لا تزال الخارطة الصحيّة بالبلاد التونسيّة تعيش حالة من التردّي وانعدام الحدّ الأدنى الذي يوفر للمواطنين خدمات صحيّة تستجيب للحدّ الأدنى للمعايير الدوليّة، وإن كانت المستشفيات الجامعيّة والجهويّة تشكوا بعض النقائص على مستوى البنية الأساسية والتجهيزات والطواقم الطبيّة وتشهد حالة من الاكتضاظ الخانقة فإن الوضع في المستشفيات المحليّة والمراكز الصحيّة الريفيّة مأساويا يكاد يمثّل معضلة مؤرقة طالما اشتكى منها المواطنون قبيل الثورة فاكتفت سلطة الإشراف بالوعود والتسويف وبعض الحلول الترقيعيّة الوقتيّة التي لا تزيد عن كونها مسكنات سرعان ما تنتهي ليعود الخراب على حاله لا يملك أمامه المواطن سوى الصبر والتضرّع لله. عشرة أطباء ل 70 ألف ساكن اخترنا في هذا العدد أن نتناول ملف المستشفيات الداخليّة وكان اختيارنا على مدينة بئر علي بن خليفة التي يبلغ عدد سكانها قرابة 70 ألف نسمة وتمتد مساحتها على رقعة شاسعة تكاد في غالبيتها تمثل مراكز سكنيّة ريفيّة وفي مقابل ذلك نجد أن المؤسسات الصحيّة داخلها تقتصر على مستشفى محلّي وحيد خال من أغلب الاختصاصات الضروريّة و15 مركزا صحّيا مبعثرة وسط التجمعات الريفيّة المتباعدة، هذا العدد الكبير من المتساكنين لا يغطيه سوى 10 أطباء أغلبهم في الطبّ العام ممّا يجعل المرضى يتحولون باستمرار إلى ولاية صفاقس البعيدة 62 كلم لتلقي العلاج إن أمكنهم ذلك وهو ما يتسبّب لهم في تكبّد عديد المشاق الصحيّة والماديّة، هذا إن لم يمتنعوا عن مواصلة العلاج وما ينجرّ عم ذلك من تعقّد حالاتهم الصحيّة. ولمزيد الاطلاع على كثب على الوضع الصحّي داخل معتمديّة بئر علي بن خليفة كانت لنا لقاءات مع بعض الأطباء والممرضين والمواطنين وحديث مع الأخ الكاتب العام للنقابة الأساسية . ترهّل التجهيزات وعدم توفر طبيب اختصاص السيدة ليلى الميساوي (قابلة) وناظرة قسم الولادات ورغم كونها كانت مشغولة مع زميلاتها بعشرات الحالات التي توافدت على المستشفى المحلّي أطلعتنا على ظروف العمل الصعبة التي يواجهها الإطار الاستشفائي نظرا إلى حالة الاكتضاظ وترهّل التجهيزات الصحيّة أو فقدانها. أمّا من ناحية الإطار الطبّي المتوفر فأبرزت لنا أنه لا يتجاوز 9 قابلات (ناظرة و8 قابلات) يغطين العيادات الخارجيّة وحصص الاستمرار بالمستشفى، ونظرإلى تردي التجهيزات فإن القابلات يلجأن في غالب الأحيان إلى تحويل العديد من المريضات إلى المستشفى الجهوي بصفاقس خاصة مع غياب أطبّاء اختصاص (طبيب الاختصاص يزور المستشفى مرتين في الأسبوع وهي زيارات غير كافية) ، أما على مستوى العيادات الخارجية فذكرت أنهنّ تمكنّا بمشقة من تغطية كل المراكز الصحيّة (15 مركز صحّي) من خلال تنقل قابلة وممرضة بصفة دوريّة رغم تهالك وسائل النقل وصعوبة المسالك الريفيّة. أمّا أهمّ المصاعب التي تعترضهن في عملهن فتتمثّل في غياب التجهيزات حيث لا يتوفر في المستشفى سوى آلة تسجيل واحدة لا يمكن تعويضها في حال تعرضها للعطب وهو ما يتسبب في تعطل العمل إلى حين إصلاحها، أما آلة التصوير فتوجد واحدة فقط دون آلة استخراج الصور الهامدة منذ 6 أشهر بالإضافة إلى عدم توفر بعض التحاليل الضروريّة بالنسبة إلى للمرأة الحامل والتي تحتاجها أثناء مدة الحمل. وكذلك الحشايا والأغطية التي أصبحت غير قابلة للاستعمال، ولكن رغم ذلك فقد لمسنا حرصا كبيرا من قبل العاملات على توفير خدمات صحيّة مناسبة للمرضى حسب واستعداد لبذل أقصى المجهودات إذا ما توفرت الإمكانيات الضروريّة. 30 بالمائة فقط من التلاميذ يتمتعون بالتغطية الصحيّة عبد اللّه بن سالم ممرض أوّل بالطب الوقائي والطبّ المدرسي : بيّن أنّ منطقة بئر علي تعاني من تردّي الأوضاع الصحيّة على جميع المستويات، فعلى مستوى الطبّ المدرسي يبلغ عدد التلاميذ 10500 متمدرسا لا تتوفر لهم سوى نسبة 30 بالمائة من التغطية وهي نسبة لا ترتقي إلى المعايير الوطنيّة وذلك حسب رأيه راجع إلى عدم تفرغ عدد كاف من الأطباء يترددون على المستشفى والمراكز الصحيّة بالمنطقة لتغطية هذا العدد الكبير، مع العلم أن التلامذة يتلقون خدمات طبيّة من أطباء ليسوا في الاختصاص يحولونهم إلى المستشفى الجهوي بصفاقس. وقدّم لنا حالة تخصّ نقص النظر وهي من الأمراض التي صارت متفشية بين الأطفال تمّ تحويلها إلى صفاقس بعد عيادتها يوم 28 فيفري وتم تحديد موعد مع طبيب الاختصاص ليوم 27 سبتمبر. كما نبّه إلى غياب تشخيص الحالة الطبيّة لتلاميذ المدارس الأساسية في إبّانها قبل تعاطيهم لمادة الرياضة البدنيّة ممّا يتسبب لهم في مضاعفات خطيرة خاصة للمرضى بالقلب. وخلص إلى القول أنّ التغطية الصحيّة في الوسط المدرسي لم تبلغ نسبة المائة بالمائة فهي لا تشمل في المنطقة سوى سنوات الأولى والسابعة أساسي والأولى والثالثة ثانوي ولم تصل نسبتها سوى 30 بالمائة. وذلك يعود إلى كل هذه العوائق إضافة إلى صعوبة المسالك الفلاحية غير المعبدة وتقلب الظروف الطبيعية وترهل أسطول النقل ممّا يجعل الطبّ المدرسي لا يرتقي إلى الحدّ الأدنى المطلوب. عونان لحفظ صحّة 70 ألف ساكن كمال الزمّال فنّي سام في حفظ الصحّة: اعتبر أن هذا التخصص عمود فقري لتطوير العمل الصحّي بالمنطقة بمختلف أنشطتها باعتباره يسهر على مراقبة الصحيّة وحفظها من خلال مراقبة الماء الصالح للشراب والوقاية من الأمراض المائيّة والأمراض المنقولة من الحشرات في ظل فضاء ريفي مفتوح وكذلك الوقاية من التسممات الغذائيّة الجماعيّة خاصة في المعاهد الثانويّة والمدارس الأساسية والتوقي من التعفنات الاستشفائيّة من خلال التثقيف الصحّي والتطهير ومعاجة الأدوات المستعملة. وأكدّ على أنّه رغم كثرة الأنشطة بالمنطقة لا يتوفّر سوى عونين لتغطية قرابة ال 50 مدرسة ابتدائيّة و7 معاهد ثانويّة وإعداديّة بالإضافة إلى المحلات التجاريّة والغذائيّة المفتوحة للعموم. وطالب بتوفير إمكانيات بشريّة وماديّة خاصة فيما يتعلّق بأدوات العمل الضروريّة ووسائل التنقّل لتغطية كافة المنطقة، إلى جانب تمتيع الأعوان بالحقّ في التكوين والترقيات والمنح الخصوصيّة . المركزيّة الجهويّة سبب البلاء الأخ رضا الدخلي الكاتب العام للنقابة الأساسية والممرض بقسم الاستعجالي كان لنا معه حديث استعرض من خلاله أهم المشاغل القطاعيّة في المنطقة، حيث أكد لنا أنه إذا كان المعدل الوطني يتحدث عن طبيب لكل ألف ساكن فإن منطقة بئرعلي نسبتها طبيب لكل 8 آلاف ساكن. ويعود هذا المعدل برأيه إلى عمليّة الإقصاء التي تعرضت لها معتمديّة بئر علي بن خليفة داخل ولاية صفاقس في العهد السابق والدليل على ذلك بناء مستشفيات جهويّة في معتمديات مجاورة نسبة سكانها لا تتجاوز 30 و40 ألف ساكن وتبعد عن مركز الولاية 30 كلم في حين حرمت منطقة بئر علي الأكثر سكانا والأبعد مسافة من مستشفى جهوي، وأضاف أن هذا التهميش تواصل بعد الثورة. مبرزا أنّه ومنذ ثورة 14 جانفي تكاد تكون النقابة والأعوان داخل المستشفى هم المسيرون الحقيقيون للعمل في ظلّ تراخي الإدارة نظرا إلى أن مدير المستشفى لا يقطن في المنطقة إضافة إلى الفراغ الذي تركه الطبيب مدير الدائرة بعد طرده، فبقي مكانه شاغر لم يعوض إلى حدّ الآن رغم تمتعه بكل المنح على حساب المستشفى. ورغم اجتماعنا عديد المرات مع المسؤولين الجهويين ومع الوزير يقول الأخ رضا لم تفضّ مشاكلنا إلى حدّ الآن والتي يمكن حصرها في النقاط التالية: - تخلّف البنية التحتيّة للمستشفى عن استيعاب الأعداد المتزايدة لطالبي الخدمات الصحيّة، وعدم استجابة المستشفى الجديد الذي بني في العهد السابق لحاجيات الجهة لأنه صورة للمستشفى الحالي، ويضيف وقد طالبنا بتوسعته وتحويله إلى مستشفى جهوي ولكن رغم الوعود ليس لدينا أي وثيقة تثبت صرف الاعتمادات لإتمام المشروع وإدراجه في المخطط التنموي للحكومة الحاليّة، وقد أكد لنا الوزير أن الاعتمادات رصدت للمستشفى وتمّ توجيهها لولاية صفاقس وهي التي تتكفل بتوزيعها. - توقف القسم الداخلي بشكل شبه نهائي عن العمل وإمكانية توقف القسم الاستعجالي خاصة أن بعض الأعوان يشتغلون في القسم لمدة 6 أشهر حصص ليليّة. مذكرا بتداعيات ذلك باعتبار منطقة بئر علي تعدّ منطقة حوادث ساخنة نظرا إلى كونها ملتقى لأربعة ولايات هي صفاقس، قفصة، القيروان وقابس وتشقها الطريق الرئيسية رقم 2 والطريق رقم 14 . - ضعف ميزانية المستشفى حيث أنّها لا تتجاوز 450 مليون بمعدل دينارين لكل مواطن وهي تقريبا لا تتعدى ميزانيّة مركز صحّي أو مستوصف في العاصمة. - تهرّم أسطول النقل ونقصه ممّا دفعنا في الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة أثناء الاشتباكات مع المجموعة السلفيّة إلى نقل الجرحى في سيارات نقل بضائع. - غياب أطباء الاختصاص والاختصاصات الضروريّة مثل قسم التوليد الذي يفتقرإلى الوسائل الضروريّة وقسم الأشعة والكسور - غياب وحدة لتصفية الدم رغم وجود أكثر من 50 حالة لمرضى قصور كلوي يقومون بالتصفية بمعدل 3 مرات في الأسبوع ويتنقلون رغم حالتهم الصحيّة بمعدل 500 كلم أسبوعيا وما يسببه ذلك لهم من متاعب صحيّة وتكلفة ماديّة. وختم الأخ رضا حديثة بالتأكيد على أنّ جلّ المشاكل في القطاع الصحّي التي تعانيها المنطقة صارت معلومة للجميع باعتبارها نتيجة حتميّة للمركزية السياسية والجهوية في ولاية تهيمن على كل شيء وتحاول مركزة الخدمات الصحيّة داخل الولاية عوض تقريب الخطوط الصحية من بعضها البعض ليكون المواطن قريبا من الخدمات الصحيّة. لكن لا السلطة الجهويّة ولا الحكومة بصدد السير في هذا التوجه لتخفيف الضغط على المستشفيات الجامعيّة بتركيز مستشفيات جهويّة تشمل عديد الاختصاصات وتسدي خدمات صحية تحفظ حقوق المواطن وتضمن كرامته. المواطنون بصوت واحد: مللنا التهميش أغلب الذين التقيناهم بالمستشفى لم يخفوا حنقهم وغضبهم من الوضع الصحّي في المنطقة وقد أكدوا أن السبب الرئيسي يعود إلى التهميش الذي مارسته الحكومات المتتالية وخاصة الولاية تجاه المنطقة منذ عشرات السنين والى رغبة المسؤولين الجهويين في الاستئثار بكل الخدمات الصحية على حساب المنطقة التي تعدّ أكبر معتمدية من حيث السكان والثانية من حيث المساحة، ولم يخف بعضهم الحسرة والشعور بالإحباط من الثورة التي تمنوا أن تعيد إلى المنطقة الاعتبار خاصة أنها تحمل اسم المناضل علي بن خليفة الذي أطلق أول رصاصة في وجه المستعمر الفرنسي ودافع عن ولاية صفاقس باستماتة وأصيب أثناء المعركة بالإضافة إلى ما تزخر به من إمكانات طبيعية وبشريّة تبوّؤها المكانة المناسبة . أمّا مطالب المواطنين الصحيّة فتكاد تتلخص في الدعوة إلى ضرورة بناء مستشفى جهويا في المنطقة يحوي الاختصاصات الضروريّة، يريحهم من المتاعب التي يتكبدونها باستمرار للتنقل إلى المستشفى الجامعي بصفا قس لمجرد اشتباه الأطباء في خطورة المرض أو الإصابة أو لإجراء تحاليل بسيطة أو صورة بالأشعة أو لمجرد الولادة وما يستنزفه ذلك من أموال هم في أمسّ الحاجة إليها. بعضهم أعلنها صراحة بان سكان بئر علي يدفعون ثمن تحضرهم باعتبارهم من القلائق في البلاد الذين حافظوا على الممتلكات العامة ولم ينجرّوا وراء الموجة الاحتجاجية التي عرفتها البلاد من شمالها إلى جنوبها وما تخللها من الاعتصامات والاضطرابات العامة والحرق والتخريب.