هل تذكرون من أمر قريدة شيئا؟ لقد حملت قريدة من قريد. ولما أن وضعت احتفت مدينة الباأوباب وارفة الظل بقرّود. ولما أن شب هذا عزم على الضرب في الآفاق كوالده. وسنحت فرصته لما أن حل بالمدينة تاجر من بلد العجائب. فعرض شراءه. فقبل قرّود. ودفع له التاجر الثمن قطعة حلوى وأخرى من الشكولاطة. كما دفع لأبيه قارورة وسكي ولأمه قلادة من الخرز الأخضر. وفرح الجميع أي فرح. ومن الغد سافر التاجر يصحبه قرّود. وغاب هذا حولا كاملا. وفجأة عاد وبشره سابقه. فاستقبل بالترحاب. ولكن أمه لامته قائلة: تراك آبق يا ولدي ؟ فقال: لا يا أمي. لقد وقعت ثورة وفر الجميع. ففررت بجلدي مثلما فروا. وبعد أيام فوجئ سكان المدينة بصوت غريب يرتفع بين أرجائها: الشعب يريد إسقاط الحكومة! الشعب يريد إسقاط الحكومة! فخرجت جموع الشعب تنظر في الأمر. وفكروا أن قرّود أصيب بلوثة في بلد العجائب. فاقتادوه إلى أمه. فرقته. لكنه بعد أيام عاد لينادي بإسقاط الشيخ أبي مهل: يسقط الطاغية المستبد. يسقط الطاغية المستبد. وما لبث الأمر أن تفاقم لما أن انضم إليه جمع من الشباب يهتف وراءه: الشعب يريد إسقاط الحكومة. ولما وصلوا قدام قصر الحكم خرج لهم أبو مهل يرفل في كسوة بيضاء ولحية كأنها من لجين مذاب. فهتفوا في نغم ملتئم: الشعب يريد إسقاط الحكومة! وتكلم أبو مهل . فقال: يا أولادي لا تعنوا أنفسكم. فأنا قد قبلت هذه المهمة عن مضض. ولم أكن راغبا فيها البتة. وإن سنّي لا يحتمل ثورتكم علي. فاعتبروني من الآن مستقيلا. وإني باق فحسب لتصريف الأعمال. فقاطعه قرود : لا تصدقوه. هكذا فعل «قريقوار» الذي بعد أن طمأن الناس استبد بالحكم. فرد الشيخ: بل أنا مستقيل من الآن يا أولادي. فأنا لم أكن يوما حاكما. بل كنت حكما. ثم ما أهمية الحكم حتى أتمسك به. فأنا لا أحتاج إلا إلى القليل من الغذاء وكثير من الشكران. فصاح به قرّود: لا تصدقوه ! إنه يتدثر بعباءة الدين. ولكن الجمع شهق شهقة واحدة وسألوا: ما دين؟ فقال : الدين هو أن تصلي ظاهريا لله وأن تمارس باطنيا السياسة. فسأل الشباب: وما سياسة؟ فقال: هو أن تكذب من الصباح إلى الليل وتنافق وتتآمر على الشعب. ولم يفهم شباب الباأوباب من رطانته شيئا كثيرا وبدؤوا يغمغمون بعض الغمغمة. فقال الشيخ: أما أنا فلا أعرف معنى شعب ولا معنى كذب ولا معنى دين ولا معنى سياسة. فكلنا ههنا راعٍ وكلنا رعية. فصاح قرّود بصوت عال: لا تصدقوه. لا تصدقوه. إنه المسيح الدجال. وههنا لم يكن بوسع الشيخ أبي مهل إلا أن يخرج مفتاح الدريبة. فألقى به للجموع قائلا: أنا مستقيل للتو يا أولادي . وصَرّفوا أعمالكم بأنفسكم. وذهب يتوكأ على عصاه راضيا مرضيا. وبعد مدة أدرك قرّود أنه أخطأ بحق الشيخ أبي مهل. فجاءه معتذرا. فسأله أبو مهل: ولكن من أين تعلمت يا ولدي كل هذا؟ فرد قائلا: من بلد العجائب الذي كنت فيه. وهو بلد جميل جدا لكن ليس فيه من جميل غير شعبه وشاعره أبي القاسم الشابي. أما الأحزاب و «قريقوار» فحدث ولا حرج. وقرأ عليه قصيدة شاعر بلد العجائب لكل الأزمان والتي مطلعها: أنا يا تونس الجميلة في لُجّ الهوى قد سبحت أيّ سباحَهْ شِرْعتِي حبّك العميق وإني قد تذوقت مُرّه وقراحَهْ وأعجب الشيخ بالقصيدة أي إعجاب. فوعده قرّود بأن يقرأ عليه في المرة القادمة «نشيد الجبار» و «إلى طغاة العالم» و «إرادة الحياة» وغيرها من الدراري السماوية. وانصرف مرددا : لن أغادر بعد اليوم مدينة الباأوباب الفاضلة.