إن الشغالين التونسيين إذ يحيون الذكرى الرابعة والثلاثين لأحداث 26 جانفي من سنة 1978 فهم يستحضرون وقفة الشرف أمام الظلم والتصدي الشجاع للاستغلال ولهجمة شرسة استهدفت القضاء نهائيا على الاتحاد العام التونسي للشغل بتركيعه إلى الأبد وجعله أداة طيعة للنظام، وفي إحيائنا لهذه الذكرى المجيدة فإننا في نفس الوقت نستذكر صفحة مشرقة من نضالات النقابيين وتضحيات الشهداء من مختلف فئات الشعب دفاعا عن الحق والعدل والحرية وفي مقدمتهم الأخوان سعيد قاقي وحسين الكوكي. لقد اتّسم الوضع العام للبلاد آنذاك بتصاعد حالة عدم الرضا لفئات بقيت خارج مسار التنمية وتصاعد الشعور بالحرمان الذي تفشّى على أوسع نطاق والذي مسّ أيضا الطبقات المتوسطة جرّاء الغلاء الفاحش وتدهور المقدرة الشرائية. كما اتّسم نتيجة السياسة الليبرالية التي انتهجتها حكومة الهادي نويرة بإثراء فاحش لأقلية اجتماعية لم تتورّع عن التظاهر وسط عوز متفشّ بآثار الثروة التي كدّستها بفضل مضاربات كثيرا ما تتم على حساب مقدّرات الدولة: قروض بفوائد زهيدة، إعفاءات جبائية، سوء تصرف في المؤسسات العمومية، الفوز باحتكارات على حساب المجموعة الوطنية: فسادُو، رشاوٍ على شراءات الدولة. وبمجرّد تحرّك النقابيين في عدة قطاعات لمواجهة ارتفاع كلفة العيش والمماطلة في تطبيق بنود الاتفاقات المهنية ومعارضة السياسات القائمة عمد النظام إلى احتواء الأزمة بدعوة الاتحاد إلى إمضاء ميثاق وطني يقضي بالالتزام بسلم اجتماعية طيلة المخطط الخامس مقابل ترفيع عام في الأجور في القطاعين العمومي والخاص. غير أن هذه السلم الاجتماعية لم تثبت أمام تواصل ارتفاع نسق التوتّر الاجتماعي من جهة وتصدي الشقّ المتصلب داخل الحزب لأي زيادة في الأجور واتهام الاتحاد «بإيواء عناصر متستّرة في صفوفه» بمناسبة نقاش قانون الميزانية صلب مجلس النواب وبذلك اختارت السلطة منذ ذلك اليوم المواجهة الفعلية مع القوة الشعبية الأولى على الساحتين الاجتماعية والسياسية بالبلاد حيث سخّر الحزب ميلشيات للاعتداء على دور الاتحاد في توزر والقيروان وسيدي بوزيد وسوسة وأصبحت وسائل الإعلام تدعو إلى عقد مؤتمر استثنائي قصد تنحية قيادته. فردّ الاتحاد دفاعا عن وجوده وعن استقلاليته بمجموعة من النضالات والمسيرات توّجها بإضراب عام احتجاجي يوم 26 جانفي 1978 صاحبته مظاهرات صاخبة فتدخل الجيش وسقط عدد كبير من الضحايا، كما فرضت حالة الطوارئ، وتم اعتقال القادة النقابيين وتنصيب قيادة جديدة موالية للسلطة في مؤامرة لم تكن تستهدف استقلالية الحركة النقابية فحسب بل كانت تهدف إلى تصفية الاتحاد العام التونسي للشغل تصفية نهائية وخنق كل صوت احتجاجي في البلاد. وقابل النقابيون هذه الإجراءات بإصدار بيانات شجبوا خلالها التنصيب والتمسّك بقياداتهم الشرعية والتضامن مع المعتقلين بالعرائض والتبرعات لعائلات الموقوفين في مدّ تضامني رائع. أيّتها العاملات، أيّها العمال لقد سجّل هذا اليوم الخالد في تاريخ النقابيين الالتحام الرائع بينهم وبين الحركة الديمقراطية ممثلة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وقوى المعارضة وصحافتها الحرة فتم التنديد بالايقافات والتنصيب وفضح الهجمة الشرسة التي استهدفت الاتحاد وتجنّد المحامون أمام محكمة أمن الدولة في ثكنة بوشوشة وبالمحاكم الابتدائية والدوائر الجنائية في مختلف جهات البلاد لدحض تلك التهم التي أريد إلصاقها بالنقابيين والتي تصل الأحكام في جلّها – حسب نصوص الإحالة- إلى الحكم بالإعدام والأشغال الشاقة. كما سجّل التاريخ أيضا مساندة القوى النقابية والديمقراطية في العالم حيث نادت يومئذ بإطلاق سراح المعتقلين ورفضت الكنفدرالية الدولية للنقابات الحرة الاعتراف بالقيادة المنصّبة. إلا أنه بصدور أحكام ثقيلة في حق النقابيين رسمت الهياكل الشرعية لنفسها هدف إطلاق سراح القيادات النقابية وإرجاعها إلى سالف مسؤولياتها، وكان لها ذلك بحكم العزلة التي أصبح عليها النظام دوليا وضعف الجبهة الداخلية للدولة في غياب اتحاد قوي. وبخروج الهادي نويرة من الساحة السياسية بعد عملية قفصة وبحكم النضالات الداخلية والضغوط الخارجية استعاد الاتحاد موقعه داخل المشهد السياسي للبلاد، فانعقد مؤتمر قفصة الاستثنائي بتاريخ 29-30 أفريل 1981 وانتخب فيه الأخ الطيب البكوش أمينا عاما ثم اكتمل النصاب برفع الاستثناء عن الأخ الحبيب عاشور على إثر انعقاد المجلس الوطني بتونس في نوفمبر 1981. أيّتها العاملات، أيّها العمال إن اتحادكم الذي خبر مختلف ظروف الصراع ذودا عن الحرية ودفاعا عن الشغالين في العيش الكريم وعن وجوده من خلال العمل على فرض الحق النقابي ورفض كل وصاية على قراره خرج منتصرا من كل معاركه بفضل التفاف الشغالين حوله وتبني مختلف فئات الشعب لخياراته منذ تصدّره لجبهة النضال الوطني ضد الاستعمار، وبمناسبة رفضه قرار مؤتمر الحزب الدستوري المنعقد ببنزرت في أكتوبر 1964 القاضي بتركيز الشعب المهنية في المؤسسات وأن تكون المنظمات القومية تحت إشرافه المباشر وكذلك رفضه لتركيز كل السلطات في يد الرئيس الحبيب بورقيبة وضرب كل نفس ديمقراطي من خلال الرسالة الشهيرة التي توجّه بها أمينه العام الزعيم أحمد التليلي. وفي سبيل هذه المواقف كان الاتحاد يتعرّض لمحن ما يفتأ يخرج منها منتصرا لأن الجميع يعلم بأن منظمتكم لم تكن مع المعارضة المطلقة لأي نظام، وكان شرطها في التعامل دائما: الحرية وليس التبعية في إطار الحوار الاجتماعي المسؤول والذي لا ترتهن فيه مصالح البلاد لشخص ما أو لفئة ما. أيّتها العاملات، أيّها العمال لقد احتضنتم ثورة شعبنا في كافة الجهات والقطاعات منذ انطلاقها بتاريخ 17 ديسمبر 2010 بالتأطير والدعم اللوجستي للمظاهرات والمسيرات والمشاركة النشيطة والفاعلة في صياغة وتوحيد شعاراتها وتصويب تحركاتها وحشد الجماهير لنصرتها حتى توّج الإضراب العام بتونس الكبرى يوم 14 جانفي 2011 بفرار رأس هرم السلطة وانبرى الاتحاد في التصدي لكافة محاولات الالتفاف على الثورة واقتراح وسائل الإحاطة بها إلى أن كان يوم 23 أكتوبر حيث ضرب شعبنا موعدا مع أول انتخابات ديمقراطية وشفافة في تاريخه وأصبح يتطلع إلى صياغة دستور جديد للدولة التونسية يحقق نقلة نوعية لشعبنا ويؤمّن له حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية تقوم على المواطنة الكاملة الرافضة لجميع أشكال التمييز والاقصاء والانغلاق، ويترجم مسيرة شعبنا وطموحه إلى جعل تونس تنعم بالحرية والديمقراطية والمساواة والعيش الكريم. أيّتها العاملات، أيّها العمال لقد كان انعقاد المؤتمر الثاني والعشرين لاتحادكم بطبرقة خلال الفترة 25-28 ديسمبر 2011 محطة هادئة للتقييم والوقوف عند دور الاتحاد في مرحلة ما بعد الثورة وتحديد آفاق تعاطي المنظمة مع الواقع الجديد بما يضمن عزة تونس وبقاء الاتحاد العام التونسي للشغل شامخا كما أراد له حشاد العظيم وكل المناضلين الصادقين، وفي مقدمة هذه الآفاق المساهمة النشيطة والفاعلة في إنجاز الدستور بالمواصفات التي أسلفنا ذكرها والعمل على إعادة بناء مقوّمات الحوار الاجتماعي في اتجاه تحقيق عقد اجتماعي يرسي أسس مجتمع تتوافق مختلف شرائحه على جملة من القيم والمبادئ السياسية والاجتماعية والأخلاقية يتوحّد حولها التونسيون، قيم ومبادئ ذات طابع إلزامي ومنتج لآثار قانونية، عقد اجتماعي يهدف إلى ضمان مسار اجتماعي واقتصادي سليم تتوفّر في ظله حقوق جميع الأطراف، عقد يقطع مع الاستبداد والاستغلال والفساد فلنرع هذا الحلم ولنعمل على تحقيقه.