نعرف جميعا أنّ موضوع الشراكة بين الاتحاد الأروبي وتونس موضوع له امتداد في الزمن ويعود بدء الحديث فيه وطرحه على طاولة المفاوضات إلى سنة 5991. وهو مشروع يقوم على خلق فضاء للتبادل الحرّ بين الاتحاد الأروبي وتونس أي المرور دون معاليم جمركية على البضائع بين الطرفين ودون تأشيرة بالنسبة إلى عبور الأشخاص، ولو أنّ هذا الاتفاق الأخيرلم يفعّل بدعوى أنّ الأوضاع بين شمال الضفة وجنوبها غير متماثلة بما لا يتناسب وفتح الحدود للأشخاص في الوقت الراهن . وقد سعت أروبا إلى الضغط على الطرف التونسي كما ضغطت على الطرف المغربي للقيام بإصلاحات سياسية وإدارية حتى توفّر مناخا مشابها للمناخ القيمي المتوفّر في أروبا كما استعجلت التغيير في المنظومة الاقتصادية للبلاد التونسية وهي لأجل ذلك موّلت الدورات التكوينية وبرامج التأهيل في المؤسّسات الاقتصاديّة التونسية حتى تضمن مناخا استثماريا شبيها بالمناخ الاقتصادي الأروبي بما يضمن لرؤوس أموالها طيب الاستثمار في تونس. وسبق أن انتهت الاتفاقات بين الطرفين التونسي والأروبي إلى الاتفاق حول التدرج في تطبيق الشراكة وذلك بعد تهيئة الأرضية الملائمة، فكانت الفترة الأولى الممتدة تقريبا من 8991-8002 وهي فترة تأهيليّة قبل الدخول في التفاوض حول الشريك المتقدّم/ الشريك المميّز وبموجب هذه الاتفاقية تدخل نسبة 06% من واردات تونس من الاتحاد الأروبي دون الخضوع للأداءات الجمركيّة منذ8991. هذا الشريك المتميّز الذي وُقّع عليه يوم 91/ نوفمبر2102. تعهّدات الطرف التونسي: وكانت الدولة التونسية قد تعهّدت قبل المرور إلى مرتبة الشريك المتقدّم بجملة من الإجراءات التي تطبّقها داخل الفضاء التونسي بما يشجع المستثمر الأروبي على القدوم ويطمئن الشريك الاتحادي وتتراوح هذه التعهّدات بين إدارية وسياسية واقتصادية، ولئن أكّد بعض الملاحظين لمسار التفاوض في السنوات الأخيرة عدم استئثار الجانب السياسي بمناقشة كبيرة، فلم يكن يعني الشريك الأروبي النظام السياسي في تونس على وجه الإلحاح مادام سيوفّر مناخا استثماريا مناسبا. لذلك ورغم ظاهر المناداة بضرورة الإصلاح السياسي بما يضمن حريّة الرّأي وإقرار الديمقراطية وغيرها ممّا يتعلّق بالمنظومة السياسية فإنّ الأصل في متطلّبات الشريك الأروبي لم تكن الإصلاحات السياسية وإنما الإصلاح الإداري والاقتصادي، فأمّا في المستوى الإداري فقد حرص الشريك الأروبي على المطالبة بتيسير الإجراءات الإدارية المتعلّقة بالاستثمار الأجنبي وأكّد على ضرورة الإصلاح في المنظومة الجمركية وتوفير الأمن وإصلاح القضاء واحترام حقوق الإنسان بما يوفّر فضاء آمنا لرأس المال ويقترب بالمنظومة الإدارية والحقوقيّة في تونس من المنظومة الأروبيّة ويوفّر للمستثمرين الأروبيين مناخا مناسبا لا يختلف في قوانينه الدّاخليّة عن المناخ الأروبي إداريا وقضائيا ومدنيّا خاصّة.أمّا في الجانب الاقتصادي فقد شجّع الاتحاد الأروبي على توفير يد عاملة مختصّة تستجيب لحاجات المستثمر الأجنبي تقوم الدولة التونسية بإعدادها وتأهيلها، وقد يفسّر هذا الشرط إلى حدّ كبير التحول في المنظومة التربويّة والتعليميّة في تونس وإقرار منظمومة «إمد» في الجامعات التونسيّة. كما اعتنى الطرف الأروبي بإصلاح شبكة الطرقات والمواني والمطارات بما ييسّر عمليات الشحن والتصدير والتوريد من وإلى أروبا وقد عملت الدولة التونسية على تركيز شبكة طرقات محترمة في المدن الكبرى. إضافة إلى هذه المبادئ العامّة، شجّع الاتحاد الأروبي على المضيّ قدما نحو الخوصصة ورفع الدولة يدها عن المؤسسات العموميّة وترك المنافسة مفتوحة بين المؤسسات الوافدة والمؤسسات المحليّة تلك التي بدأت الدولة تفرّط فيها للخواص من شركات عموميّة. ويعنينا أن نتوقّف عند هذا النقطة. فكما لا يخفى على أحد لا يمكن أن نقارن بين الإمكانات الماديّة الضخمة والقدرات الفنية للمؤسسات الأروبية ونظيرتها التونسيّة، واقتحام المؤسسات الأوروبية للسوق التونسية عبء ثقيل على المؤسسات التونسية التي لن تقوى على المنافسة سواء في مستوى الجودة أو الأسعار، فاليد العاملة التي تبدو رخيصة بالنسبة إلى الأوروبي هي يد عاملة مكلفة بالنسبة إلى التونسي. كما أنّ الموادّ الأوّليّة التي يأخذها الأروبي بأسعار مناسبة تضطر المؤسسات التونسيّة إلى استيرادها بأضعاف الكلفة التي تكبّدها المستثمر الأجنبي وهو ما يضعف فرصة المنافسة بين البضاعة الأروبية التي قد تكون مصنّعة في تونس وبين البضاعة المحليّة ذات الكلفة الباهظة والأثمان المرتفعة. إنّ أخطار هذه الشراكة المزعومة على الاقتصاد التونسي جليّة لا لبس فيها رغم تجمّلها بمبادئ الديمقراطيّة وحقوق الأنسان وحقوق العمّال واستقلال القضاء وغيرها.. فهي شراكة تسعى إلى توسيع المجال الاقتصادي لرأس المال الأروبي سواء بالاستثمار المباشر أو غير المباشر. وهي في المقابل تعجّل بإفلاس المؤسسات الوطنية ورأس المال الوطني الذي لن يقدر على المنافسة وتضطرّ عديد المؤسسات الصغرى إلى إعلان إفلاسها وإغلاق بوابها مع ما يستتبع ذلك من تشريد للعمّال وعائلاتهم وبما يهدّد السّلم الاجتماعيّة. وقد صرّح خبراء في الاقتصاد الأروبي أنّ تونس بلد صغير بالنسبة إلى الشّركات الكبرى ومن اليسير التفوّق على المؤسسات الوطنيّة في مستوى الدعاية والجودة وجلب الحريف إلى بضائعها باعتبار ما سيلقاه من مواصفات عالمية وأسوام مناسبة. ويرى هؤلاء الخبراء أنّ ثلث المؤسسات الوطنيّة فقط إن لم يكن أقلّ تستطيع المنافسة، والسؤال الذي يطرح أين سيذهب ثلثا المستثمرين المحليين مع عمّالهم. وكيف سيكون وضعهم في ظلّ اقتصاديّ لا يؤمن إلاّ بالربح والخسارة. هذا دون ان نغفل ما يعنيه التفويت في الملك العام من مشاغل ومن تأثيرات سلبية على جيب المواطن العادي الذي سيجد نفسه مجبرا على تحمّل أداءات جديدة وتحمّل غياب الدّعم عن كثير من المواد الأساسيّة في ظلّ تفريط الدولة في مؤسساتها العموميّة وعدم اهتدائها إلى موارد جديدة تمكّنها من تدعيم بعض المواد إلاّ إثقال كاهل المواطن التونسي بالجباية. إنّ تفعيل الشراكة الأروبية التونسيّة لن يحدث في صورته النموذجيّة إلاّ إذا أعيدت هيكلة المؤسّسات الوطنيّة بما يوفّر الإطار الملائم للمستثمر الأجنبي وإن كان على حساب رأس المال الوطني.ويجعل من تونس وشبيهاتها من البلدان النامية سوقا استهلاكيّة لما تنتجه الآلة الصناعيّة الأروبيّة متى توفّرت الإمكانات والقدرة الشرائية لدى المواطن. كما أنّ تفعيل هذه الشراكة يهدّد بفقدان القرار السياسي الذي سيبقى مرتهنا بالأوضاع الاقتصاديّة ويخضع إلى الشركات الكبرى التي ترتع في البلاد مستفيدة من تسهيلات جمركية وإدارية وتشجيعات متنوّعة فندخل مع هذه الشراكة غير المتكافئة مرحلة جديدة من الاستعمار غير المباشر ويغيب القرار السيادي عن البلدان النامية إنّ الشراكة مع الاتحاد الأروبي، ولئن بدت حريصة على توفير مناخ من الحريات والمدنيّة داخل البلاد، فإنّ الغاية لم تكن السهر على إيجاد هذه المبادئ بما يضمن حرية التونسيّ وحقّه في مواطنة كاملة وإنما كانت الغاية ضمان حق المستثمر الاجنبي متى قرّر الاستثمار في تونس وضمان أنه في حالة الخطإ والمحاكمة سيحصل على محاكمة عادلة وفق المعايير الدوليّة. وقد نستحسن هذا المكسب، إن شئنا، جرّاء تلك الشراكة، غير أنّ التبعيّة المطلقة للاتحاد الاروبي اقتصاديا وسياسيّا سيقضي بالضرورة على كلّ نموذج اقتصادي وطنيّ وسيضحّي بالقطاع العمومي وبالشركات الصغرى داخل الفضاء المحلّي حيث لن تجد تلك المؤسسات القدرة التنافسية العالية التي تفرضها المؤسسات الأروبيّة. إنّ الدولة التونسية، مطالبة، قبل الحديث في مرتبة الشريك المميّز، أن تحمي مؤسساتها الوطنيّة، سواء في ذلك تلك المتعلقة بالقطاع العمومي أو تلك المتعلّقة بالقطاع الخاص حتى لا تضمحل الشركات التونسية في الشركات الأجنبية وحتى تحمي الدولة اقتصادها الوطني فلا يُرتهن للاتحاد الأروبي ويفرض تبعيّة في القرار السياسيّ إذ لا يخفى على أحد أنّ الغاية الاولى للأروبيين هي توحيد المنوال الاقتصادي بين ضفتي المتوسّط وتصدير أزماتهم الاقتصادية إلى البلاد الاقل نموّا وهي التي لن تحتمل هزات اقتصادية كبرى.