لم نصنع الثورة لانّها في صلبنا. لذلك لما هبّت عاصفتها كانت بالنسبة إلينا بردًا وسلاما. ❊ ❊ ❊ قبل عشر سنوات، انطلق الاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس في تنظيم تظاهرة ثقافية فنية راقية ربطها بذكرى وفاة فنان الشعب، فنان القوى الديمقراطية والتّقدّمية والشعب، فنان العمال والفلاحين والطلبة، الشيخ امام عيسى. قبل 10 سنوات بالتمام والكمال، انطلقت التظاهرة وكان الاقبال عليها منقطع النظير، لأنّها كانت الوحيدة المتفردة في وجه طفرة من الفن العادي، المستهلك، الممجوج الذي يتمعش منه أصهار المخلوع واتباعه ومن لفّ لفّهم طامعًا او مكرهًا. امتياز التظاهرة انها مفتوحة أمام الشباب الصاعد، الذي لم يعايش الشيخ امام عيسى ولا هو تعذّب مثل كثيرين من أجل الحصول على أغانيه، في شرائط مسجلة برداءة لا مزيد عليها، وفي نسخ اهترأت من فرط الاستعمال. ورجع الصدى ان هذا الشباب استلم المشعل فاكتشف الاغاني وحفظها ورددها وغنّاها بنفس الحماس وبنفس العطاء، حتى لما آن أوان الثورة انخرط فيها بحماس وشجاعة وزاد معرفي غير قليل. جذوة الحماس لم تخب، ووفاءً منه للتقليد الذي قطعه على نفسه، نظم الاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس الدورة العاشرة للتظاهرة يوم الثلاثاء الماضي، وبزخم النضال السابق ليوم 14 جانفي 2011 وبزخم المدّ المكتسب من الثورة وبزخم المكاسب المنتظرة، تجمّع العشاق في قاعة عبد الحق بن حمودة ليلتقوا، ليستمعوا، ليغنوا، وليجددوا العهد. وحدهم جاء الاوفياء كما عادتهم في كل المعارك واستعادوا أياما خوالي ولكنهم كم كانوا سعداء باجيال تأخذ عنهم المشعل. جاء الاوفياء وعلى رأسهم المناضل الفذ الهاشمي بن فرج، هذا الذي اكتشف ذات يوم وهو يتجول في احد احياء العاصمة الفرنسية باريس، مغنيا يردد كلاما محبّبا الى نفسه لكن لم يسمعه من غيره. كما جاء مناضل آخر لا يقل عنه قيمة ومبادرة إنه الاذاعي اللامع الحبيب بلعيد الذي بادر أيام الجمر والعسف والجبروت والقهر، في العهدين، بتمرير أغاني ذلك الرجل في الاذاعة العمومية، نعم في الاذاعة العمومية. كما جاء عديد المناضلين النقابيين الصادقين والصادقات، الملتزمين بالولاء والوفاء للاتحاد العام التونسي للشغل دون سواه من المنظمات والاحزاب، فكان اللقاء حميميّا محمّلا بالدلالات والمعاني. محمد المسلّمي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل ببنعروس لم يتكلم طويلا. ذكّر من قد نسي ان هذه التظاهرة نشأت قبل 10 سنوات وانها صمدت بقوّة امام محاولات اجهاضها والتشويش عليها وان المشاركين فيها منذ بدئها اسسوا دون شك للثورة المجيدة التي اندلعت ذات 17 ديسمبر من عام 2010 واختتمت ذات 14 جانفي من عام 2011 بهرب من اطلقت عليه هذه التظاهرة اسم جلاد الشعب. الدورة العاشرة كانت مناسبة لتكريم فرقة متميزة ادلت طوال سنوات الجمر الخالي بدلْوها في ابتداع فنٍّ راقٍ وكلمات هادفة أدتها بإيمان وقناعة في مختلف جهات الجمهورية واسست هي الاخرى للوعي الشعبي الجماعي الذي اصبح يرفض الفن المبتذل انها فرقة الحمائم البيض (رغم ان الشيب غزا مفرق جلّ اعضائها)، وقد حرص الفنانان الكبيران خميس البحري وآمال الحمروني على تكريم هذه الفرقة باداء بعض من أغانيها وأداء اغنية عبد الودود تكريما للشيخ إمام عيسى وكذلك ايضا اعداد اغنية لاول مرة تمتدح ثورة الشعب الليبي وكتب كلماتها المناضل النقابي التهامي الشايب ويقول مطلعها »الشعب الليبي ما يحب الذلّ« مرة اخرى غاب الصحافيون الثقافيون عن تظاهرة لطالما نادوا بمثلها في كتاباتهم وتحقيقاتهم، لكن الصور المرافقة للمناضل النقابي المثقف رضا بن حليمة تؤكد حتما ان هناك، بعيدا عن التظاهرة في حد ذاتها، بعيدا عن الاتحاد، خللا ما في الاذهان.