في توصيفه للشعر يقول ابن المقفع: »يريك الشاعر ان شيئا داخل في الجدار وما هو بداخل وخارج من الجدار وما هو بخارج«. هل بعد هذا التوصيف المبتدع العميق من توصيف. بكلمات قليلة دلنا الشيخ ابن المقفع الى جوهر الشعر والشعرية. وهذا ينطبق كل الانطباق على هذا الاثر المربك: »أبعد من نبع الغزال« هذه القصيدة المطولة في جزئها الاول التي أنشأها من كبده الشاعر رحيّم جماعي. هذا الكائن العجائبي أرافقه منذ ردحة من الزمن معاشرة وقراءة في »جثة في قميص« و »للريح أعراسها ايضا« و »بانوراما على شوارع الروح«. هو حالة إبداع متفردة لا تضاهيها سوى قامات / حالات منور صمادح أو أمل دنقل. شاعر رسمه الشاعر »أولاد أحمد« رسما بالكلمات بديعا كالنبع البعيد: »لو كان امرأة، لما كان اسمها كمية، بل كان اسمها نوعية. لو كان مشروبا لكان خلاصة عصير«. إن ما نقرؤه في هذا الأثر ينبئ بنوعية وخلاصة عصير بل أعاصير لأنه قصيدة تسلك مسلك القلق لا تبشر بذرة طمأنينة. قصيدة دكّها النّابالم وأرداها شظايا كعناقيد الغضب العاوي في الفلاة. صرخات عربية وفصيحة تجعلك تختصم وتتصالح مع ذاتك في نفس الآن. هي ضحكات باكية وعبرات باسمة تنبت بهجة مشروخة شروخا عميقة لا تندمل. وقد جاوزت المائة شرخا (114) عناقيد افتراضية حيكت من نار وتترجمها الصيغة الدالة على التمني شبه المستحيل: »لو كنت...«. فما الذي يتمناه شاعر مستباح تستهدفه غوائل جمّة تنهال على نحافته الجسدية فتغرق في محرقته البلاغية وتخريجاته الكلامية المحلقة في المدى البعيد. اذا نظرت مليا في أمنيات الشاعر انتبهت الى تنوعها واتساع أفقها: خصال انسانية يرنو الى تبنيها وتمثلها كالذكاء والكرم والشجاعة والحكمة والجرأة والحلم والصلابة. والشجاعة أكثر الصفات إلحاحا على فكر الشاعر: لو كنت شجاعا / لكتبت على الابواب : / ليتني أستطيع / مغادرة هذا الموت / الذي يدعى: / بلادي (ص 85). ثم يسترسل في أمنيته: لو كنت شجاعا / لأضفت على الابواب: / كادت بلادي / أن / تكون / بلادي (ص 91). ترجم الشاعر دون لبس عن خيبة أمل عارمة في وطن كان من المفروض ان يكون غير ما كان حتى انه فكر في مغادرته لأنه كالموت. ثم يتدارك ويتراجع عن قراره عندما أوشكت البلاد ان تكون بلاده. ويجسم شجاعته بفعل الكتابة »كتبت لأن الحروف أمم كما يقول ابن عربيّ. وكأني بالصرختين نداء نحو الحرية الكفيلة وحدها بإحياء البلاد وجعلها نعيما للانسان والفنان. ومن أمنيات الشاعر اللافتة »لو كنت شاعرا« التي تمناها في سبع مرات اضافة الى »لو كنت المتنبي«. في صرخاته الثمانية يفاتحنا »رحيم جماعي« بتصور مخصوص للشاعر وللشعر معا. وهو تصور يغور في المأساة ويقرن بين القول الشعري والبحث عن هواجس الانسان الأزلية فتتحول القصيدة الى عازفة ربابة محطمة تولّد حزنا لمّاعا وسعادة سرطانية: لو كنت شاعرا / لا عتنيت / كأرملة صغيرة / بتلميع حزني / كي يعيش شفيفا ونديا / وحصنت روحي / من سرطان / السعادة (ص 35) القصيدة ليست حنينا ولا ترفا بل: »القصيدة ابنة المكر... تلك القصيدة (ص 41) فالحب الحقيقي مكر يمنع الأعاجيب ويعبث بالمواقيت وينصب الكائن الشعري سيدا للوقت: لو كنت شاعرا / لكتبت لهند ما يلي: أحبك حقا / حتى أنني أستطيع / قيادة الفجر اليك / في... / منتصف / الليل / تماما. (ص 46) وبعرائه وفصاحته الجامحة جموحا فنيا يشكّل الشاعر قصيدته تشكيلا مقدسا يذكر بتفاحة الجنة التي جنت على آدم وحواء. هذه التفاحة يستعيرها الشاعر الذي استبيح كسالفيه عبر الزمن. ولأنها »تفاحة القول العصية يقطفها من عَلٍ »لرغبة جلالة الحرية / في الخروج السافر / عن طاعة السيد الليل«. (ص 61) القصيدة بهذا المعنى حفر في صخرة الوجود الأصمّ بحثا عن الحرية ورفضا لجلالة الطاعة وسيادة الظلام. رحلة البحث المضنية تنتهي بالشاعر الى شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس. يحلّ العاري والفصيح في المتنبي قائلا: »لو كنت المتنبي / لأطفأت ضوئي / دفعة واحدة / وكففت عن الصهيل / في... / زمنٍ كهذا...« ص 116. والمفارقة في هذه الصرخة إحساس مقيت بالغبن وإدانة للمجتمع الذي لا يحفل بروح الفنان. أليس من الأجدر تركه في غياهب العتمة والامساك عن النشيد اللانفعي في كثير من الاحيان. وهذا يذكرنا بغضبة الشابي الشعرية العاتية منذ ما يناهز القرن: أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوى على الجذوع بفأسي لكن الشاعر يصر ان يكون شاعرا فلا يطفئ ضوءه ولا يكفّ عن الصهيل في عالم لا يعنى بالشعر الا قليلا. أمنيات الشاعر شعرية وربما لأنها شعرية تبدو غريبة كالفن وطريفة كصاحبها. تتصل تلك الأماني بأجمل الحيوانات وأذكاها في ثقافتنا العربية (الغراب والغزال والحمامة والذئب والفراشة والجواد) تجمع بين رموز تراثية متأصلة وبين مهرجان ألوانها وخصالها في الركض او التحليق عاليا. يتقمص تلك الكائنات وينطقها العجب من الأماني المبهرة كما غرر بالفراشة: »لو كنت فراشة / لأقنعت الحسون في شراهته / بأن جمالي / عمره يومان / فقط« (ص 99). وينتقل الى الذئب المتربص بالرعاة »الذين / يحرسون / القطعان / ريثما تطول أنيابها / فينشغلون كالرعاة / بتربية الذئاب / والرصاص / والشعوب«. (ص 98). وهذا القول الفصيح يختزل راهن العدوان الذي يستهدف الأمة بفعلِ رعاة البقر. ويطوف بنا الشاعر الذي حلت به اللعنة الى الأبد نحو الكواكب والطبيعة كالرومنطقيّين: »لو كنت شمسا / لو كنت قمرا / لو كنت جبلا / لو كنت أرضا / لو كنت صحراء / لو كنت مطرا / لو كنت ريحا / لو كنت بحرا / لو كنت نهرا...« يرش العالم أمنيات مستحيلة يعزّ تحققها في راهن انساني معطوب. لعل من أغرب الامنيات التي يطالعنا رحيّم جماعي بها هي: »لو كنت عربيا / لما التفت خلفي أبدا / لألاَّ أشعر / في هذا الزمن / النادر جدا / بالعار«. (ص 64). بكلمات معدودة أدرك الشاعر الحال والتاريخ المنكسر انكسارات متصلة فعزم على الفرار بجلده دون ان يلتفت خلفه حتى لا يصاب بذبحة قلبية. بفر بعد ان يقلب الطاولات والكراسي فوق رؤوس من تسببوا في محنتنا المهلكة ووأدوا أحلامنا في واد غير ذي زرع. ولا يترك سوى أمنيات »أبعد من نبع الغزال«.