من خلال الكشف عن التراجع المذهل للاحتياطي من العملة الصعبة، جاءت الفاجعة هذه الأيّام من أوساط وزارة المالية التي من الممكن أن تعلن عجزها التام عن تسديد رواتب نحو 500 ألف موظّف في حقول حيوية من الادارة التونسية. الدوائر المالية العالميّة وخاصّة منها المختصّة في دراسة الأوضاع الاقتصادية والمالية في بلدان شتى من العالم، كانت قد نبّهت إلى خطورة الوضع في تونس أيّاما بعد استقالة وزير المالية حسين الديماسي واجتثاث محافظ البنك المركزي من موقعه على اثر خلافات سياسية بين أطراف الحكم المتداعي باستمرار. في هذه اللحظة التاريخية الفارقة تتمسّك الحكومةالمؤقتة بقشّة نجاة في بحر متلاطم الأمواج راكبة فُلْكًا بلا مجادف، تواجه رياحا عاتية لكنّها معلّقة الأمل على مفهوم المعجزة المستمد من «ابستيميّة» قدريّة قوامها الرهان على عائدات بيع ممتلكات رموز النظام السابق وعطف بعض الدوائر الاحتكاريّة العالميّة التي تعمل في ظلّ أزماتها على مزيد ارتهان الأجيال القادمة إلى سياساتها الموغلة في الاستعمار أو التبعيّة عبر عرّابيها وفي مقدّمتهم دولة قطر. وفي هذه السياقات المعقدة تطرح أسئلة لاتقلّ بدورها تعقيدًا: أين وعود الدول الثماني الكبرى التي أطلقت منذ رئاسة الباجي قائد السبسي للحكومة الانتقالية الأولى؟ ما مدى جدّية رهانات حكومة حمادي الجبالي على «نموذجية» المثال التركي وعلى «أخوية العلاقة» القطرية. أين الموارد المالية من نجاحات ميزان 2012 التي يتبجّح القائمون على أمرها بنجاحاتها المزعومة في تحقيق نسبة نموّ فاقت 3٪. في حقيقة الأمر، لم تتوفق أوّل «حكومة شرعيّة» في تحقيق النجاح في أي قطاع من القطاعات، غير أنّها أوقدت نيران غلاء الاسعار في كلّ المواد ودون استثناء وذلك بالتوازي مع عدم قدرتها على تحسين الخدمات الأساسية وتطوير المرافق الضرورية وبخاصة تحقيق الأمن للمواطن؟ وكأنّ «الحكومة الشرعيّة» لا تستمد شرعيتها الاّ من أصوات قطاع غير واسع من الشعب الذي وضع ثقته المرتجلة في صناديق 23 أكتوبر 2011. لقد باتت الطبقة الوسطى التي سقطت بفعل هذه الاخفاقات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الحالية، في صفوف البروليتاريا، تنتظر فتوى «صوم الدّهر» حتى تغالب صعوبة العصر!! فمازاد سقم الحالة النفسيّة للمواطن! هو تسرّب ضروب من نهش المال العام وصرفه في ملذّات شخصيّة لوزراء سيادة تتساوى أيّام اقامتهم بالبلد الأم مع أيّام سفرهم إلى بلدان أخرى. ولو تساءلنا، هنا، كم صرفت وزارة الخارجية وكتابة الدولة للهجرة عن معاليم السفر والاقامة بالخارج لنبحث عن القيم الرمزيّة والمادية المحقّقة من هذه الرحلات المكوكية. ولو تساءلنا كذلك عن حجم الميزانية المرصودة لرئاسة الجمهورية آخذين في ذلك بعين الاعتبار عدد «كتائب» العاملين في هذه المؤسسة التي تعكس السيادة المكثّفة لتونس ما بعد الثّورة، وماذا قدّمت هذه المؤسسة من رسائل وصور لمستقبل تونس غير «برنس الدكتور». ومن حقّنا كذلك التساؤل عن حجم الصرف السنوي للمجلس التأسيسي، وهل من المعقول أن يتقاضى عضو ذلك الراتب مقابل عدم الكفاءة العلميّة وعدم الكفاءة في الأداء التأسيسي؟ لقد أكّدت الطبقة الحاكمة اليوم أنّها غير قادرة على ادارة شؤون البلاد وشؤون العباد، بل إنّها فاشلة فشلا ذريعًا في تحقيق أكبر وأوّل شعار لهذه الثّورة وهو شعار الكرامة، بل لعلّها سلبت عموم المواطنين كرامتهم لتعمّق الشعور بالكرامة لمئات المعلنين عن ولائهم إلى المؤلفة قلوبهم على الحكم العابر في حكومة مؤقتة. ولعلّ مؤشرات ثورة الجياع بعد الثورة قد انطلقت من الحوض المنجمي المكابد مارًّا على الڤصرين التي تحوّلت إلى كوخ من طين. وقد يمتدّ فتيل الثورة المضادة للنهضة وللحكومة الشرعيّة، كلّما ارتفعت رائحة الجوع من أفواهنا قبل دخول شهر رمضان القادم. روائح المزابل والقمامات وقنوات صرف المياه الآسنة، عجزت الحكومة الحالية على معالجتها بعد أن نثرها مريدوها على ساحات محمد علي وتخومها. حكومة عجزت عن رفع القمامة لا نخالها قادرة على رفع التحدّيات بما فيها اطعام الأفواه وتحقيق الرغبات البيولوجية الأساسيّة. إنّها حكومة تؤسس لحرية تعبير بأفواه نتنة نتيجة الجوع وبأجواف جوفاء حتى من الخصوبة.