بالكلام يخرج الانسان من «حريم البهيمة» ليكتسب «حدّ الانسانية» (الشهرستاني). ومن قتل شكري بالعيد يريد ان يغتال الكلمة ويعود بالانسان الى حظيرة الحيوان! إن هذه الفعلة تستهدف انسانية البشر التونسي في أبسط مقوماته وأعمقها وأبعادها أثرا في وجوده، واذا لم يكن للكلمة من وجود الا مشتركا فإن المستهدف بعملية الاغتيال هو الشعب الذي يُراد له الصمت او الحُبسة بما هي انغلاق في جحيم الفردية البغيضة والعزلة القاتلة عن الآخر، عن العالم وبما هي انحباس وعزلة في الجغرافيا والتاريخ والثقافة على السواء. لكل هذا لم يكن شكري بلعيد هدفا عاديا للقتل أو هدفا فرديا معزولا، فهو الكائن المتكلم بامتياز، انه الموغل في الانسانية، يجتمع في كيانه الأنا والآخر والفردي والجماعي، الآني والتاريخي: الماضي والمستقبل، إنه الانسان الحامل لهم الجماهير فطريا وقوميا، لذلك اغتيل باعتباره رمزا، بل رمزا مكثفا. أما الرصاص الذي استهدف الشهيد الرمز فهو ليس رصاصا طائشا! وكذّاب ابن كذّاب من يدّعي غير ذلك، هذا الرصاص وُلد فكرة أولا وفي عقل ما، ثم تحولت الفكرة الى رصاصة في يد مأجورة، ومن الفكرة الى الرصاص ثمة مسافة يجب الكشف عنها لنعرف صاحب الفكرة ومقامها ومنشأها، لنعرف اين ترعرعت وشبّت حتى تصبح شرا يسعى راجلا بيننا، وأبعد من كل ذلك غاية ان نعرف ثقافة صناعة الموت التي بدأت تنتشر في ربوعنا. ونحن إذ نقول هذا، على وعي بأمرين اثنين: أولهما أن الموت شقيق الحياة في الوجود، لذلك نحتفي به ولنا فيه طقوس خاصة، نحن نُؤَنْسِنُ الموت ونتآلف معه على قدر طاقة الاحتمال فنبكي ونأكل... لكننا نرفض القتل. نحن لسنا عدميين، نحن عشاق الحياة، لذلك نحبّ ونتزوج وننجب ونبعث الى المدارس ونبني الصروح ومنها صرح الثقافة، ثقافة الفرح والعمل من المهد الى اللّحد ونأخذ ضالتنا من المعارف حيث نجدها، في فرنسا أو في اليابان أو في أمريكا اللاتينية... نحن ننحدر من ابن بطوطة وابن الهيثم وابن رشد وابن خلدون وزرياب وسيد درويش... نحن إخوة محمود درويش ونلسن مانديلا وهوغو شافيز وطاغور وجوركي... نحن حملة ثقافة. أما الأمر الثاني فهو أن وزارات السيادة الحقيقية هي وزارات التربية والثقافة والتعليم العالي! مستقبل شعبنا ومنطقتنا برمّتها مرهون بما ستصنعه هذه المؤسسات بعقولنا وعقول أبنائنا خاصة. وشكري، الشهيد الرمز، لم يقتل إلاّ لأن في رأسه عقلا أولا ولأنه عقل مختلف ثانيا، أما اغتياله فهو نذير باستبداد جديد تضيق معه الصدور والعقول عن ثقافة الاختلاف، انه التأسيس لمشروع مجتمعي أساسه الرأي الواحد، المتعالي عن نبض الانسان الذي يحرّكه الشوق الى الحياة، انه النقيض لمشروع آخر قوامه الحرية والكرامة وثقافة الاختلاف والجمال والتطور في اتجاه عالم اكثر انسانية ومن اجل آفاق أرحب. وإلى أن يُماط اللثام عن القتلة سنمتح من حزننا وغضبنا ما تستقيم به الحياة وتتواصل وفاء بوعد للشهيد حبيب الحياة، وفاءً لنجينا الذي بوّأه الشعب، في القلوب والعقول، المنزلة العلية، وله ولبعضنا ومن وحي اسمه نقول في غير نظام للحروف. يا باء البسمة في إباء هو وشاح الثوّار يا راءً تتوزع مع الدال في النيروز والندى في الربيع تبشر تونس الصحراء العربية يا شين الشهامة شامة عربية يا شين الشرّف، شرف الكلمة والموقف يا كاف الكفر بأبي الكفار : الفقر في الجيوب وفي الأذهان يا كاف الكرامة الثالوث العصيّ على بعض الأفهام: أرض حرية كرامة وطنية يا كاف الكريم يبذل دمه للشعب سخيا يا كاف «الكاف العالي» آخر المدن المحتضنة لك قبل الرحيل يا كاف يتردد في عمر أنفقته تكفكف دموع سجناء الرأي وأهليهم دون استثناء يا أخت الكاف في «كمال جنبلاط» تتردد في ايقاعات زياد المشاكس يا كاف الكاهنة تذود عن الديار يا ياء الايمان بمطلق الانسان يا راء رعد في طفولته نبوءة ثورة يا راء من «بن بريك» لا يوقّر الا الثوّار حفاظا على ثروة له وحيدة: الحرية يا دال الدليل حين تختلط السبل وتضيع الوجهة... يا دال الدواء ترياقا لسم الحقد يرشح به رصاص الجبناء دال الدمعة السكيبة في عيون التونسية التي احتضنتك أختا وزوجة وابنة ورفيقة ومعلمة... يا دال الدمعة في عيون الرفاق! يطبقون على الجمر من أجل لحظة الاشراق الآتية يا عين العين منها ينهل الرفاق والفقراء يا عين العيد حين يتجدد في تونسك، في عيد المرأة وفي عيد الشغل وفي عيد الأضحى حين يأمن الجميع من جوعٍ ومن خوف! يا عين العيد الذي أنت عيده يا عينا في علّيسة تبني حضارة يا عينا في جنبعل مُلِئَ الصدر منه حزما وعزما يا عين العودة الى الساحات نملؤها شموعا وأغاني ومعاني يا عين يا شقيقة الغين في موّال أغنية تونسية تُصادي العراقية فتسمع «ريحة البلاد» و «حيّاك بابا حيّاك» لتستدعي اللبنانية فيتعالى الصوت بل يهمس: «ملاَّ إنت!» أيها الضدّ الجميل، مازالت الحناجر تهتف مرّة: يا شكري يا بلعيد على دربك لن نحيد ومرّة أخرى: يا شكري يا عود النّد يا أغلى من روحي عندي نقسم أنّا سنظلّ على العهد