❊❊❊ ما أعذب أن أتماهى والليل أمام المسرح البلدي ومقهى باربس تسحق سرّ زبائنها أتوجه بين أبصار الليل أهدي للجدْران تحياتي أترنحّ مثل عصفور في فوهة باب البحر هنالك في آخر عيني ثلاثة أفاكين من زمن الحبّ القاسي وجدار... (3) ❊ ❊ ❊ للبابا طقوس برّية في رقة ليل »الكامرلنك« وهو يُعَبّئُ طاسا فوق الطاس ويدفن رأسه بين حشاش امرأة لا حشائش فيها ويدفع ما ملكت ستّونه لقرطاس ❊ ❊ ❊ دق ناقوس كنيستنا ووسوس في ليل لا يعبأ بالناس شيطان الحبر ❊ هوامش (1) أحمد حاذق العرف (2) عبد الحفيظ المختومي