هائل ومروّع جدّا ذاك الموقف الذي عشناه وعايشناه في مدينة فوسانة من ولاية القصرين ونحن نزور عائلتين بلغنا عنهما ما بلغنا من أخبار لا يقبلها العقل ولن يقبلها ضمير خاصة هذه التي نشهد فيها زحمة ركاب على حمار الثورة كل يعزز دينه فتصرخ وأصرخ معك »ليت شعري ما الصحيح« على رأي لزوميات أبي العلاء المعري... قلت عائلتان انهكهما الزمن برزية المرض واضاف اليها الفقر وعطف عليها لا مبالاة وحيف لم تقْو على تحملهما تلك الاجساد التي التي رأيناها زاحفة وعاجزة (البعض منها) على بثّ الشكوى والضّنى... ❊ الرحموني محطتنا الاولى كانت بيت الاشقاء الثلاث حسين والسعيدي والعرْبي الرحموني واعمارهم على التوالي 51، 47، 41... هناك تهالك كل منهم في مكان بانتظار من يحركهم من مواقعهم من أهل المعروف والخير من الجيران الطيبين الذين لا يفوتونهم ماديا إلا بالصبر!! اقتربنا منهم... سلمنا وقدمنا الصفة وموضوع الزيارة فكان ردّ التحيّة باحر منها واي أحرّ من دمع ترقرق في مقل الثلاثي المتكدس بلا حراك.. مما ألجمنا عن طرح أي سؤال وسط تلك الاجواء الخرساء والصمت المدمّر حيث ان ثلاثتهم لا يقوون على النطق الجيّد للتعبير عن الوجع والالم والحزن... صمت مزقه بعض المنطوق من »السعيدي« والذي حاول افْهامنا سرّ هذه البلية التي ألمت بهم والمصاب الذي دمّر حياتهم حيث أفادنا وبصعوبة ان أوّل المصابين كان شقيقه الاكبر حسين ثم شقيقه الاصغر العربي ليأتي عليه الدور في مرحلة ثالثة... وعن أعراض هذا المرض يقول السعيدي ان أوله ارتخاء في الساقين حيث لم يكن يقوى على صعود مدرج مثلا ولا بذل جهد لقطع مسافة بسيطة ولم تستمر الحالة طويلا بل تضاعف الامر ليشمل باقي الاعضاء حيث تداعت سائر أجهزة الجسم بما فيها النطق!! لتتحول الحالة الى عجز تام وشلل كامل هذه الحالة كانت هي نفسها بالنسبة إلى الاشقاء الثلاثة... وعن معاناتهم اليومية وظروف العيش يقول السعيدي ان الامر على غاية الصعوبة حيث اننا على الدوام محتاجون إلى »الآخر« حتى للضرورة البشرية القصوى وفي صورة غياب هذا الاخر هي المرارة التي لا تُحكى!! ❊ جرح على نزف!! السعيدي هو الوحيد الذي تزوج عسى الله يفرج بعض الغمّ وتتغير وتيرة الضنك الذي يعيشون وفعلا رزق ورزق الاهل بمريم فكانت الفرحة العارمة التي لم تدم حيث تمكن السرطان بآلام اي زوجة السعيدي التي هي نزيلة دائمة بمستشفى حشاد بسوسة منذ أشهر قطعتها رخصة قصيرة بثلاثة ايام فقط للعيد عادت على اثرها الى المستشفى في انتظار رحمة من ربّ العالمين ويقظة ضمير خلق الله الموْبوئين (هم الاخرين) بالسياسة والتكمبين والشعارات واللافتات الكاتمة للانفاس والتي ترفرف على جنبات المسكن حيث يتهالك هذا الجمع من الرجال! ❊ جوار الألم... غير بعيد عن بيت هذا الثلاثي تنبت ذات المعاناة وابشع في بيت السيد الصادق الرحموني حيث يتكرّر ذات المشهد وكم هو مؤذٍ ان ترى ذاك الشيخ »الصادق« مقعدا بفعل ذات البلية وعلى يمينه ابنه الطاهر (34 سنة) وعلى شماله ابنه فؤاد (33 سنة) وقبالته ابنته نورة (30 سنة) وجميعهم مشلولو الحركة متلعثمو النطق فاقدو السمع لا ولي ولا نصير سوى الله »وردة« الابنة السليمة التي نذرت حياتها شأنها شأن والدتها لخدمة رُباعي (والدها وشقيقتها وشقيقيْها) وتأمين كل الحاجيات بلا أوف ولا آه... وردة افادتنا بان رحلة العائلة مع هذا الوجع انطلقت في سنة 86 باصابة الوالد »الصادق« ثم وفي سنة 94 الطاهر (33 سنة) ثم فؤاد (32 سنة) ثم نورة (30 سنة) وثلاثتهم اصيبوا في خلال شهر واحد! هؤلاء وعلى هول ما هم عليه بدا عليهم الصبر والرّضا بهذا النصيب حدّ التعفف على قول ربّ العالمين في ما معناه تحسبهم اغنياء من التعفف حيث لم ينخرطوا شأنهم شأن العائلة الأولى قلت لم ينخرطوا في بكائيات التشكي والمطلبية الرّخيصة التي تميز بها عباد هذا الوطن هذه الايام... وهو اي هذا التعفف ما لا يمنعنا من توجيه نداء استغاثة باسمهم لكل من يرى انه فاعل ماديا وطبيّا لانقاذ ما يمكن انقاذه قبل حدوث تطورات اخرى متوقعة ونسأله الله ان لا تحدث حيث لابدّ من تزويدهم بكراسٍ كهربائية، وأسرّة مريحة الى جانب جرايات تكفل بعض الامان لغوائل اخرى، ولِم لا توفير عامل او عاملة من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية لرعاية مثل هذه الحالات وخاصة الحالة الاولى الاتي تحدثنا عنها في مقالنا هذا. ❊ مع الطبيب ملف هاتين العائلتين عرضناه على بعض الدكاترة الأجلاء الذين توصلوا إلى أن الداء لا يعدو أن يكون سوى Meopathie Familiale وهو داء عضال ومربك ومعقد يستوجب العناية الفائقة التي قد تضمن بعض الشفاء ولعل ايسر المحاولات الممكنة هي الاقامة بأحد اقسام الطبّ البدني Medecine physique على غرار ذاك الموجود في مستشفى سهلول بسوسة... ❊ أفلاَ تشعرون؟ سنون عديدة وأيام طوال فاتت وأعياد كثيرة مرت على هؤلاء وهم على هذا الغم والألم والبلاء والابتلاء دون ان يكترث أحد خاصة من محترفي اللغو السياسي ماضيا وحاضرا هؤلاء الذين تلطخت أياديهم بكتابة الشعارات ولافتات الولاء وخرق التمجيد والتهليل والتبشير التي كان أولى ان يخنقوا بها انفسهم او يحشوها في أفواههم عندما يرون ما رأيناه ويحسّون ما أحسسنا به ويستوعبوا تلك المعاناة وذاك المشهد الدرامي الذي بلا نظير.