لا بد بادئ بدء من التذكير بأن هناك تاريخا فاصلا بين فترتين متباينتين تمام التباين في سلطة السيد القائم مقام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة. والفترتان هما الفترة السابقة للخامس عشر من مارس / آذار والفترة اللاحقة به. أما الأولى فقد تمت في ظل الشرعية الدستورية. إذ تسلم السيد فؤاد المبزع السلطة بموجب الفصل 57 من الدستور. ورغم أن الشعب كان غير راض عنها فهو لم يطالب سوى بإسقاط حكومة الغنوشي لا سيما أن السيد فؤاد المبزع بدا رجلا لا دخل له في شيء. ولكن ما حدث أنه لم يوف بالتزاماته بالسهر على انتخاب رئيس للجمهورية بسبب أن المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات استمرت واستمر معها الاضطراب الأمني المشبوه. فمنع ذلك كله انتخابَ رئيس جمهورية حسب الدستور القديم . وخرجت هكذا سلطته برمتها عن الشرعية تماما وباتت غير شرعية . وههنا تبدأ الفترة الثانية التي استمرت فيها نفس السلطة لا باعتبارها الشرعي ولكن باعتبارها سلطة تصريف أعمال لا غير . وذلك ما صرحت به. وهذا النوع من السلطات ليس له صلاحية إصدار القوانين كانت ما كانت صبغتها حتى ولو كان البرلمان حاضرا غير منحل. ولقد ادعت أنها تحكم بالشرعية الثورية رغم أن السيد فؤاد المبزع ليس إلا رئيس مجلس النواب الذي جاء بالتزوير ورفضه الشعب بسبب أنه لم يؤيد برئيسه نفسه الثورة ولازم صمت المقابر طيلة الأحداث. فرضية وفاة رأس سلطة تصريف الأعمال: ولقد حدث أن فكر أحد المواطنين الصالحين ألا وهو السيد محمد محجوب في درء الفراغ الذي قد يحدث لو توفي السيد فؤاد المبزع. فتقدم للترشح لخلافته في رسالة أرسل بها إليه يوم 15 مارس 2011 أي يوم انتهاء مدته الرئاسية الوقتية وكذلك إلى الوزير الأول ومفتي الجمهورية والرئيس الأول لمحكمة التعقيب والرئيس الأول للمحكمة الإدارية والرئيس الأول لدائرة المحاسبات يعلن فيها ترشحه لهذا المنصب. وهو يبرر ترشحه كالآتي مخاطبا السيد فؤاد المبزع : »إن فرضية وفاتكم في الفترة ما قبل 24 جويلية ترمي بثورة الكرامة إلى الفراغ. وفي غياب انتخابات رئاسية وتشريعية فإن الحكم يؤول إلى المؤسسة العسكرية. وهو ما لم يضحّ الشهداء الأبرار من أجله رغم تقديرنا اللامتناهي للجيش الوطني. سيدي الرئيس المؤقت الموقر إن الثورة لم تنصبكم قائدا كما أن الدستور يقلص من صلاحياتكم إضافة إلى تفاقم التحديات الداخلية والخارجية مما يستوجب قرارات عاجلة ترنو بالثورة نحو دولة ديمقراطية مستقرة ومستعدة لكل الطوارئ وكيف نحقق حلمنا بالحرية والديمقراطية والقطع مع الماضي بمماراسات فوضوية لا حضارية أو بمؤسسات المجتمع المدني المنصبة أو المنتخبة في ظروف ما قبل 14 جانفي«. رد سلطة تصريف الأعمال بالمرسوم الرابع عشر: ولم يكن السيد محمد محجوب ليتصور أن ترد عليه السلطة الخارجة لتوها من الشرعية بالمرسوم عدد 14 الصادر يوم 23 من الشهر نفسه مارس/ آذار ذاك الذي ينظم السلطات العمومية بشكل أحادي. فلم تقطع هكذا هذه الجماعة مع »المماراسات الفوضوية غير الحضارية« . بل إنها أتاحت لنفسها بنفسها سلطات واسعة كان الدستور قد قلص منها كما بين السيد محمد محجوب. ولقد أقدمت هذه السلطة على إصدار هذا المرسوم محاكاة للأمر العلي الصادر بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول 1955 بخصوص التنظيم الوقتي للسلطات العمومية والمنقح بأمر عليّ آخر في 3 أوت/ أغسطس 1956 ظنا منها أنها أصابت رميتها. لكن الأمر مختلف بينها أيما اختلاف. التباين بين الأمرين العليّين لتنظيم السلطات العمومية تنظيما مؤقتا وبين المرسوم موضوع الحال: وهذا التباين واقع للأسباب التالية: 1 لقد صدر الأمران العليّان بتنظيم السلطة وقتيا عن جهة شرعية تاريخيا كانت سلطة الحماية معترفة بها وكذلك الحركة الوطنية. 2 إن الأمرين العليّين لم يرقيا إلى مستوى دستور وإنما فوضا بعض سلطات الباي إلى الوزير الأكبر. حقيقة المرسوم الرابع عشر: أما إذا عدنا إلى المرسوم الرابع عشر الصادر في 23 مارس/ آذار 2011 فهو يختلف عنهما من عدة أوجه: 1 لقد صدر هذا المرسوم عن جهة غير شرعية تماما. 2 لقد حل هذا المرسوم المجالس الدستورية جميعها عدا المجلس الأعلى للقضاء حتى تتمكن السلطة غير الشرعية من استعمال القضاء استعمالها المعهود. 3 ولقد حل مجلس النواب. ولكنه بمفارقة عجيبة أبقى على رئيسه. 4 والأنكى في الأمر أن هذه السلطة بعد حل مجلس النواب ومجلس المستشارين استولت على صلاحيات سلطة الاشتراع وباتت تصدر القوانين ذات الصبغة الاشتراعية وكأنها تراتيب عادية. بل باتت »الحكومة تجتمع لتصدر جملة من المراسيم« كما تقول الصحافة. 5 ولقد أباح المرسوم الرابع عشر لهذه السلطة غير الشرعية ما أباحه الدستور القديم من صلاحيات مثل المصادقة على المعاهدات التي كانت تتطلب أن تعرض على البرلمان وإسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية وغيرها مما يذكره الفصل التاسع منه. وهي صلاحيات لم نسمع إطلاقا أن حكومة تصريف أعمال تتمتع بها. 7 ولقد نظم المرسوم انتقال السلطة في حال الشغور. يقول في فصله العاشر: »لرئيس الجمهورية المؤقت إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض بأمر سلطاته إلى الوزير الأول. وعند شغور منصب رئيس الجمهورية المؤقت لوفاة أو استقالة أو عجز تام يتولى الوزير الأول فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة. وإذا تزامن شغور منصب رئيس الجمهورية المؤقت مع شغور منصب الوزير الأول تنتخب الحكومة المؤقتة أحد أعضائها الذي يتولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة«. وهكذا تكون قد احتاطت لأمرها أيما احتياط حتى لا تخرج السلطة من بين يديها. إذ إنها افترضت وفاة الشيخين في الوقت نفسه. فقررت انتقال السلطة إلى أحد أعضائها بالانتخاب دون أن تفكر في شرعية ما فعلت. ديباجة المرسوم الرابع عشر: لنفهمها علينا أن نقف على بنيتها اللغوية والمنطقية. وهي كالتالي: »إن رئيس الجمهورية المؤقت باقتراح من الوزير الأول حيث أن... وحيث أن... وحيث أن... وحيث أن ... وبعد مداولة مجلس الوزراء يصدر المرسوم الآتي نصه«... وهذا الملفوظ كله يشكل نحويا جملة شرطية يمكننا أن نعيد صياغتها كالآتي: بما أن..وأن..وأن..وأن..يصدر رئيس الجمهورية المرسوم الآتي نصه... أما في عرف المنطق ففيه أربع قضايا منطقية شرطية متصلة ذات جزاء واحد. أما شكله المنطقي فهو كالآتي: »بما أن كذا.......يصدر«... »وبما أن كذا......يصدر«... »وبما أن كذا...... يصدر«... »وبما أن كذا.......يصدر«... والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو التالي: بأي اتفاق حدث أن اقتضت هذه المشروطات الأربع جزاء واحدا علما أن الحكم على الموضوع في القضايا الشرطية يكون نتيجة للعلاقة بين المقدم (ويدعى المشروط والشرط كذلك) وبين التالي (ويدعى الجزاء وجواب الشرط كذلك؟) وذلك ما سننظر فيه في ما يأتي: 1 القضية الشرطية الأولى: »حيث أن الشعب التونسي هو صاحب السيادة يمارسها عن طريق ممثليه المنتخبين انتخابا مباشرا حرا ونزيها يصدر رئيس الجمهورية المؤقت المرسوم الآتي«. وهنا لا بد من طرح السؤال التالي: ما العلاقة بين الشرط والجزاء في هذا المركب الشرطي؟ الشرط هو تذكير بحقيقة عامة لا يترتب عنها ضرورة إصدار هذا المرسوم لا سيما أن الشعب ليس له ممثلون في الوقت الحاضر. وفي هذا مصادرة على المطلوب أي أن الشرط لا يؤدي إلى نتيجته المنطقية بل إلى نتيجة أخرى تستجيب لهوى واضعيه. ولقد كان ينبغي القول: »بما أن الشعب التونسي هو صاحب السيادة وهو يمارسها حصرا في غياب ممثليه المنتخبين بالاستفتاء يصدر القائم مقام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة المرسوم الاستثنائي الحالي باستفتاء الشعب في كذا وكذ«ا.... 2 القضية الشرطية الثانية: »وحيث عبر الشعب أثناء ثورة 14 جانفي 2011 عن إرادة ممارسة سيادته كاملة في إطار دستور جديد يُصدر رئيس الجمهورية المؤقت«... والمعضلة هي نفسها وهي أن لا علاقة البتة بين الشرط والجزاء لا علاقة بين ما طالب به الشعب في المشروط وبين إصدار مرسوم يشرع سلطة تصريف أعمال. فيقر دستورا وقتيا دون الركون إلى صاحب الأمر في ذلك. وفي ذلك نفس المصادرة على المطلوب. والأنسب هو أن تكون الصياغة كالآتي: »وبما أن الشعب قد عبر أثناء ثورة 14 جانفي 2011 عن إرادته في كتابة دستور جديد تعلن سلطة القائم مقام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لتصريف الأعمال قبولها بهذا المطلب واستعدادها لتسخير الإمكانات اللوجستية للدولة من أجل تحقيق هذه الغاية المقدسة«. ولابد كذلك من أن نلاحظ أن الثورة لم تكن ثورة 14 جانفي/ كانون الثاني بل ثورة سبتمبر/ كانون الأول 2010 ثم الأشهر الباقية إلى اليوم. وحصرها في يوم واحد لا غاية له إلا الإيهام بأن الثورة كانت على رجل واحد في حين أنها ثورة على النظام برمته. 3 القضية الشرطية الثالثة: »حيث أن الوضع الحالي للدولة بعد الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية في 14 جانفي 2011 كما أقر ذلك المجلس الدستوري في إعلانه الصادر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية المؤرخ في 15 جانفي 2011 لم يعد يسمح بالسير العادي للسلط العمومية كما صار من المتعذر التطبيق الكامل لأحكام الدستور يصدر رئيس الجمهورية المؤقت«... وهنا ثمة خلط بين الفترتين التي يفصل بينهما تاريخ 15 مارس/ آذار 2011 كنا قد نبهنا إليه في مقدمة دراستنا هذه. أما إذا أصبح متعذرا التطبيق الكامل لأحكام الدستور فهل ذلك يبيح إصدار دستور بغير وجه شرعي؟ الفرق بين مصر وتونس: وليعلم الجميع أن المجلس العسكري في مصر الشقيقة وهو مفوض بصفة شرعية لتولي مهام تصريف شؤون الدولة ليعلموا أنه حين أراد أن يتجنب فراغا دستوريا مثل الذي وقعنا فيه استفتى الشعب في تنقيحات أدخلت على فصول الدستور القديم المنتقدة في ظرف شهر واحد. علما أنه لو لم يصوت الشعب بالإيجاب على تلك التنقيحات لمر المجلس مباشرة إلى انتخاب مجلس تأسيسي دون انتظار. ولكن لما قبل الشعب بالدستور القديم المنقح على أنه دستور وقتي أرجئت كتابة الدستور الجديد إلى البرلمان المنتخب كما وقع في إسبانيا. أما سلطتنا الموقرة المتخرجة من »المدرسة الدستورية« الغراء فقد نابت عن الجميع وأصدرت دستورا وقتيا دون الرجوع إلى الشعب ولا حتى إلى الأحزاب. 4 القضية الشرطية الرابعة: »وحيث أن رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال الوطن وسلامة ترابه ولاحترام القانون وتنفيذ المعاهدات وهو يسهر على السير العادي للسلط العمومية ويضمن استمرار الدولة يصدر رئيس الجمهورية المؤقت المرسوم الآتي«... ومن الملاحظ ضعف الصياغة اللغوية في المرسوم كله وفي ملفوظ هذه القضية بصفة خاصة. ولذلك سأعمد إلى صياغتها من جديد صياغة لغوية ملائمة: "»وبما أن رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال الوطن وسلامة ترابه ولاستمرار الدولة والساهر على احترام القوانين وتنفيذ المعاهدات وعلى السير العادي للسلط العمومية يصدر رئيس الجهورية المؤقت المرسوم الآتي«... وفي هذا إحالة ومصادرة على المطلوب بينة. والأصل فيهما واقع في أن حجة أن الرئيس هو الضامن والساهر على ما ذكر لا تبرر إصدار السيد الرئيس المؤقت ما أصدر. فهو لا يتمتع بسلطة اشتراع إطلاقا. بل الشأن فيه لنواب الشعب المنتخبين انتخابا صحيحا أصيلا أو للشعب نفسه بالاستفتاء. ومن الواضح أن هذا النص عدا عن شوائبه القانونية والمنطقية يقودنا إلى التساؤل عمن صاغه: كيف لجهاز إدارة الدولة أن يرتكب مثل هذه الإحالات؟ وهو ما يضع موضع شك كفاءة أعضاء سلطة تصريف الأعمال أنفسهم. أما إذا تخلينا عن هذا الافتراض فلن يبقى غير افتراض واحد وهو أن الباطل لا يمكنه أن يصاغ صياغة صحيحة أبدا لأن من يكلف بها لن يكون في قرارة نفسه مقتنعا بما يفعل. فيرتكب التناقضات جميعها. ويضطرب المنطق لديه. ويضطرب القلم بمداده بين يديه. وقصارى قولي ليس ثمة من قانون صادر بمقتضى هذا الدستور الصغير هو شرعي ولا قانون الانتخابات نفسه الذي لا ضرورة له. إذ لا ضرورة إلا إلى إصدار قانون يحدد نمط اقتراع سليم يرضى به الشعب. وإن الشعب لغير راض ونسبة التسجيل في قوائم الناخبين تمثل الدليل القاطع على ذلك. إذ إنها تشكل استفتاء بالسلب عل القانون نفسه وعلى عدم ثقته في سلطة كانت قد درجت على تزوير إرادته وهي الآن قد باتت تعترف بذلك علنا. وليس مضمونا أن من سجلوا بالإحراج في المساحات التجارية العامة وفي مكاتب البريد وغيرها سيذهبون إلى الإدلاء بأصواتهم يوم 23 أكتوبر القادم. وليدركوا جميعا سلطة تصريف أعمال وأحزابا غير شعبية متهافتة أن الشعب لن يقبل بالمشاركة في انتخابات فرض عليه فيها أشد أنماط الاقتراع شذوذا ولن يقبل بشرعية هذه الانتخابات إلا إذا كان كل شيء شفاف بحق وليس بالكلام فحسب. وذلك بالاستجابة له في نمط اقتراع يرضيه. والنمط الذي يرضيه معروف. فالشعب لا يثق في القوائم نسبية كانت أو مطلقة تلك التي كانت الديكتاتورية تفرضها عليه وهو ليس ضد المرأة. ولكنه مل بنسائه ورجاله فرض النساء عليه فرضا تحت ظل الديكتاتورية الباغية. ولقد بات يدرك أن المناصفة والترتيب معا جعلا للحد من ترشح أبنائه الذين يثق فيهم. وليس ثمة من حل يعيد الثقة للشعب في الانتخابات غير الأداة المنطقية السليمة الوحيدة ألا وهي الاستفتاء. لكن تهرب السلطة غير الشرعية الحالية والأحزاب غير الشعبية التي تريد اقتسام السلطة معها ليمثل دليلا قاطعا عل إحساسهم بعدم شعبيتهم. وإنما هذا السلوك الاستحواذي يؤكد أن عقليتهما معا هي عقلية حسينية خالصة. أي أن ثمة أعيان من جهة وثمة عربان من جهة أخرى متعامين عن الحقائق الجديدة من أن هذا التقسيم بات لاغيا من زمن بعيد. وإني أتحدى الأحزاب للرد على ما بينت وحللت.