تعيش جهة سيدي بوزيد ومعتمدياتها خاصة المكناسي ومنزل بوزيان والرقاب والمزونة حالة غليان وغضب على إثر إقدام شاب عاطل عن العمل على حرق نفسه أمام العموم احتجاجا على إمعان السلط الجهوية في التنكيل به ورفضها الاستماع إلى تظلماته. و قد كان لهذه الحادثة الوقع السيء على مواطني الجهة وخاصة الأعداد الكثيرة من الشبان العاطلين عن العمل فهبوا للتعبير عن سخطهم ورفضهم لواقع التهميش والإقصاء ولمظاهر سوء التصرف واستغلال النفوذ واللاّقانون الذي آلت إليه جهتهم. وقد كشفت الأحداث الأخيرة عن عقم الاختيارات التنموية المدمرة لكل استحقاقات العيش الكريم من شغل وخدمات اجتماعية واستثمارات عمومية... وعوض الانكباب على البحث في أسباب هذا الاحتقان والإصغاء إلى نداءات الإصلاح والتنبيّه لحقيقة الأوضاع المزرية التي باتت تعيشها عديد الجهات الداخلية وخاصة نداءات الاتحاد العام التونسي للشغل، المضمنة في دراساته الميدانية حول كل من الكافوسيدي بوزيدوقفصة والقصرين عوض ذلك انساق النظام إلى الحلّ الأمني والبوليسي في شكل اعتقالات ومداهمات للمحلات التجارية والمساكن رافقتها حالات نهب وسرقات موصوفة واستفزازات لمشاعر الأهالي خاصة النساء منهم، بل وصل الأمر إلى حد استعمال الذخيرة الحية ضد شباب أعزل أسفر عن مقتل متظاهرين وجرح العشرات منهم علاوة على الاعتقالات العديدة في مختلف معتمديات الجهة. إن الإمعان في تغذية حالة اليأس لدى المواطنين وخاصة الشباب باللجوء إلى الحلول الأمنية وسد أبواب الحوار معهم ومع مكونات المجتمع المدني وتجريد المصالح الجهوية والجماعات المحلية من أبسط الصلاحيات الذاتية تؤكد جميعها على: ❊ عدم قدرة الدولة على مسايرة التحولات السريعة والحاجات الكبيرة للجهات الداخلية كجهة سيدي بوزيد. ❊ أن الجهة بحكم إخضاعها إلى منطق المركزية المطلقة وبحكم استبعاد الفاعلين الحقيقيين المعنيين وخاصة المجتمع المدني المحلي من هياكل الحوار ومن مراكز اتخاذ القرار لم تستطع بلورة حاجاتها والدفاع عنها والمبادرة في الانخراط في تحديث وتعصير الآليات التنموية المحلية. ❊ أن الهياكل الإدارية بالجهة أصبحت بسبب ضعف قطاع الخدمات وتفكك النسيج الاقتصادي تدور في حلقات مفرغة لغياب المشاريع التي يفترض أن تشرف عليها وتحيط بها، لذلك بقيت مجالات تدخلها و بقي نشاطها مناسباتيا و انحصر تعاملها مع مشاكل الولاية في حدود ما تتخذه الدولة على المستوى المركزي. ❊ أن المنطق الأمني لن يزيد الجهة إلا تهميشا ولن يزيدها إلا عزلة بل يطور المنطق الانتهازي ويشجع على الاستئثار الخاص بالشأن العام وبالملك العام، هذا علاوة على أنه يغذي المحسوبية والانتماءات الوهمية والجهوية الكاذبة والتهيكل في فضاءات الفعل العشائري إلى غير ذلك من الظواهر التي تنمو مع تنامي المنطق الأمني. ❊ أن ما حدث ويحدث في ولاية سيدي بوزيد ومعتمدياتها لن يزيد إلا في حالة الاحتقان ولن يزيد إلا في مشاعر اليأس تجاه حكومة رفضت لغة الحوار والمساءلة والتثبت من تداعيات اختياراتها التنموية رغم ما جرى في الحوض المنجمي بولاية قفصة وبن قردان بولاية مدنين وما يجري حاليا في ولاية سيدي بوزيد والتي تشير جميعها إلى وجود أزمة بنيوية حقيقية للتنمية الجهوية في بلادنا، أدت إلى اختلال التوازن بين الجهات أضر تحديدا بالجهات الداخلية وأفقدها مقومات التنمية الذاتية سواء من حيث القدرة على جلب الإستثمار أو من حيث توفير مواطن الشغل لمتساكنيها أو من حيث تأمين مرافق العيش الكريم ومتطلّبات المواطنة الفعلية. ❊ أن المعالجة المسؤولة الكفيلة بمصالحة متساكني جهة سيدي بوزيد ومثيلاتها في الجهات الغربية وإعادة ثقتهم في مؤسسات الدولة وهياكلها لا يمكن أن يتم بتعداد البرامج الدعائية المسقطة ولا بالإعلان عن بعض المسكنات الظرفية والبيروقراطية لإشكالات هيكلية مزمنة، بل فقط بالانكباب جديا وبمعية مختلف الأطراف المعنية على البحث في جذور أزمة التنمية الجهوية وتشخيصها لوضع استراتجية متعددة الأبعاد تقطع مع الارتجال ومع ما يريده المنطق الليبرالي الإقصائي، وفي هذا السياق فإن مباشرة هذا البحث والحوار في شأن واقع ومستقبل التنمية الجهوية في تونس يفترض أولا وبالذات الإجابة على جملة من الأسئلة التي ما انفكت تراود متساكني الجهات الغربية التي طرحت في الدراسة التي أعدها الاتحاد العام التونسي للشغل حول التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد والتي لم تجد إلى حد اليوم أي تجاوب من الحكومة، والتي يمكن اختزالها في ما يلى: ❊ ما مدى مسايرة السياسة التنموية لخصوصيات الجهات الداخلية وما هي محددات هذه الخصوصيات في استراتجية التنمية الوطنية؟ وما مدى استجابة البرامج التنموية المتتالية لمتطلبات المتساكنين؟ ❊ كيف يمكن إدماج المناطق الداخلية في منظومة تنموية متكاملة توفر الشغل لكل طالبي وطالبات العمل وتنهض بالموارد البشرية لتكون ثروة وطنية في خدمة التنمية وليست عبئا اجتماعيا يعُوقُها؟ وكيف يمكن تدعيم المبادرة على الصعيدين المحلي والجهوي وبلورة مخططات تنموية تنبع أساسا من قدرات الجهات البشرية وإمكانياتها؟ ❊ و كيف يمكن تفعيل وتوجيه تدخل الدولة لتقوم بدورها تجاه المناطق الداخلية لإكسابها المزيد من مقومات التنمية ؟ وكيف نثنيها عن التخلي عن أدوارها؟ ❊ ما مدى ملاءمة منظومة التربية والتكوين مع حاجيات سوق الشغل؟ وهل بإمكان منظومة »أمد« أن تساهم في تأمين الجودة اللازمة للاستجابة لمتطلبات التشغيل خاصة في المناطق الداخلية حيث تفتقر المؤسسات الجامعية هناك إلى أبسط المخابر والتجهيزات العلمية والمراجع وتشكو نقصا فادحا في إطار التدريس وخاصة صنف أساتذة التعليم العالي؟ وما مدى مسؤولية وزارة التعليم العالي في بطالة أصحاب الشهائد الجامعية؟ ❊ ما مدى فاعلية آليات التشغيل المعتمدة للتقليص من البطالة خاصة في الجهات الداخلية؟ وما مدى شفافية الانتدابات والمناظرات؟ وهل فتح مكاتب التشغيل الخاصة حلا لامتصاص البطالة؟ ❊ وهل كانت خوصصة المؤسسات العمومية وراء تفاقم ظاهرة البطالة؟ وهل حققت الحوافز والتشجيعات التي حظي بها القطاع الخاص النتائج المرجوة؟ وهل تعتبر المناولة تشغيلا؟ وهل تعتبر التجارة الموازية والتهريب وما يرافقهم من مظاهر الانحراف عماد الاقتصاد في الجهات الداخلية؟ إن توفير الشروط الضرورية لاستكمال الإجابة عن تلك الأسئلة وتهيئة الظروف الملائمة لبحث الحلول الكفيلة لخلق مقومات التوازن الجهوي والاستجابة لاستحقاقات متساكني الجهة من تشغيل واستثمار وخدمات اجتماعية وتوفير البنية التحتية اللازمة للإقلاع التنموي، يتطلب التعجيل بالإعلان عن: ❊ فتح المجالس الجهوية للتنمية لمختلف التعبيرات السياسية والمكونات المدنية والحقوقية والنقابية ومنحها صفة عضو قارّ له كامل الصلاحيات للمساهمة في تصور ووضع ومتابعة تنفيذ المشاريع والبرامج التنموية في مستوى الجهة وتقييم نتائجها. ❊ التصدي للاستثمارات الفلاحية المتأتية من خارج الولاية وغير المسؤولة اجتماعيا والتي تمعن في نهب أراضي المنطقة ومائدتها المائية وتعمد إلى نقل كامل إنتاجها نحو جهات ساحلية لتحويلها وتصنيعها هناك وذلك بإلزام المستثمر بوجوبية تحويل الجزء الأكبر من منتوجه الفلاحي على عين المكان وربط اسناد الأراضي بشرط المساهمة في دعم النسيج الصناعي بالجهة وفي خلق فرص التشغيل وتحسين البنية الأساسية. ❊ ضرورة تفعيل الدور التنموي للدولة وتوجيه تدخلها نحو المشاريع الكبرى المهيكلة كجلب مياه الشمال والاستثمار في حفر الآبار العميقة ووضعها على ذمة فلاحي المنطقة وبعث نسيج صناعي غذائي مندمج ومتناغم مع الاقتصاد وباقي القطاعات في إطار شراكة مع القطاع الخاص، وذلك لدفع إمكانيات تحويل المنتوجات الفلاحية عبر استحداث وتركيز مصانع الحليب والطماطم ومعاجن للخضر والغلال بما يكفل استقطاب طالبي الشغل من الشاب وخاصة من حاملي الشهادات العليا. ❊ مضاعفة مساهمة الدولة في خلق مواطن الشغل بالجهة وخاصة لحاملي الشهادات العليا في الوظيفة العمومية وفي القطاع العام للتخفيف من وقع البطالة من ذلك مثلا العمل على التقليص في عدد التلاميذ بالأقسام بما يوفر فرص انتدابات جديدة في التعليم الثانوي والأساسي. ❊ تدارك التصحر الثقافي أن أفضل وسيلة لنشر الأمن وطمأنة النفوس هي العدالة الاجتماعية التي تمر حتما بالتنمية الشاملة. كما أن أفضل سبيل للمصالحة بين مؤسسات الدولة ومتساكني تلك الجهات هو فتح قنوات التواصل مع مختلف الأطراف الفاعلة في تلك الجهات وإقامة حوار حقيقي لاستعراض مختلف الرؤى ولاستثمار كل الجهود والطاقات المتوفرة من أجل تشخيص مشترك لإشكاليات التنمية الجهوية وتملك جماعي للحلول والإصلاحات الضرورية في كنف الشفافية والمصارحة والمساءلة، مما يستوجب إصلاح سياسيّا واجتماعيّا في اتجاه دمقرطة الحياة السياسية وإرساء دولة القانون والمساواة وتحرير الإعلام واستقلالية القضاء في كنف احترام حقوق الإنسان والحقوق النقابية. المراجع: الاتحاد العام التونسي للشغل / قسم الدراسات: التنمية بولاية الكاف. الاتحاد العام التونسي للشغل / قسم الدراسات: التنمية الجهوية بولاية سيدي بوزيد. الاتحاد العام التونسي للشغل / قسم الدراسات: التشغيل والتنمية بولاية قفصة.