يقول عبد الرحمان الإبنودي في قصيدته الكبيرة «المدن» لا تشتهر مدينة إلا إذا حصل فيها وباء أو ولد فيها مسيح. هكذا جرى لأمريكا اللاتينية لا نعرف منها إلا شخص واحد مربع واحد ، صورة واحدة أغنية واحدة، رمز واحد... الشخص والمرجع والصورة والأغنية والرمز تتلخص في ثلاث حروف «CHE» من هو ؟ ماذا يمثل ؟ ماذا بقي منه ؟ ما هو مستقبله في التاريخ؟ لا أجرؤ، ولن يدعي زملائي في هذا الملحق استيفاء ملف الثائر / الثوري الكبير «تشي غفارا» ولن أستطيع إضافة شيء الى ما كتب من قبل حول هذا البطل / الأسطورة. هذه الأيام ملحقات ، تحقيقات، أفلام خاصة، ندوات، والعم «Google» يعج بالمواقع والملفات فاذهب صديقي القارئ وانقر. بيد أنني من الجيل الذي ينتمي الى الصورة أو الرمز أو الحسرة أو الحنين . لا ! أنا من جيل يبدأ هذه السنة سنّ الستين ويفتتح العقد السابع أي آنه وصل الى مرحلة «ميخائيل نعيمة» عندما كتب سبعون ويرى مستقبله في ماضيه. واعتقد أن هذا الجيل يسمى قطعا جيل «غيفارا» وجيل «النكسة» عاش «نخوة / مأساة غيفارا « في جلده وحلمه، وإحساسه. هذا الجيل ... جيل غيفارا الجيل الذي اتحدث عنه ... دخل الجامعة يوم موت «غيفارا» واكتشف «غيفارا» يوم موته ... وأطلق ذقنه ... ولبس القبعة السوداء ذات النجمة الحمراء ... ولبس الجاكيتة العسكرية ... ورفع يده والوسطى والسبّابة مفتوحتين على شكل (V) ... بعد موت «غيفارا»... حبّا في ثوري رومنطيقي ... أو تحدّ... للسلطة واللامبريالية أو للتنفيس.. جيلنا لنقل أنه ولد مع ميلاد دولة اسرائيل سنة قبل أو سنة بعد ، بل لنقل عام ,,.1947 أي جيل النكبة . ودخل الجامعة عام ,,.1967 عام النكسة جيلنا! جيل الفشل. حلمنا طويلا في بداية الاستقلال، صفقنا كثيرا. عقدنا الامل في السياسة والزعماء بورقيبة، عبد الناصر، بن بلاّ، لومامبا، فيدال كسترو ، مالكوم إيكس. فرحنا بالاستقلال، والوحدة العربية، شمرنا على الأذرع، سهرنا الليالي، فقدنا طفولتنا لنتعلم ونبني الوطن، ننحته في صبانا على شكل قلب ينبض حبّا وساعد مفتول. لكن سرعان ما أكتشفنا أننا خدعنا، جعنا، تعذبنا، عذبونا، كذب علينا الأباء واستغلّ الأجداد البطولات الزائفة، زيف التاريخ الكاذب الذي تقدمه لنا، وتصفعنا به يوميا وسائل الاعلام، رفعنا أصواتنا، نادينا بحقنا في الوطن، أردنا افتكاك وطنيتنا ومواطنتنا لكن أمام خداع الأباء والأجداد لم نكن نملك إلا الصوت وفي أقصى الحالات الكلمة. لجمت أفواهنا، كسرت أحلامنا ... تشردنا، جبنا العالم، بحثا عن الحرية والعلم والمعرفة عايشنا الوطن وهو يتقلص يوما بعد يوم، ضيعنا الارض، وارهقتنا المفاهيم والايديولوجيات، ضاع أملنا، ونحن نشاهد عاجزين جيلا جديدا ينمو دون مبادئ، تحدوه الرغبة في الامتلاك والوصولية. استيقظنا في العديد من المرات على نبأ النكسات والانتصارات الكاذبة وبقيت لنا أغنية واحدة نرددها كل صباح. «غيفارا مات» الله يسامحك يا نجم ... والله يرحمك يا شيخ إمام..! كان لا بد من التذكير بذلك الجيل حتى نفهم أسطورة «شي غيفارا». ما أحقر التاريخ ! ما أحقره عندما يغمز لك بعينه اليسرى ويذكرك أن شهر أكتوبر 2007 هو ذكرى ثلاث أحداث رابعها سنة مولدك. ذكرى التسعين لثورة أكتوبر 1957 ذكرى إستقلال تونس 1957 ذكرى الاربعين للنكسة 1967 وذكرى الأربعين لموت «غيفارا». استقلال بلدك كمولدك ... أما «غيفارا» وثورة أكتوبر هي حسرة الحلم الضائع. لن يحتفل بعيد ميلادك أحد ايها الجيل والاحتفال بذكرى استقلال بلدك كان ما كان عليه في جويلية الماضي ... أما ذكرى ثورة أكتوبر فلم يتذكرها أحد إلا مجموعة من الاثرياء الجدد من روسيا الذين اقترحوا إقفال قبر لينين في الساحة الحمراء. أما ذكرى «غيفارا» فهي، علاوة عن وسائل الاعلام بملاحقها وبرامجها التلفزيونية الخاصة تنحصر في وابل من «الغادجيت»... في صورة التقطها ذات يوم المصور الكوبي «آلبرتوكوردا» صورة «تشي غيفارا» على رأسه قبعة سوداء تتوسطها نجمة، شعر متهدل ولحية ونظرة غائرة تحيط بها هالة من السحر الملائكي وكأن ذلك السحر هو حامي حمى أمل كل شباب العالم. لم تكن تلك الصورة قادرة على خلق أسطورة.. أسطورة «تشي غيفارا» لم تكن لتسطع في سماء التاريخ لولا موت الثائر المبكر ...(37 سنة)... فتحول الى مسيح جديد ... وهب حياته للضعفاء والفقراء والمقهورين ... ولأنه رفض السلطة واستقال منها بحثا عن ... ثورة جديدة ... في افريقيا وتحديدا بالكونغو ... وفشل ... ثم بوليفيا فقتل هكذا تحول الرجل، والصورة والرمز الى حلم شباب العالم الثائر. بيد أن الصورة لم تعش أكثر من عشر سنوات وبدأ «غيفارا» يغوص في النسيان ... وبدأ يندثر في الثمانينات والتسعينات حتى اختطفه رأس المال... واعيد الى الوجود وكأنه أتفه سلعة ... صورة .. وأغنية. هكذا إنقضت عجلة الاستهلاك على صورة الثوري: ملصقات، أقمصة، قبعات، كؤوس قهوة، أكواب جعة، حافظات مفاتيح، ... أصبحت سلعا يتهافت عليها شباب لا يعرف عن «غيفارا» شيئا... آخرها وأغربها نوع من المثلجات «glace» اسمها «تشري غيفارا» cherry Guivara» يقول اعلانها «إن الوجه الثوري للفراولة، محقنة طبقتين حقودتين من الشكلاطة».