تحت لهيب أشعة شمس حارقة يقف العم محمد على مقربة من محطة »الباساج« للمترو الرئيسية للعاصمة ينتظر الساعات الطوال إحسان ذوي الفضل و المنة دون جدوى ومع مرور الوقت يصدر الكهل بتأفف من أعماقه صوتا حزينا متقطعا ينبعث في الفضاء »لم نستفد من الثورة وأوضاعنا تزداد سوءا ولا أحد يهتم لحالنا«. العم محمد (45 سنة) هم من بين المئات من المتسولين الذين غصت بهم شوارع العاصمة التونسية منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الثورة والذين أصبح يطلق عليهم بظاهرة »المتسولين الجدد« والذين تضاعف عددهم في العاصمة. كل سكان العاصمة تقريبا تفطنوا إلى طابور المتسولين الجدد الذي أصبح يطرق أبواب العاصمة مع كل صباح جديد و الذين لم يتجاوزا زمن الرئيس بن علي بضعة عشرات في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي على سبيل المثال يقول احد أصحاب المتاجر لموقع تونس تنتخب. غير أن هذا الانتشار الملفت للمتسولين تجاوز شارع الحبيب بورقيبة ليشمل كل مفترقات العاصمة وحدائقها العامة حيث تراهم في كل مكان افترشوا الساحات والمحطات انتشروا في الحافلات والقطارات وأرصفة خطوط المترو هذا فضلا عن جولاتهم اليومية بين طاولات المقاهي والتي تصل إلى حد الخصومة مع أصحابها. ويرجع العديد من الخبراء الاجتماعيين انتشار المتسولين إلى التسيب الأمني و الاجتماعي الذي تعيشه البلاد في جميع الميادين حيث يقول الدكتور محسن بوعزيز والمختص في علم الاجتماع لموقع تونس تنتخب »أن انهيار الرقابة التي كانت حاضرة بقوة زمن الرئيس السابق زين العابدين بن علي فسح المجال أمام الشحاذين والهامشيين أن يتحركوا بحرية دون رقيب أو حسيب« وأضاف »صحيح أن التسول هو عملية اضطرار بالنسبة للبعض وهو أمر غير مرغوب فيه غير ان البعض الأخر اعتمده وسيلة من اجل الاسترزاق السهل«. ويضيف بوعزيز »أن انتشار المتسولين الجدد ناتج بالتأكيد عن تخلي الأعوان الأمنيين و المرشدين الاجتماعيين عن دورهم في مراقبة الظاهرة و الحد منها و خاصة في الشوارع الرئيسية للعاصمة و التي تعتبر وجه المدينة أمام الزائرين و السياح«. وإذا كانت عملية التسول تحتاج إلى برهان و دليل من قبل الأصحاء الذين يقومون بها فإنها تبدو مبررة بالنسبة للعديد من المراقبين في خصوص أصحاب العاهات الجسدية الذين تكاثروا بطريقة ملفتة للنظر في شوارع العاصمة. فتحت سياج حديقة الحبيب ثامر وسط العاصمة وبوجه شاحب وجسد نحيل يقف كهل على ساق واحدة ويدين ترتجفان ممسكا بورقة بيضاء متسخة مهترئة كتب عليها »بطاقة معاق« فيما يمد يده الأخرى لأهل السبيل عسى أن تظفر بملاليم أو ربما دنانير ويقول لموقع تونس تنتخب »جرايتي الشهرية باعتباري من ذوي الاحتياجات الخاصة لم تعد تغطي نفقاتي اليومية« ويعلل العم مختار أسباب امتهانه التسول »بأنه أب لعائلة غفيرة العدد مصاب بعاهة أقعدته عن الحركة«. ولم نتمكن من معرفة رأي وزارة الشؤون الاجتماعية حيث رفض المسؤولون التعليق على انتشار الظاهر غير أن العديد من الأخصائيين حالوا تفسير الظاهرة لنا من ذلك أن الخبير في علم النفس »سامي الرقيق« اعتبر لموقع تونس تنتخب »أن كثير من المتسولين يستغلون الحالة التضامنية التي نشأت بعد الثورة تجاه الفقراء بشكل عام باعتبار أن الثورة قامت نتيجة الحاجة و الفقر و انعدام العدالة الاجتماعية غير أن المواطن و يبقى حائرا أمام ظاهرة انتشار أصحاب الاحتياجات الخاصة و طريقة التعامل معهم باعتبار«. »لسعد« هو من هؤلاء الذين يصنفون من ذوي الاحتياجات الخاصة فعند مفترق شارع باريس و الحبيب ثامر وبعينين ذابلتين يرمق بهما المارة وبخبرة طويلة أتاحت له فرصة التعرف على معادن الناس من خلال قسمات وجوههم ونظراتهم يفترش لسعد الأرض واضعا أمامه منديلا أحمر فاقع فيه بعض الملاليم المتناثرة. وبيديه المشلولتين يسند لسعد رأسه على الحائط وينتظر تلقف شيء من المال، المفارقة أنه يشحذ تحت حائط مؤسسة بنكية و يعلق ساخرا »لو أقدمت على طلب قرضا هل تراهم يوافقون على مطلبي فورا«. هناك من بين المارة من يشكك في إعاقة لسعد و أمثاله ممن ستدرون عطف المارة النفسي عبر إظهار أنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة و أنهم يعتمدون هذه الطريقة من اجل دفع المارة إلى مدهم بمساعدة ما . وحول هذه الظاهرة التي انتشرت داخل صفوف المتسولين كطريقة جديدة تشبه »متسولي أوربا الشرقية من الغجر« يقول احد المارة يعلق الدكتور بوعزيز نعم معظم المتسولين هم من ذوي الحاجات الخاصة غير أن منهم من يدعون الإعاقة وهذا مؤشر خطير ونحن في فترة نحث فيها على العمل لا التكاسل فكيف يمكننا ان نفرق و هل يحتاج كل معاق ان يظهر شهادته بشكل مهين من اجل إثبات انه محتاج فعلا؟« مما لا شك أن العديدين يعتبرون أن ظاهرة التسول بحد ذاتها ليست جديدة غير أن الجديد هو ارتفاع أعداد المتسولين و جدة طرقهم في ابتكار التسول كحرفة جديدة في زمن الثورة بحسب تعبير احد أصحاب أحد المقاهي الذي يضيف قائلا "نحن في حيرة و المواطن كذلك فالشعب الذي استطاع أن يطرد بن علي و جبروته بذكاء خارق يقف عاجزا اليوم أمام الأفواج الكبيرة من المتسولين الذين يتوافدون كل يوم علينا و التفريق بين من يحتاج منهم و من يسترزق ومن هو ذا عاهة تتطلب المساعدة وبين من يصطنع انه ذا عاهة مستديمة«.