البرلمان: نواب يصوتون على مناقشة قضية الأفارقة غير النظاميين    ممر خاص لذوي الاحتياجات الخصوصية بشاطئ ...انجاز ابنة قرية sos أمل كناني    الرياحي: أسعار لحم الضأن لدى القصابين خياليّة وهذه قيمة مرابيحهم في الكلغ    هام/ فتوى حول شراء أضحية العيد في ظل ارتفاع الأسعار..    غرفة القصابين: تكلفة كلغ ''العلّوش'' تتجاوز ال 45 دينار    فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين    مخاوف من اختراق صيني لبيانات وزارة الدفاع البريطانية    الدوري الإفريقي لكرة السلة: الإتحاد المنستيري يواجه اليوم ريفرس هوبرز النيجيري    أبطال أوروبا: باريس سان جيرمان يواجه الليلة بوروسيا دورتموند    يومي 10 و 11 ماي:تونس تحتضن بطولة إفريقيا للجمباز.    صفاقس: تفكيك شبكة ضالعة في ترويج المخدرات وغسيل الأموال    قليبية: الكشف عن وفاق إجرامي قصد اجتياز الحدود البحرية خلسة    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة "سينما تدور" (فيديو)    تونس : 6% من البالغين مصابون ''بالربو''    وزارة التربية تنظم حركة استثنائية لتسديد شغورات بإدارة المدارس الابتدائية    متى موعد عيد الأضحى ؟ وكم عدد أيام العطل في الدول الإسلامية؟    لاعبة التنس الأمريكية جيسيكا بيغولا تكشف عن امكانية غيابها عن بطولة رولان غاروس    مشروع مصنع ثلاثي الفسفاط الرفيع المظيلة على طاولة الحكومة    أخبار المال والأعمال    أستاذ إقتصاد :'' وضعيتنا مع صندوق النقد غير مرضية ..''    النادي الإفريقي: هيكل دخيل رئيسا جديدا للفريق خلفا ليوسف العلمي    ماذا يحدث بين محرز بوصيان ووزير الشباب و الرياضة ؟    وزير الداخلية الليبي لقيس سعيد : ''الاستعدادات جارية لإعادة فتح المعبر الحدودي''    عدد من المناطق التابعة لولاية بنزرت تشهد اضطرابا في امدادات المياه بداية من العاشرة من ليل الثلاثاء    عاجل/ أمطار أحيانا غزيرة تصل الى 60 مم بهذه الولايات بعد الظهر..    حوادث: 13 حالة وفاة خلال يوم واحد فقط..    هطول كميات من الأمطار عشية اليوم ..التفاصيل    أريانة: منحرف يهدّد رجلا وإمرأة ويفتكّ سيارتهما    «فكر أرحب من السماء» شي والثقافة الفرنسية    الفنان بلقاسم بوقنّة في حوار ل«الشروق» قبل وفاته مشكلتنا تربوية بالأساس    شركة طيران تدفع 450 دولاراً لكل مسافر تم إلغاء رحلته    في قضية رفعها ضده نقابي أمني..تأخير محاكمة الغنوشي    رئيسة قسم أمراض صدرية: 10% من الأطفال في تونس مصابون بالربو    بعد إطلاق منصة مشتركة مع ليبيا وتونس.. وزير الداخلية الإيطالي يعلن تحرك عالمي لوقف تدفقات الهجرة غير النظامية    سيدي حسين: مداهمة "كشك" ليلا والسطو عليه.. الجاني في قبضة الأمن    عاجل/ تقلبات جوية بداية من عشية اليوم وطقس شتوي بامتياز..    هزة أرضية بقوة 4.9 درجات تضرب هذه المنطقة..    عاجل- قضية الافارقة غير النظاميين : سعيد يكشف عن مركز تحصل على أكثر من 20 مليار    إشارة جديدة من راصد الزلازل الهولندي.. التفاصيل    البطولة الانقليزية : كريستال بالاس يكتسح مانشستر يونايتد برباعية نظيفة    عاجل/ هجوم على مستشفى في الصين يخلف قتلى وجرحى..    أولا وأخيرا .. دود الأرض    مشروع لإنتاج الكهرباء بالقيروان    في لقائه بخبراء من البنك الدولي: وزير الصحة يؤكد على أهمية التعاون المشترك لتحسين الخدمات    اتصالات تونس تنخرط في مبادرة 'سينما تدور'    بمناسبة اليوم العالمي لغسل الأيدي: يوم تحسيسي بمستشفى شارل نيكول حول أهمية غسل الأيدي للتوقي من الأمراض المعدية    فيديو/ تتويج الروائييْن صحبي كرعاني وعزة فيلالي ب"الكومار الذهبي" للجوائز الأدبية..تصريحات..    مدنين: استعدادات حثيثة بالميناء التجاري بجرجيس لموسم عودة أبناء تونس المقيمين بالخارج    تصنيف اللاعبات المحترفات:أنس جابر تتقدم إلى المركز الثامن.    الفنان محمد عبده يكشف إصابته بالسرطان    نسبة التضخم في تونس تتراجع خلال أفريل 2024    الفنان محمد عبده يُعلن إصابته بالسرطان    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنّان بلقاسم بوڨنّة    غدًا الأحد: الدخول مجاني للمتاحف والمعالم الأثرية    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدخل لتجربة فاضل الجعايبي المسرحية
مسرح المفارقات الكبرى: تجربة فاضل الجعايبي المسرحية: الثوابت والمتغيرات
نشر في الشعب يوم 10 - 02 - 2007

«أليست الحداثة هي أن نعرف ما ينبغي تجنب العودة إليه؟» رولان بارط
بعد مسيرة تفوق العشرين سنة من المغامرة الجماعية، اختار الفاضل الجعايبي رفقة جليلة بكار مواصلة مشاق الخلق ومتاعبه ضمن سياق تتحمل فيه الذات المبدعة، المفردة، مسؤولية خطابها وتبعات إكراهاته ونجاحاته على حد السواء دون التخلي عن المنهاج الذي ظل يقودها، والسعي الى مزيد تجذره وتجذيره والارتقاء بوعوده ومقترحاته.
واذا كان التعنت شرطا ضروريا لكل تجربة تأبى السكون والتجمد في صقيع التكرار، فانه يزج بها في حقل إمكانات مفتوح على اللامتوقع واللامنتظر واللامتحقق.
الا ان هذه التجربة سرعان ما تمكنت من تأكيد شرعية حضورها وأضحت محل حفاوة واهتمام حيثما حلت سواء على مستوى الخارطة العربية او في المحافل المسرحية الدولية، ومثار فضول واحترام حتى من قبل المناوئين لها والمحترزين على مقترحاتها.
ولا شك ان ذلك ما كان ليتحقق لولا توفرها على سمات خلافية فيها اجابة على أسئلة ما، واستجابة لإنتظارات ما، وتحريكا لنوازع ما.
1
الاحتكام الى بياض الركح! ذلك هو الرهان الذي تضعه هذه التجربة أمامها، وقد انعتقت من رهبة النصوص المسرحية الجاهزة، محلية كانت او عالمية، وإرهابها وهي وان استندت الى بعضها أحيانا فكي تمتصها وتحولها حتى لا يبقى منها الا القليل من الاصداء البعيدة.
على هذا الركح السعيد ببياضه (وليس أسعد منه الابياض الورق) ينطلق اشتعاله واشتغاله، وتنمو البذرات الاولى للمسرحة وتينع وتسمق، وتتشكل الصورة المشهدية وتتبلور وينهض الخطاب ويتأسس، فلا نظام جاهز منه تبدأ وإليه تنتهي، وبه تتقيد، ولا توقعات محددة سلفا تذعن لها ولا تحيد عنها، وهو ما لا يعني البتة ان هذه الممارسة غير معنية بما هو خارج عنها، ومنقطعة الى الركح انقطاعا صوفيا، ولا تخترقها خطابات مختلفة، تشكل الرصيد الما قبل نصي المؤهل لمجابهة الركح.
انما ممارسة قائمة على جدال متواصل بين الذات والآخر، والسياق الاجتماعي، تضع الخيال والذاكرة والملاحظة في حالة استنفار دائم حيث كل شيء قابل للمحو ومرشح باستمرار لإعادة النظر: تآلف واختلاف، تكامل وتعارض، تشتييت وتوحيد، فوضى وتنظيم، ذهاب واياب، انطلاق وعودة، تقدم وتراجع، تقليص للاندفاعات المفرطة، واقتناص لفيض الاشراقات العابرة، تقودها ذوات قادمة من مواقع ومناخات وحساسيات مختلفة ولكنها غير مزهوة بعزلتها في نرجسية مرضية لا يؤدي تفاعلها، صراعا وتعارضا، الا لمزيد إخصاب المعنى وتعدده وفق استراتيجية بقدر ما تطلق العنان لاندفاع النزوة / النزوات، فإنها تراقب هذا الاندفاع وتحضه بالصرامة الضرورية لإقامة تطابق بين هذه الاندفاعات الخالصة والتوزيع الدقيق للخطاب المنشود.
هكذا تتحدد سيرورة العمل: اشتغال متواصل، وانتاجية لا تتوقف وانفتاح على لا نهائية العمليات الممكنة التي بها يتشكل العرض ويتراءى كشبكة من الواحدات الدالة التي وان انتمت الى انساق مختلفة فهي منصهرة في نظام متماسك.
وهنا يتنزل اليومي كمرجع اساسي ضمن مراجعها الاخرى، اليومي باعتباره حفلا تتجلى فيه الخبرة / الخبرات الجماعية وتنوعها: خطابات وممارسات ومجابهات، كلمات واشياء ومعايير، ألعاب والاعيب، أدوار وأقنعة، خداع وتضليل، وانتهاك وامتثال، أوضاع وايماءات ووضعيات، مرويات واشكال وصور، تفاعلات وانفعالات، سيناريوهات متفلتة، ومسرحة عفوية، تناقضات ومفارقات...
من هذا «الواضح المعتم» يستمد العمل طاقته الحيوية، قيضا على الجوهري في ما هو عرضي، ومسكا بالعجيب في ما يبدو تافها ومبتذلا واستخراجا للاستعارة الحية مما يبدو ساكنا وهامدا! أليس المسرح كما يقول انطوان فيتاز «مخبرا ايماءات المجتمع وكلامه؟».
ليس هم هذه الممارسة اعادة اخراج هذا اليومي او اعادة انتاجه، وانما الحفر فيه والانزياح عنه عبر معاينة اللعبة المزدوجة للكائن والواقع، وما تفرزه من مظاهر ميثيولوجية وبنيات غير مرئية، وتشرب وتحويل ما يمكن ان يشكل منطلقا للمتن الحكائي، ويجعل هذا الديالكتيك الخفي مرئيا.
هكذا ينهض العالم الدرامي والانشاء الركحي في التحام بهيج، وتعانق خصيب، لا تنافر ولا انفصال ولا نشاز.
2
تظل الحكاية في صميم هذه الانتاجية المسرحية، بل هي ثابت من ثوابتها، وسواء انطلقت من حادث عابر (جريمة قتل، بحث عن مفقود[ة]) أو من عينة من العينات النموذجية (سهرة عائلية، حالة نفسية مخصوصة) فلكي تخصبها وتنقلها من بنية دنيا، بسيطة ومبسطة الى بنية اكثر تعقيدا مثقلة بأشد التفاصيل بداهة واثارة للفضول في نفس الوقت.
لا شك ان هذه البنية بما تتوفر عليه من انفتاح ومرونة ومهيأة من البداية لشتى التنويعات والانحرافات والتشعبات وأفق التوقع فيها مفتوح على حقل فسيح من الامكانات والاحتمالات، وتوالد الاسئلة التأويلية.
غير ان هذه المرونة وذاك الانفتاح لا يعنيان الفوضى والتسيب، والعشوائية والارتباك بل يخضعان لتركيب ماهر ينظم التداخل والتنافز بين العناصر الحكائية من فاعلين، وتفاعلات، وأحداث، وأهداف، وخطابات وشروط مكانية وزمانية ضمن حبكة كل نقطة فيها «تشع في اتجاهات متعددة في نفس الوقت» وتلعب اللغزية وظيفة فعالة بما توفره من تدابير تجعل الانتظارات معلقة باستمرار وهي تتابع وتراقب تأجيل الاجابة / الاجابات عن الاسئلة الأولية (متى حدث هذا؟ من فعل هذا؟ كيف حدث؟ اين حدث؟ الخ... الخ) أو تأخيرها، او ايقافها هنيهة، او الاستعاضة عنها بإجابة / اجابات خاطئة، او مؤقتة، او مزعومة، أو مقنعة، أو مراوغة وأسيرة لمنطق يقوم على التقدم / التراجع من جهة، والترقب / المباغتة من جهة اخرى، ويستبدل حقل العقدة ببسط الاحداث، تشريحا وتشخيصا ان على المستوى الدرامي او المستوى المشهدي.
واذا كان لكل مجتمع مروياته الكبرى التي يتجلى فيها وعبرها المخيال الاجتماعي لشعب ما (السرد الجماعي / الاجتماعي) فان المتن الحكائي وهو يغرف من هذا المعين لا يحاكي الواقع معيدا انتاجه في تسجيلية فجة، وانما عبر اعادة تأويل، وتحويل، وكشف عن المترسب فيه، والمنبوذ منه، والمسكوت عنه ترتقي بالمسار السردي الى مصاف الاستعارة بالمعنى الدي يعطيه اياها بول ريكور «في كل من السرد والاستعارة ابتكارات دلالية وفي كلتا الحالتين يظهر شيء جديد في اللغة، لم يكن قد قيل اوظهر من قبل».
تماما كالحكاية تبدو الشخصيات بسيطة، عادية، طبيعية، أليفة بالامكان ان تلتقي بها حيثما وليت وجهك في خضم الحياة اليومية، الا أنها كلما تقدمت ازداد تعقيدها، وتصاعدت غرابتها، وخروجها من طينتها، وانزاحت ألفتها، وابتعدت عن معقوليتها، فلا هي تظفر بموضوع رغبتها / رغباتها، ولا هي تقبل تشاركا او تعاونا او تعاضدا، ولا هي تقيم تواصلا يتوفر على حد أدنى من الحميمية، وليس أمامها الا المواجهة والتجابه والتراشق بالتهم، وتحميل كل طرف الآخر مسؤولية ما هو فيه من انحدار واندحار: تجريحا، ادانة، قدحا، ذما، مهاجمة وهجوما، وكأنما هي مورطة في لعبة تسعى جاهدة للمسك بخيوطها دون ان تدرك ما إليه ما تصبو بل وكأنما هي في مصيدة لا تستطيع منها إفلاتا مهما أبدت من الكفاءة، فلا تخرج من هذا الشرك الا وهي مجهدة القوى، اكثر انكسارا وتبعثرا وتوعكا.
وليست علاقة هذه الشخصيات بالفضاء فرارا منه او فرارا إليه بأفضل حال سواء من حيث تشكلاته (أمكنة مهجورة، أمكنة منبوذة، أمكنة متداعية، أمكنة مغلقة، خانقة، مخنقة الخ... الخ...) أو من حيث محمولاته (اثارة للتوتر والعدوانية والألم واشاعة للعزلة والصمت والموت) فيحل البرود محل الدفء، والخوف محل الامان، والغربة محل الألفة، والبعد محل القرب والنفور محل التآلف، ويتشابه فيه الاهل والغرباء، والاحياء والاموات، وبالتالي فه وبانفتاحه وانغلاقه على حد السواء غير مولد لديها الا للرهاب والمتطابق مع فضائها النفسي المشرع على الخراب والمرشح باستمرار للتخريب.
غير ان الامكنة هنا لا تقيم حدودا صارمة تفصلها عن بعضها، وبما تتمايز وتتعارض بل تتداخل وتتعاقب وتستبدل باستمرار تمام كالذوات المتصارعة وتبدل أدوارها (فاعلة طورا، منفعلة طورا اخر، ذات للفعل تارة، وموضوع له تارة اخرى) ومن وراء ذلك يتراءى فضاء غير مرئي: العتبة وما تحمله من تكثيف استعاري (أزمة، لحظة انعطاف، تردد، خوف من تخطي شيء ما، الخ... الخ...) فالتناقضات التي تشق الشخصيات ليست تناقضات طبقية (أغنياء وفقراء، عمال ورؤوس أموال، مالكون ومعدمون الخ... الخ...). وانما بين ذوات جماعية مضطربة، مترددة بين الحب والكراهية، بين الحقيقة والكذب، بين الواقع والوهم، بين الوجود والعدم، متشنجة في علاقتها بذواتها، وبالاخرين وبالاشياء ما يلقى بها في مدار انشطار مرضي لا يكاد يتبين فيها الحد / العتبة بين المختل والسوي، بين الصحي والمرضي، بين المتماسك والمتفكك (وهل من الصدفة ان تكون صورة الطبيب هي الاكثر حضورا في هذه الاعمال: «كوميديا» و «سهرة خاصة» و «جنون»؟).
ولا تختلف علاقة الشخصيات بالزمن عن علاقتها بالمكان، فهي بانتمائها للمدينة، بإيقاعها الزمني العادي حيث كما يقول ميخائيل باختين «الناس في هذا الزمن يأكلون ويشربون وينامون ويتخذون لهم نساء وعشيقات ويحيكون مكائدهم الصغرى» يجعلها منهمكة في لحظتها المعيشية وتتحرك ضمن حلقات ضيقة، (يوم، أسبوع، شهر، ستة الخ...) أشتاتا من اللحظات تماما كأشتات الأمكنة، يضفي على علاقتها به وقعا ايقاعا داخليا: تذكرات مثيرة للألم، أو توقعات مثيرة للمخاوف.
رغم ما تبديه هذه الشخصيات من مقاومة للهواجس والوسواس التي تسكنها، وعناد لترميم متداعياتها ضمن شروط غير قابلة للمصالحة، فانها لا تحول معاناتها الى عمل بطولي ظافر ولا تجربة تمجيدية بقدر ما تطابق غرابتها كينونة ومنطق افعال مع اغترابها البنية النفسية المهتزة الى درجة تصبح معها الغرابة أليفة، والألفة غريبة. (تماما كشأن اي كيان انساني في ائتلافه واختلافه، في تساميه وانحطاطه، في صعوده وسقوطه)، وهي في ذلك كله تظل مدعاة للابتعاد عنها وحتى النفور منها بالقدر الذي تظل فيه مدعاة الى الاشفاق عليها والتعاطف معها لما تتوفر عليه من فيض معاناة لشروط قاسية.
ان تصعيد المفارقات الى اقصى حدودها الممكنة يحمل في طياته نبرة ساخرة ترج في «غموض شفاف» المعايير السائدة وما تنطوي عليه من خدع ومراوغات وعبثية. (أليست «السخرية هي وعي لعبي جيد» كما يقول فلاديمير جانكلفيتش لأنها «تبلغ او توصل دون ان تبلغ او توصل؟»).
ولعل هذا «الوعي اللعبي» هو الذي تتنفسه بالاساس الحكاية حين تجد نفسها في مواجهة حدودها وقد استنفذت امكانيات اكتمالها الذي لن يكتمل، تنتهي مشرعة على اللانهاية تاركة المتفرج مرددا السؤال «أحدث هذا حقا؟».
هكذا من الاحداث العابرة، بل والتافهة احيانا، تنبثق المعاني الجليلة (الموت، الرغبة، الجنس، الحب، الكراهية...) وشبكة القيم التي يتأسس بها وعليها النسيج المجتمعي في لحظة معينة من تاريخه (الصدق / الكذب، الخطأ / الصواب، الحقيقة مسكابها / او تخيلا عنها) وتوعكاته غير المعلنة، وهكذا ايضا تنهض طقوس سردية خصوصية تجيب من خلالها الذات المنتجة عن وضعها في المجتمع، وتفصح فيه الهوية عن فرادتها وتفردها.
3
عراء ينفر من الأطناب المرجعي، وتقشف فيما يستقبل من أمتعة وأدباش وأشياء، وحياد لا تكاد تتبين منه أية هوية. تلك هي اهم ملامح الفضاء الركحي التي منها يتشكل المشهد وعلى اساسها تنتظم الانساق الدالة، ويشحن المعنى، وهي بالحميمية التي تقيمها بين الاجساد، وبالدينامكية التي تضفيها على ايقاع العرض وبالمرونة التي تشيعها في عملية التحول والتحويل الدلالي تجعل الممارسة الركحية أشبه بالآلة الرهيبة التي ما ان يتم تشغيلها حتى تنطق دون توقف او تعثر او ترمرم: فيض من العلامات والشفرات والرسائل، وغمر من الاهواء والخيالات والهوامات والاطياف، وحشد من الملفوظات والنبرات والاصداء.
ما ان يقتحم هذا الفضاء حتى يشرع في التخلي عن عرائه ليصبح كأشد ما يكون اكتظاظا وتدثرا بهذه الاجساد وهي في حركية قصوى وكأن اصحابها على عجلة من أمرهم محمولين على قلق، دخولا وخروجا، حركات بهلوانية، أوضاع جسدية غريبة، وايماءات لا تخلو من ميكانيكية احيانا، وانتقال من هيئة انفعالية الى اخرى، وتراشق بما توفر من معدات واشياء وأدباش، وتبادل للسباب والشتائم وحتى البصاق ايضا.
ان سكان هذا الفضاء لا يرغبون في اقامة اي فعل تواصلي، وهم وان قاموا بذلك فعلى مضض، أشبه بالفعل القسري المثقل بالاكراهات، وان تحاوروا فبشذرات خاطفة، وومضات منفلتة، وتصريحات تائهة، وتأكيدات عائمة، والانكفاء في ما يشبه المونولوق، أشبه بالجوقة المنشغل كل عنصر منها بعزفه المنفرد، وان تبادلوا النظرات فذلك للتعبير عن الاشمئزاز، او النفور، او الاستياء، او الاحتقار، وان تخاطبوا فبصوت عال، هو الى الزعيق والصراخ والصياح أميل. وكأنما الحميمية التي يوفرها الفضاء (تقليص المسافة بين المتفاعلين والقربية بين المتخاطبين) لا تعمل الا كمفارقة تصعد التباعد بينهم، وتغذي نار التوتر الذي هم فيه.
هي عدوانية ضارية لا تسلم منها حتى الاشياء، وهي الاكثر عرضة للتحولات الوظائفية (ابلاغا وبلاغة)، فمن أداة لعبية، وحضور ايقوني، الى مجال مجازي كناية تارة، واستعارة تارة اخرى ما يجعلها مصدر انفاق لا ينضب لا ثراء العرض وهنا تأتي الطاولة والكراسي في مقدمة هذه الاشياء كلازمة اساسية للنص المشهدي: تختلف الاشكال والاحجام والالوان، اما الحضور فلا استغناء عنه، فتبدو الاكثر وظائفية والاكثر تضررا من هذه العدوانية في نفس الوقت، فالطاولة، اضافة الى وظيفتها المرجعية واللعبية، محملة بطاقة رمزية (اجتماع، اكل، مشاركة، تقرب، تقارب، وحدة مشاعر، محط اسرار...) تماما كما هو الشأن بالنسبة للكراسي وخاصة في علاقات قائمة على التنافس والهيمنة والتسلط والنفوذ.
يبدو كأن لا خيار امام سكان هذا الفضاء الا التورط في الكلام، فيغمر الفضاء بفيض كلامي (طوفاني احيانا) تتردد من خلاله اصداء الصوت الجماعي / الاجتماعي في تنوع ملفوظاته، وطرائق كلامه، ورطاناته، ويتسرب رنين اليومي بما يحفل به من سوقية، وفحش وهجامة، ولا يتورع عن تسمية ما لم يعتد الناس تسميته، او ما لا يطيقون اتفاقا ونفاقا سماعه في مثل هذا المقام.
انه كلام تستعيد فيه العامية حظها السعيد اذ ينحت من تلوناتها اللسانية، وسجلات قولها لغة فردية حيث «تتجلى الكلمة في فم الفرد كنتاج للتفاعل الحي للقوى الاجتماعية» و «تتلاقى فيها وتتشابك النبرات المجتمعية المتناقضة».
انفلات نزوات، تأجج أهواءه هدير رغبات، صخب اجساد تفك السلاسل التي تكبلها او تئن تحت وطأتها، ارادة مشلولة، ووهن، هوامات وهلوسات تقف فيها الذات المتكلمة في مواجهة الآخر (الآمر، والناهي، المانع، القامع، المهين، المذل، الرقيب، المؤنب، المتعالي، المتكبر، الضار...) اي الذي لا يحتمل ولا يطاق، لا يمنح غبطة ولا ينشر فرحا (ندرة الضحك وحتى وان وجد فلمجرد الاستهزاء والتبرم او بتعبير اخر ضحك كالبكاء) ولا يغذي الا سواء التفاهم، ولا يشجع الا على اللاتواصل، واللاتخطاب، انها ذوات يغمرها الكلام حتى انها تنسى احيانا انها تتكلم عندما تتكلم، او هي لا تتكلم عندما تتكلم («وبقدر ما يكون الانسان مسقطا، ملتقى فهو يثرثر، وهذا لا يعني بالضرورة انه يتكلم» يقول مارتن هيدغر).
ويأتي الصمت هنا اشبه باستراحة المحارب وقد أرهقت الحبال الصوتية، وأشرفت الانفاس عن الانقطاع، وفشلت الكلمات في الافصاح عن اختلاجات الرغبة المتوارية ريثما تستجمع الذات المتكلمة قواها من جديد.
عبر المراوحة بين اثر الواقع، واثر المسرح تحقق هذه الممارسة الركحية تلاحما بين ما يرى وما يعبر عنه، بين الصورة والكلام، بين المرئي والمنطوق، ومع ذلك تظل مساحة من الفجوات قائمة بين هذا وذاك. وليست المؤثرات الصوتية او الموسيقية الا ضرب من ضروب مليء هذه الفجوات (القطارات في عشاق المقهى المهجور مثلا، او الموسيقى الصاخبة في «سهرة خاصة»...).
هكذا يتخلى الفضاء الركحي عن حياده يحيل على الفضاء النفسي لسكانه وما يعتمل بداخله، ولذلك فهو يخلو من تحديد للأمكنة وحدود تحصنها من الخرق والاختراق، بل كل شيء قابل للاستبدال بما ييسر دوران المعنى في شتى الاتجاهات، ويغير نمط الرؤية والادراك.
4
ان العرض وهو يتقدم عبر سلسلة من المتولايات تتلاحق فيها اللحظات وتتعاقب ضمن فضاء مغلق تسم ايقاعه بسرعة مربكة (أليست السرعة سيمة من سيمات عصرنا؟) تنفي الاطمئنان وتشيع الحيرة ازاء هذا الترابط المدهش بين المتنافرات والتصادم بين المتباينات.
ولا شك ان غياب التعيين الصارم للزمنية (الزمن الوحيد الواضح هو زمن التلفظ اي الزمن المسرحي) والاستعاضة عنه بإشارات عابرة (نهار، صباح، مساء، ليل...) لا تجعل هذا الزمن زمنا عائما فقط، وانما تجعله مؤهلا لحقل الترميز، وتمنحه ايقاعا دائريا، دوريا، يقوم على التناوب (ليل / نهار، ظلام / ضوء...) ويخضع لقانون التكرار (العود الأبدي!) وكأنما العرض يقتطع من المجرى المألوف للزمن المعيشي (حيث التاريخ صامت لا يقول شيئا خارقا، ولا ينبؤ بتحولات كبرى) تلك اللحظات المتوجهة، بالكوة التي تطل منها الذات على العالم وعلى التاريخ.
لذلك فهي ليست لحظات عادية، فيها يتكثف الزمن، انشداد للماضي / تطلع للمستقبل، ويرتبط الما قبل بالما بعد، ويفصل ال «هناك» ويلتقي المتدفق بالمتزامن، ويحقق الاستمرار والتبدل، وتتطابق مع زمنية سكان هذا الفضاء المشوشة والهشة، سواء عبر «ماضيها» وما يولده من ذكريات أليمة او حنين مرضي، او عبر «حاضرها» بما فيه من حصر، وخوف ورعب، او «عبر مستقبلها» بما يسوده من غموض، وانسداد أفق.
وللمسك باللحظة في توهجها تستعير الصورة الركحية طرائق اللغة السنيمائية، امتصاصا وتحويلا، فمن التأطير الدقيق للحيز، واللقطات المتنوعة الى المسح البانورامي، ومن مستويات العمق، الى الانعكاسات والظلال تلعب الاضاءة وظيفة اساسية، لا لتحديد وإبانة الاشياء في الفضاء فقط، وانما لمنح الصورة الركحية كثافة وكلية حضور، وتشكيلا ينفذ الى مختلف تمفصلات العرض والمناخ الذي يتحرك فيه سكان هذا الفضاء (المراوحة بين المضاء المعتم، الدرجة اللونية الباردة: مقام مثقل بالحزن والالم او الدرجات المتوسطة: الهدوء، الحياد).
وعبر جدلية الاستمرار (ثبات سكان الفضاء) والتبدل (الادراك الحسي لتغيير المجال) بالحذف لما يبدو حشوا عديم الاهمية ميتا، والاكتفاء بالمضمر، والمضمن (حكايات غير محكية ورؤى غير مرئية) وبالتئبير لما يبدو جديرا بالابانة، بالبسط او بالتقليص من جزئيات ووضعيات وهيئات، ويضمن تراتيبة معينة لعلامات العرض، يتخلى الزمن عن صيرورته الخارجية ليتحول الى صيرورة داخلية. (انها الزماكنية بالمفهوم الذي يعطيه اياها ميخائيل باختين).
انه ايقاع يفتح المدارك والحواس على حقول من الامكانات، ويروض العين الجماعية على ان يرى ما لا ترى (الغياب، الصمت، البياض، الفراغ)... وكيف يخفي يخفي «هذا المرئي مرئيا اخر» على حد تعبير جيل دولوز.
5
الجسد هو سلطان الدلالات، منه ينطلق كل شيء واليه يعود كل شيء انه «هو الذي يظهر، هو الذي يتكلم» كما يقول موريس مرلو بونتي.
ذلك ثابت من ثوابت هذه الانتاجية، لا محيد عنه، ولا تنازل. لذلك فالممثل فيها اكثر من ممثل، ودوره ابعد من ان يكون دور. انه المشخص، المجسد، العارض، المؤدي، الموول، المنتج، وباختصار طرف فاعل في انتاج الخطاب، وعليه يتوقف تحقيق ذلك التوازن المنشود بين الفراغ والامتلاء، بين القول والفعل،و بين المنطوق والمرئي.
من هنا يستعيد اللعب نبالته وجدواه وفعاليته كتصريف محكم لصاخب الاندفاعات ومنعتق المبادرات، ومهارة في السيطرة على السيرورات النفسية الاولية ومنحدراتها القصية، واعادة استخدامها استخداما جديدا، واستكشاف المتفرد والمتغير في جسد الذات الفاعلة، وتخطي اكراهات المتفق عليه من قوانين وقواعد وسنن ومضايقاتها دون السقوط في العشوائية والاعتباطية.
لذلك فهو يضرب في كل الاتجاهات (تلفظا، حركة، ايماءة، وضعية جسدية، انفعالا، تفاعلا) ممارسة قاسية، عنيفة تمارسها الذات المنتجة على نفسها كي تستعيد لذتها وغبطتها المفقودة منذ زمن بعيد، وعبرها تتجلى فصاحة الجسد وهو يملأ الفضاء الذي يتحرك فيه، بل ويفيض عليه، يلاطف الاشياء ويداعبها، يبعثرها ويحطمها، يستردها ويعيد تنظيم فوضاها، يراوغ اللغة ويخاتله، يغازلها ويلوي عنقها، يستحوذ عليها ويغتصبها، يسستجديها ويتنكر لها، يطبع الشخصية، يتماهى معها، يتباعد عنها، يتخفى وراءها يريها، يخفيها. انه الحامل الاول، والمتحمل الاول لعلامات العرض والمؤتمن على تماسك دلالاته.
لعب / تلاعب / ملاعبة / إلعاب / ومنها ايضا لعبة / ألعوبة، ألاعيب، ايضا لعوب / لعاب / لواعب، ذلك هو النسيج الذي تحيكه الممارسة اللعبية وتحاكيه: أطياف وظلال وأقنعة، وشخصيات ملقاة في جحيم تناقضاتها، في تنافس شرس في اجل امتلاك مواضيع رغباتها، حكايات مفتوحة على كل الاحتمالات، ومشاهد متلاحقة تصيب الرائي بالدوار، وما يتخللها من سخرية وتجريح، وتغنج واغراء، واستخفاف واستهزاء، وتسام وانحطاط، وافتتان وفتنة، وأوهام وأكاذيب، كل ذلك ضمن تأطير صارم لا مكان فيه للمستثقل، والاجوف، والناشز، والثرثار حتى في تلك الحركات التي قد تبدو خرقاء او بهلوانية ومسلك اقتصادي يتجنب التبذير العشوائي والانفاق المجاني (التطابق بين الوضعية الجسدية والمقام الذي هي فيه: اكثر ما يمكن من الوضوح، بأقل اطناب ممكن).
غير ان هذه الصرامة لا تلغي الحس، والانفعال، والخيال، والذاكرة، ما يحولها الى مجرد تقنية عقلية مغلقة، وتعاليم نظامية باردة، جامدة، وسطح شكلاني خارجي، بل بالعكس، تجعل مختلف الملكات في حالة تحفز وتيقظ وتفتح على صور الواقع وعلاماته وملفوظاته، مزيحة عن الذات المنتجة ما عليها من غبار المترسب والكيتش والكليشيهات : لا تنكر لما هو خارجي ولا انكفاء على ما هو داخلي.
عبر التناوب بين الخارجي (الجسد في محيطه الاقتصادي / الاجتماعي ومجاله الرمزي) والداخلي (النفس وما يظل متواريا في اعماقها السحيقة) تقود الذات اللاعبة لعبتها، فيلتقي ما هو طبيعي بما هو ثقافي ويتقاطع ما هو بدائي، متوحش، منفلت بما هو تقني متماسك ومنتظم وتبدو هذه الذات اللاعبة وكأنما قد نزعت ثقافة جسدية مكبلة، وارتدت ثقافة جسدية اخرى مغايرة تماما (حتى التعري تتغير وظيفته ودلالته أليس انفراج ثوب اكثر اثارة للرغبة من تعرّ فجّ؟).
في فضاء ركحي يغيب فيه الحيز الشخصي، وتمحي الحدود بين المناطق، بما يقلص المسافة بين المتفاعلين، ويطلق المشاعر الحميمية تتحرك الاجساد: اقترابا / ابتعادا، انجذابا / نفورا، انبساطا / انكماشا، انسيابا / تشنجا منساقة في مركب انفعالي يسوده الحزن (البكاء، التفجع) والخوف (الحصر، الرهاب، الرعب) والغضب (العدوانية الكراهية) والكبت (الغيرة، الكف) وتكون العضلات المشدودة والاعصاب المتوترة، وأنماط التنفس (صراخ، شهيق، اختناق) والايماءات (اشارية، توكيدية، اجترارية) دالة عليها، ومضيفة، في نفس الوقت، مفارقة بين الفضاء الركحي وسكانه.
ومن الطبيعي هنا، ان يحظى الوجه صورة وحضورا بمنزلة خاصة (هل هو اثر السينما؟) وتتعدد وظائفه التعبيرية والانفعالية سواء بما يكشف عنه او بما يخفيه، وقدرته على تحويل اللامرئي الى مرئي، وأهليته لتقبل شتى الاستعمالات والتخمينات ولعل «فاميليا» هي النموذج الارقى الذي يصل فيه التعامل مع الوجه الى حدوده القصوى، بانتقال نفس الوجه من شيخوخته المرعبة الى شبابه الفتان (تطابق بين الدال والمدلول؟ موضوع هروب؟ صورة بلاغيج؟ هو كل ذلك في نفس اللحظة).
في نفس الوقت السياق لا يقل الصوت اهمية لا من حيث تنويعاته فقط، وانما من حيث الهيمنة فيها اذ يسود الصراخ وكأنما الذات من خلاله تطلب العون والمساعدة، او هي تستعيد ذلك الغياب البعيد الذي يترك الاشباع معلقا، وخانة الرغبة شاغرة، ولذلك فان الجسد هو الذي يصرخ عبر الصوت ويفضي بمواجعه ويضاعف المناخ الصاخب الذي يلقى بثقله على مجمل مكونات الفضاء الركحي.
6
يحتل الجهاز التلفظي في هذه الممارسة الركحية موقعا متميزا سواء من حيث الكيفية / الكيفيات التي تحكي بها ما تريد ان تحكيه، او من حيث الكيفية / الكيفيات التي توصل بها ما تريد ايصاله، لذلك لا يقل انهمامها واهتمامها باللغة كما يؤسسها الحقل اللساني عن بقية الروافد الاخرى التي بها يتشكل المشهد المسرحي ويتبلور ويكتمل.
ولعل اول عقبة تواجهها، في المجال، وعليها ان تتخطاها، تكمن في انطلاقها من اللهجة العامية واستنادها اليها، فهي أداة للتعبير؟ لم يطلها التفنين والتقعيد الصارم ولم تنط بعهدتها وظائف مرجعية وتعليمية ترسخ بناها النحوية والصرفية وتكرسها على أوسع نطاق من جهة، ومن جهة اخرى فهي أداة للتواصل؟ مرتبطة بتمايز اجتماعي مسجل في منطقة جغرافية محددة (العاصمة) ما يغرقها في محلية تتعارض مع ممارسة فنية تتجه الى اكبر عدد ممكن من الناس.
كيف اذن، يمكن القبض على هذه المنتشرة دون ضوبط هي محل اجماع شامل، واضفاء ديمومة عليها تحضنها من الاغفال، والهجز، والنسيان وتجعلها قادرة على مقاومة الزمن، بل والسفر فيه؟

اذا كان اليومي يتوفر على مظاهر للمسرحة متعددة، ومن ضمنها الحوار / التحاور اليومي، غير ان تلفظ الواقع يظل بالاساس ذا بعد تواصلي، نفعي في حين يطلب التلفظ التخييلي اكثر من مجرد التواصل (نشدانه المتعة والامتاع على الاقل) وبالتالي ليس امام العم التخييلي الا خرق تلفظ الواقع والانزياح عنه.
ذلك ما لم تتدخر هذه الممارسة جهدا في اجرائه والذهاب بهذا الانزياح وذاك الخرق الى اقصى مدي ممكن (او ما يبقى ممكنا) ناسفة ما تقوم عليه المحادثة اليومية من اسس او مبادئ كما حددها ه . ب غرايس سواء من حيث الكمية وما تعنيه من اكتفاء بما هو مطلوب (وهنا تبدو الشخصيات مغمورة بالكلم حتى لكأنه كل تبقى لها) أو من حيث الكيفية وما تتطلبه من صدق (بالعكس، التخاطب، هنا ايضا، قائم على الخديعة: الشخصية خادعة / منخدعة في نفس الوقت) او من حيث العلاقة وما تتطلبه من ملاءمة للوضع (الشخصيات مغتربة عن وضعها، مفارقة له) او من حيث التصرف وما يفرضه من وضوح (العكس هو الذي يسود، غموض، وليس وتداع، وإطناب).
وحين تقوم بذلك، فلكي تجرد المحادثة اليومية من مظاهرها المظللة (لياقة متضعة، ولياقة متكلفة، ووفاق منافق، وتراتيبية شكلية، وحياء كاذب) وتعيد الاتصال اليومي السوي (او هكذا يبدو) الى حقيقته غير المعلنة واخراج ما يعتمل تحت سطح المواضعات والتوافقات والعقود الكلامية المبرمة من اشكال صراع ومظاهر خداع ومراوغة، ومقاصد تسلط وهيمنة.
هكذا يأتي الحوار الدرامي اكثر صفاء ونقاء وشفافية وانسيابا وإفصاحا وتلاؤما، مما هو في المحادثة اليومية مهما التزم المتحاورون بمبادئ غرايس، ومن خلاله تستعيد الكلمات نفاذها ونفوذها، والعامية رونقها، وطاقتها التعبيرية الثرية (خزان من الصور تعيد لهذه «الاستعارات التي تحيا بها» توهجها وفعالياتها) بل وقدرتها حتى على ملامسة المناطق القصبية (الجنون والخطاب الذهاني بصفة عامة) وعبرها لا تتجلى فقط الذات المتكلمة في أفعالها وانفعالها، في تطلعاتها وانكساراتها، وانما السياق الاجتماعي في أضوائه وظلاله، في خوائه وامتلائه، في ايقاعاته ونبراته، في رهانات صراعه، وأنساق تفاعلاته.
انها في حد ذاته مشهد تحتشد فيه الرغبات والمناورات والألاعيب وتتقاطع (تماما كلعبة الكلمات المتقاطعة في «فاميليا») بمباعدتها (تعريبها) بين كلام الشخصية ومقامها الاجتماعي والمعرفي، وتعميقها للفجوة بين الرغبة وتحققها، وتشويشها العقد الكلامي بين المتخاطين والشروخ التي تحدثها بين مقاصد المتكلم وتأويل الملتقي لها.
ولعل اهم ما تختص به الذوات المتكلمة هنا انخراطها في فعل تواصلي يبدو وكأنها مضطرة اليه اضطرارا، ومدفوعة اليه دفعا، مورطة في عقد كلامي لا يسمح فيه الخطاب ببسط نفوذ، او افتكاك شرعية او حيازة امتياز، او افتكاك اعتراف، فيأتي انجازها الكلامي، في غالب الاحيان، غير مكتمل مبتورا او محرفا، تخونها الكفاءة الابلاغية حين تكون في امس الحاجة اليها، وهي تلاحق كلامها الخاص الممعن في الافلات منها والاغتراب عنها.
ان العلائق التي تقيمها الذات / الذوات المتكلمة مع الاخرين مغرقة في اللبس والالتباس وما يترتب عنه من سوء تفاهم يظل فيه ادراك المقاصد بالنسبة للآخر مرتبكا تماما كارتباك الرغبة (ندرة البوحيات في الافعال الكلامية التي تنجزها الشخصيات مقابل هيمنة التأكيدات والوعديات) فيأتي الكلام متوترا، صاخبا، فيه من الوعيد والتهديد اكثر مما فيه من المشاعر الحميمة المرهفة يكاد يكون متطابقا مع وضعية / وضعيات الشخصيات، مرافقا لها حتي في أشدها انحدارا (الملفوظات المرحاضية في «فاميليا» مثلا).
ان اللغة والجسد في تناغم كبير، بل كيف ما يكون تكون: سموا او انحطاطا، فتوة او شيخوخة، تماسكا او تبعثرا، انبساطا او تقلصا، انسيابا او توترا، فلا تقل معاناة هذه الاجساد مع كلامها الخاص عن معاناتها مع رغباتها وأهوائها، والشروط التي تساق اليها، والاشراك المورطة فيها، وعجزها عن الظفر به، والمسك باختلاجاته، منابعه الاولى، فتتحول اللغة الى فضاء لشتى الاجراءات والاستراتيجيات والحيل التي يعمد اليها المتخاطبون في السيطرة على هذا العجز. عرض / استعراض يظل الكلام فيهما متماوجا أشبه بالنشيج والشجن وبصهيل الخيول الجامحة. النافرة تارة اخرى، وتظل اللغة هناك ممعنة في تمنعها وعصيانها، في امتناعها وعنادها، مهما حاولت الذات المتكلمة الالتحام بها واجبارها على الافصاح (وما أشبه سخريتها يسخرية القدر... أو التاريخ...!).
بذلك تكتمل مقومات الصورة الركحية وعبرها يتراءى الراهن في كثافته، وخطورته وكارثيته مرئيا، مسموعا.
7
لا شيء في هذه الممارسة الركحية، ثابت (حتى تلك تبدو اكثر ثباتا وسكونا وحيادا: جدار حديدي، ستائر، أعمدة...) كل شيء يتحرك يتبدل، يتغير، دون انقطاع، شهب اشارات تنبعث من كل الاشياء، وشلالات من العواطف والاحاسيس تغمر الفضاء، واندفاق ارساليات تأتي من كل الجهات، وبنسق لا يسمح لأي نسق بالتمدد اكثر من اللزوم قد يصيب المشهد بالترهل، ما يجعل المعنى في دوران مذهل، ما ان يتعرف عليه حتى يلفت ويفر ليظهر من جديد، ومن حيث لا يتوقع ظهوره.
انها انتاجية تمتص، تلتهم، تطحن كل ما يتعرضها، وتدخله في سياقاتها فيستعيد تبرته غير المتوقعة وكأنما قد بعث من جديد، حتى تلك الاشياء المعتادة التي لا يلتفت اليها او يعيرها اهتماما تخرج من فتاهتها اليومية، وتسترد انفاسها وطاقتها الايحائية.
بتعبير اخر انتاجية «مفترسة» على حد تعبير بارط الرشيق ازاء المسرحة او المسرحانية تحول شهيتها النهمة الى لغة مشهدية مثخنة بالدلالات، مفعمة بالاشتعالات الحسية، حافلة بالمحافل الشعرية، ومؤسسة لطقوس خصوصية حتى لكأن وراء الحكاية تغفو حكايات اخرى تأبى البوح بكل اسرارها، ووراء الحوار المسموع ينتشر خفيف حوا غير معلن، ووراء المرئي تسكن تموجات مرئي لا يرى ووراء الكلام المتدفق تتردد ذبذبات كلام لم يقل، وكأن المشهد الركحي يحيل الى مشهد اخر يجري على ركح اخر، بل لعل ما يتخفى اكثر مما يرى (على العكس مم يتوهمه البعض).
لا بطولة اليها تتجه الانظار، وتستقطب الاهتمام، ولا مثل عليا يدعي اليها ويتماهى معها، ولا تجارب تمجيدية تملأ النفوس بالنخوة والاعتزاز، وانما ذوات، وأدوار، ومواجهات بين «الأنا» (في تمزقة، وانشطاره، وتبعثره واضطرابه) و «الآخر» (سواء أكان مثار تماه، او تنافس، او مزَاحمة او الآخر المنظم، المحدد للمجال الرمزي بصفة عامة) يأتي المشهد تجسيدا ال «دينامية بنيتها الكامنة» وأشبه بالطاقة الحلمية المفتوحة سيروراتها على كل المكانات: سارة، سامية، لذيذة، ممتعة، أو / و، مفزعة، مقرفة، مرعبة والتي تضفي كثافة حسية على كل ما جاورها او تقاطع معها.
هكذا تجد هذه الانتاجية نفسها في صميم حقل الامكانات والوجود الذي لا يكتمل وتلك معاناة اخرى يلتقي فيها الوعي (واللاوعي ايضا) الفردي مع الوعي (اللاوعي) الجماعي ويتواجهان.
ذلك هو المشهد الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.