في الماضي كان تدني المستويات التعليمية سبباً أساسياً لعدم الحصول على عمل، اليوم الوضع مختلف فأصحاب الشهادات العليا هم من يشكون البطالة، و كان هذا من أهم أسباب قيام الثورة، لكن يبقى المشهد الاقتصادي متدنياً بعد الثورة، والإجراءات المتخذة الى يومنا هذا ليست على قدر المستوى المطلوب لتحقيق العدالة الاجتماعية. فليس هناك نظام عادل للتشغيل أو للتنمية، ونخبة السلطة تتعامل مع أموال البلاد بأسلوب الغنيمة. يجب أن تدرس الأمور الاقتصادية بجدية من طرف مختصين، بكفاءة وانحياز لمصالح الوطن والشعب بالأساس. «الشعب» إلتقت الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي الذي حاول أن يشرح لنا أسباب هذه الأزمة وإمكانية الخروج منها. * ما هو الوضع الاقتصادي اليوم في تونس، وهل كانت للثورة تداعيات على هذا الوضع؟ - يجب أن نقرأ أن الثورة هي نتيجة فشل منوال تنموي واختيارات تنموية، بديهياً الشعب الذي يعيش في رفاهة وبحبوحة لا يثور،القضية تكمن في منوال التنمية المعمول به إلى حد الآن في تونس، وأهم عيوبه: أولاً: أنه تخلى عن التنمية لفائدة النمو، وثانياً: تخلى عن الموازنات الحقيقية وهي ( الاعتناء بالتشغيل-العدالة بين الفئات الاجتماعية- التوازن بين الجهات-الحرص على حسن استعمال الموارد الطبيعية- تحقيق التوازن بين الإنسان ومحيطه-مراعاة مصالح الأجيال القادمة) وعوض العناية بهذه التوازنات انحصر الاهتمام بالتوازنات الكلية المالية (Macro économiques) بصفة أساسية عبرالحرص على تقليص عجز ميزانية الدولة، عجز الميزان التجاري، ميزان الدفوعات، الحرص على التقليل من التداين والضغط على الأسعار ومقاومة التضخم المالي....إلخ العنصر الثالث: أعطى الأهمية للاندماج في الاقتصاد العالمي على حساب الاندماج الوطني، ولهذا إستمر الربط بين الجهات ضعيفاً، والبنية التحتية ضعيفة، وأصبحت في خدمة الاندماج العالمي عوض النهوض بالاندماج الوطني، وهذا ما يجعل-في غياب اندماج وطني مكثف- طاقة الاقتصاد على تحقيق التنمية والنمو لا ترتقي إلى أقصى الدرجات. إن عدم الاندماج المغاربي يسبب خسارة نقطتين في النمو، فما بالك في عدم تحقيق الاندماج الوطني وما يسببه من خسارة على مستوى النمو والتشغيل وتنويع وتكثيف النسيج الاقتصادي. ويمكن تشبيه الوضع بطائرة تعمل بمحركين، لكنها لا تطير إلا بمحرك واحد، النمو يسير في الشريط الساحلي والشريط الغربي مشلول بلا محرك يشتغل ولا يستطيع الطيران. ما هو سبب هذه السياسة الخاطئة؟ - وقع التخلي عن الفعل الإرادي الجماعي لفائدة قوة وهمية، تتمثل في الاعتقاد أن السوق وآلياته وحدها تضمن تحقيق التنمية والرفاهة الفردية والجماعية، وما حصل هو أن هذا التخلي لفائدة السوق ساهم في تفاقم الفوارق الاجتماعية والجهوية، وفي انتشار الفساد في كل القطاعات والأنشطة الاقتصادية. وما زاد الطين بلة أنه في السنوات العشر الأوائل من القرن 21 وقع اللجوء بأكثر كثافة إلى اعتماد سياسات الإغراق بكل أنواعها: الإغراق التجاري، كالفنادق مثلاً، -غرف الخمس نجوم تباع كغرف بثلاث نجوم- أو أقل، الإغراق الجبائي مع التخلي عن الموارد الجبائية لفائدة الاستثمار والقطاع الخاص في إطار ما يسمى تشجيع الاستثمار، مع إعطاء دعم مادي وتسهيلات مختلفة ومتنوعة إغراق مالي يتمثل في نسب مرتفعة لديون يصعب استرجاعها. الإغراق النقدي المتمثل في تراجع قيمة الدينار مقارنة بالعملات التي نتعامل معها وأهمها اليورو والدولار، كان اليورو يقابل دينار وثلاثمائة مليم، اليوم تجاوز الدينارين. ثم خاصة الإغراق الاجتماعي المتمثل في انتشار أنماط التشغيل الهشة، التي لا تضمن لا أجور لائقة ولا حماية اجتماعية، ولا استقرار الشغل، وذلك تحت عنوان مرونة التشغيل والأجور. وأخيراً الإغراق البيئي المتمثل في سوء استعمال الموارد الطبيعية مثل الماء والأرض، إلى جانب التلوث، وتفاقم انعكاساته السلبية على الكائنات الحية بمختلف أنواعها. كل هذه السياسات التي ساهمت في الحفاظ على النسق المعهود للنمو دون الرقي على مستويات أعلى تسببت في تكلفة باهظة للمجموعة الوطنية، وساهمت في تراجع الظروف الملائمة للتنمية وانحصار آفاقها. إذا كان هذا المنوال التنموي السبب الرئيسي للحركات التي أدت للثورة، ألا يمكن مراجعتها؟ - من المفروض أن تقع مراجعتها انطلاقا من التشخيص الذي ذكرنا بعض عناصره، إلا أنه إلى حد الآن وقع التشبث بنفس المنوال وباختياراته رغم عقمه وقصوره على معالجة الملفات المطروحة وعلى رأسها بطالة مرتفعة، وخاصة لحاملي الشهادات، والفوارق الجهوية المشطة وغير معقولة، إضافة إلى تضخم مالي ما فتئ يرهق الأفراد وقدرتهم الشرائية، ويرهق الاقتصاد وقدرته التنفسية، مع انتشار وتوسع الاقتصاد غير المنظم، وارتفاع الممارسات الاحتكارية والفساد في كل المجالات بدون أي رادع. ألا يزيد الطين بلة تجاهر النخبة الحاكمة بمطالب ورواتب مشطة، تجعل الشعب يشعر أكثر باحتياجاته؟ -برزت بعد الثورة ثقافة الغنيمة بدرجة مرتفعة، ساهمت في تدعيمها السلطة القائمة، من خلال العدد المهول من الموظفين السامين برتبة وزراء وكتاب دولة في ظروف اقتصادية صعبة، من المفروض أن تفرض تقليص مثل هذه الوظائف، إلى جانب زيادات مشطة في أجور نواب المجلس التأسيسي، والمناداة بالتعويض للذين وقع اضطهادهم في العهد السابق، وكل التعيينات العشوائية في مراكز المسؤولية سواء كان ذلك في الوظيفة العمومية أو المؤسسات العمومية، دون اعتبار مقاييس تضمن اعتماد الكفاءة والخبرة ، ممارسات ساهمت في نشرها عقلية الغنيمة المتخلفة التي بدورها ساهمت في تغذية المطلبية من طرف كل الفئات الاجتماعية، وبممارسات ووسائل تكرر فيها تعطيل وسائل الإنتاج والدورة الاقتصادية. * ألا يحد كل هذا من فرص الاستثمار المحلي والأجنبي؟ - أدى كل هذا إلى تقليص فرص الاستثمار المحلي والأجنبي وإلى غلق عديد المؤسسات الأجنبية في مختلف القطاعات، وإلى تراجع طلب المنتوج التونسي خاصة في إطار المناولة،هناك مطالب لمتوجنا من طرف الخارج، لكن المستثمر لم يعد ضامناً أن الإنتاج سيصل في الفترة المحددة. وهذا ما منع العديد من التعامل في إطار المناولة، و أصبحوا يتعاملون مع بلدان أخرى مثل المغرب و البلدان الآسيوية. كما أدى هذا الوضع إلى انكماش الدورة الاقتصادية، وتعطيل آلات الإنتاج سبب تفاقم في اختلالات الجهات، وعجز الميزانية، وارتفاع العجز الداخلي والخارجي، وتزايد المديونية خاصة الموجهة لتسديد الديون، والاستهلاك على حساب الاستثمار والإنتاج، ومن المؤسف أن الساحة السياسية إلى حد الآن تركز اهتمامها على الشأن السياسي على حساب الشأن الاقتصادي والاجتماعي، كما أن السلطة القائمة وحلفاءها ساهمت في تهميش هذه الملفات الجوهرية، وتلهية الرأي العام بملفات لا علاقة لها بمستحقات الثورة، مثل قضايا الهوية وقضايا الدين وعلاقته بالسياسة، وقضايا المرأة وحقوقها، والموقف من الأولياء الصالحين إلى غيره من الملفات التي من شأنها أن تساهم أكثر في تعقيد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.وإلى بث الفتنة في مجتمع مسلم من المفروض أن يساهم الإسلام معه في دعم وحدته وتماسكه. هل الإشكاليات الموجودة اليوم هي نتيجة هذه الاختيارات؟ - السياسة الحالية تتشبث بالاختيارات القديمة باعتماد سياسات «نيوليبرالية» بدون فتح المجال لبداية إصلاحات جوهرية هيكلية، وعديد الإشكاليات هي نتيجة هذه الخيارات، وارتفاع نسبة البطالة خاصة لدى حاملي الشهادات العليا هي بالأساس نتيجة تخلي الدولة عن سياسات قطاعية، سواء كان ذلك في قطاع الصناعة أو الفلاحة أو الخدمات، وتركها السوق يحدد التوظيف القطاعي للموارد البشرية والمالية. لماذا تدهور المجال الصناعي؟ - كل ما ذكرناه نتج عنه جمود هيكلي للنسيج الصناعي خاصة الذي أصبح يتوسع على أساس استغلال الامتيازات التفاضلية القارة المتمثلة في استغلال اليد العاملة الضعيفة الكفاءة، والتي تشتغل بأجور زهيدة، إلى جانب استغلال الموارد الطبيعية الباطنية وغيرها، وبالتالي أصبح النسيج الصناعي بفضل توسع أنشطة تعتمد مثل هذه الامتيازات التفاضلية في قطاع الخياطة والملابس والكهرباء والميكانيكي والصناعات الغذائية.... من أنشطة لا تتطلب يد عاملة ذات كفاءة وتكوين عال. وهذه الديناميكية للنسيج الاقتصادي قابلتها ديناميكية مختلفة للمنظومة التربوية والتكوينية، تتميز بتصاعد أعداد حاملي الشهادات العليا وغياب التناسق، والالتقاء بين الديناميكيتين أدى إلى احتمالات كبرى في سوق الشغل والعمل، نتج عنها ارتفاع نسبة البطالة لدى هذه الفئة الحاملة للشهادات العليا. هل يمكن معالجة هذا الوضع وكيف؟ - هذا الوضع لا يمكن معالجته فقط من خلال تكثيف وتنويع سياسات إختلالات التشغيل النشيطة، بل تجب إصلاحات تهتم بمنظومة التعليم والتكوين بدون الاهتمام بمنظومة الإنتاج، ولا يمكن معالجتها بالوسائل التقليدية، واعتقادي أن غياب مراجعة منوال التنمية هو بالأساس راجع إلى غياب التشخيص العلمي الموضوعي أولاً، وإلى وجود هاجس الحرص على ضمان مستحقات المواعيد الانتخابية القادمة، كما أن هناك انعدام الإرادة السياسية، نظراً إلى أن السلطة القائمة عدا تمسكها بهذه الاختيارات «النيوليبرالية»، لا تريد الدخول في عملية إصلاح جوهري قد تلتقي تماماً مع المصالح الأجنبية في البلاد التونسية. ثم قبول الدخول أخيراً في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول مشروع اتفاق تبادل شامل ومعمق سيطرح معالجة ملفات تخص الاستثمار الأجنبي، وتخص المنافسة، والأسواق العمومية، يدل على ضعف الموقف السياسي للنظام القائم وحرصه على قبول شروط مملاة من طرف الإتحاد الأوروبي الذي يحرص دائما على استغلال الظروف الصعبة للبلدان بفضل إصلاحات وسياسات تهدف إلى تعميق الخيارات «»النيوليبرالية» وخاصة المصالح الرأسمالية في جميع الميادين. عرفت تونس نواة صناعية كتركيب السيارات(ستيا) والثلاجات ( الرفاهة) والتلفزة (طومسون) في 2012-2013 لم يعد يعد لدينا أي برنامج للتصنيع، عدنا إلى مربع التوريد، وكأن قيمة العمل والنتاج ممحوة؟ - لم نستغن عن التصنيع، بعد أن كانت هناك سياسة تصنيع قائمة على محاولة بناء امتيازات تفاضلية ديناميكية ومتحركة عبر إقامة أنشطة صناعية مثل التي ذكرتها، أوكلنا أمر التصنيع إلى السوق وآلياته بتحديد الأنشطة ومجالات التصنيع، طبقاً للتقسيم الدولي للعمل القائم على استغلال الامتيازات التفاضلية القارة، والمفروض من طرف الشركات العالمية في جميع المجالات، وهذا كما ذكرت سابقاً أدى إلى عدم التقاء النسيج الاقتصادي والمنظومة التربوية والتكوينية، وقد اقتصر دور الدولة في هذا الإطار على تأهيل المؤسسات للرفع من قدرتها التنافسية، وعلى تقديم الدعم والامتيازات للضغط على تكاليفها، وتدعيم القدرة التنافسية، وانطلاقاً من التجربة يتضح أن الانتقال إلى نسيج صناعي مندمج ومتنوع، ويضمن انتشار أنشطة ذات قيمة مضافة عالية، ومحتوى تشغيلي يستعمل الكفاءات العالية والتقنيات المتطورة، ولا يمكن له أن يتحقق عن طريق منطق السوق فقط، بل يجب على الدولة أن تعتمد سياسة صناعية تحدد الأولويات، وتشجع بصفة خاصة مثل هذه الأنشطة الحديثة الضامنة لتشغيل الكفاءات، وترسي علاقات جديدة بين القطاع الخاص والعام قائمة على علاقات تعاقدية لا تضمن تحقيق الأهداف والنتائج المرجوة مقابل دعم الامتيازات الممنوحة، وتقطع مع العلاقات القائمة على الولاء مقابل الامتيازات وبدون محاسبة وتقييم للنتائج، علماً أن الدولة التونسية كلفها دعمها للاستثمار الخاص بين سنة 1994 و 2004 قرابة 6000 مليون دينار تونسي، ولم يحصل إلى حد الآن أي تقييم لنتائج هذا الدعم، لا على مستوى تنوع النسيج الاقتصادي ولا التصدير ولا التوريد ولا التشغيل. الاعتصامات المتوالية خاصة في الحوض المنجمي تدفع الاقتصاد التونسي إلى أزمة مستعصية،هل يمكن تدارك ذلك؟ - لتدارك ذلك يجب تحقيق إعادة النظر في الحاكمية للمؤسسات الوطنية، وبناء مصالحة بين الأقطاب الصناعية الموجودة في الجهات ومحيطها إلى حد اليوم تتسم الشركات الصناعية بضعف تفاعلها مع محيطها، ففي 2008 و 2009 الحركة الاجتماعية في الحوض المنجمي مثلاً مردها الأساسي هو تزامن وجود تخمة في شركة فوسفات قفصة، في محيط ازدادت فيه تردي الأوضاع الاجتماعية خاصة في ارتفاع نسبة البطالة في كل معتمديات الحوض المنجمي، والتخمة المشار إليها كانت نتيجة ازدياد الطلب على مواد الفوسفات ومشتقاتها في السوق الخارجية، وزيادة الطلب نتج عنه ارتفاع مهول للأسعار، وبالطبع للمرابيح، وهنا يكمن عدم التفاعل، فعوض أن تقوم شركة فوسفات قفصة بمواجهة زيادة الطلب بزيادة انتداب العمال، رفعت في معدل الساعات الإضافية للعمال العاملين، بينما كان يمكن تشغيل ما يقارب 1700 عامل بأجرة شهرية بأربعمائة دينار، مشكلة تفاقمت تداعياتها إلى اليوم، وقع إيقاف الإنتاج، وطبعاً أثر ذلك على فرص البيع المتاحة في السوق العالمية للفوسفات ومشتقاته، مع العلم أن معدات الشركة بحاجة ملحة للتجديد، هناك مغاسل للفوسفات تجاوز عمرها الأربعين أو خمسين سنة، كما أن الموارد البشرية خاصة في مجال الصيانة هي في حاجة إلى أكثر تكوين وهناك أيضاً مشكل نظام تسيير الشركة الذي يتميز بمركزية مشطة وبغياب هامش لتحديد سياسة تفاعل إيجابي مع المحيط المحلي. هل تغيير مدير بمدير سيصلح الأمور؟ - تغيير المدير مؤسف، لأن الذي وقع عزله يعتبر كفء بشهادة الجميع ويحظى بثقة المواطنين ولديه دراية بالجهة، هل يمكن تفادي التداعيات والخسائر؟ - ستكون الخسائر كبيرة، لكن يمكن تفادي تفاقم التداعيات بإعادة النظر في الأمور وخاصة في مجال تطوير آلات الإنتاج والموارد البشرية ومراجعة الحاكمية للمؤسسة وإقامة مصالحة مع محيطها. هل ما زلت متفائلاً؟ -الساحة السياسية في تونس تعقدت وتشعبت ببروز تيارات إسلامية حاملة لمشاريع ماضوية ورجعية، وتعمل جاهدة على تهميش الحياة السياسية والقضايا الجوهرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أن أداء الطبقة السياسية عموماً لا يرتقي إلى حد الآن إلى مستوى وحجم التحديات والرهانات المطروحة على المجتمع التونسي في أوائل هذا القرن رغم هذه العناصر الباعثة على الاستياء والقلق، إلا أنني أبقى شخصاً متفائلاً، لأن بلادنا تتميز بوجود رصيد فكري ونضالي هام على كل الأصعدة.