مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    وزارة الإقتصاد الأفضل لتوجيه التمويل الخارجي.. رئيس جمعية المؤسسات الصغرى و المتوسطة يوضح    لقاء بين محمد المعز بلحسين و رئيس جامعة المطاعم السياحية ...تفاصيل    زلزال في الفلبين    الرابطة الأولى: النادي البنزرتي يستضيف الأولمبي الباجي في حوار فض الشراكة في الصدارة    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    كرة اليد: بن صالح لن يكون مع المنتخب والبوغانمي لن يعود    طبرقة: تفكيك شبكة مختصة في ترويج المواد المخدرة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    هذه هي أسعار أضاحي العيد بالقصرين    مساندة متواصلة للفئات الضعيفة.. قريبا انطلاق معالجة مطالب التمويل    وفد من الحماية المدنية في الجزائر لمتابعة نتائج اجتماع اللجنة المشتركة التقنية المنعقد في جانفي الماضي    بعد ظهوره في حالة هستيرية: سائق حافلة سياحية يكشف..    أهم النقاط التي تم الاتفاق عليها بين جامعة التعليم الثانوي ووزارة التربية    جندوبة: 6 سنوات سجنا وغرامة مالية لممثّل قانوني لجمعية تنموية    188 قتيلا في فيضانات جراء الأمطار بكينيا..#خبر_عاجل    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه.    الحمامات: اختتام فعاليّات الصالون المتوسّطي للتغذية الحيوانيّة وتربية الماشية    صندوق النقد الدولي يدعو سلطات هذه البلاد الى تسريع الاصلاحات المالية    بورصة تونس: "توننداكس" يسجل ارتفاعا بنسبة 05ر2 بالمائة خلال شهر أفريل 2024    قرعة كأس تونس 2024.    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    الكاف..سيارة تنهي حياة كهل..    مدنين: القبض على مُتحيّل ينشط عبر''الفايسبوك''    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    المدير العام لبيداغوجيا التربية:الوزارة قامت بتكوين لجان لتقييم النتائج المدرسية بداية من السنة الدراسية القادمة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    فوز التونسي محمد خليل الجندوبي بجائزة افضل لاعب عربي    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    أبل.. الأذواق والذكاء الاصطناعي يهددان العملاق الأميركي    عاجل/ يرأسها تيك توكور مشهور: الاطاحة بعصابة تستدرج الأطفال عبر "التيكتوك" وتغتصبهم..    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    البطولة الوطنية : تعيينات حُكّام مباريات الجولة الثانية إياب من مرحلة تفادي النزول    حالة الطقس ليوم الجمعة 03 مارس 2024    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    نبيل عمار يستقبل البروفيسور عبد الرزاق بن عبد الله، عميد كلية علوم الكمبيوتر والهندسة بجامعة آيزو اليابانية    عاجل/ اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية بهذه الولاية..    تشيلسي يفوز 2-صفر على توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    إصابة 8 جنود سوريين في غارة صهيونية على مشارف دمشق    مجاز الباب.. تفكيك وفاق إجرامي مختص في الإتجار بالآثار    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجهة نظر اشتراكيّة حول الأزمة الرأسماليّة (2/6)
على هامش الأزمة الماليّة العالميّة: د. عبد اللّه بنسعد
نشر في الشعب يوم 17 - 01 - 2009

تصدير: «هذا النّظام الجديد الذي بشّرتني به، نظام البنوك والمصالح الذي سيجعل العالم يتقدّم مئات السنين كما قلت هو نظام ملطّخ بالدّماء مع فارق بسيط وهو أنّ الدّماء تسيل في الحسابات البنكيّة والأرقام، أتسمعني في الأرقام (...) ملعون العالم الذي أفرزكم»
إسماعيل قدري
1 الدولة البرجوازيّة تسرق أموال دافعي الضّرائب لإنقاذ الطغمة الماليّة
أثبتت الأزمة الحاليّة مرّة أخرى عجز الأسواق الرأسماليّة الكامل عن القيام بتعديلات تلقائيّة مثلما نظر له روّاد الفكر الليبرالي الذي أكّدوا أنّ اليد الخفيّة للسوق
(La main invisible) قادرة على القيام بعمليّة التعديل الذّاتي (Auto-régulation).
بل تبدو هذه الأسواق غير قادرة حتى على أن تسيّر نفسها بنفسها حيث تحوّلت «اليد الخفيّة» إلى «يد علنيّة»، هي يد الدولة التي تدخّلت للقيام بعمليّة التعديل وافتضح بذلك الطّابع الطبقي للدولة الرأسماليّة.
وسنحاول فيما يلي ابراز دور الدولة في ظلّ نمط الإنتاج الرأسمالي.
فمن كان يصدّق أنّ بوش وساركوزي وبرلسكوني وغيرهم من غلاة الرأسماليّة الشرسة والمتوحّشة سيتركون ولو لحين سياسة الخوصصة وتخلّي الدولة عن دورها وخاصّة التراجع عن مفهوم دولة الحدّ الأدنى
(Le minimum d'Etat)
ويهرعوا، أمام دهشة الجميع، إلى تطبيق سياسة التأميم، التي يتحاشون ذكر اسمها، في الوقت الذي يواصلون فيه سبّ وشتم الاشتراكيّة ومن أسّسها ومن طبّقها وحتى من تبنّاها.
لكن علينا توضيح مسألة مهمة أدخلت كثيرا من التشويش الإيديولوجي على عديد المتابعين لهذه العمليّة. فخلافا لما يتصوّره البعض من أنّ ما أقدم عليه قادة الدول البرجوازيّة والمتمثّل في ضخّ آلاف مليارات الدولارات في حسابات البنوك والمؤسسات الماليّة المفلسة من أجل إنقاذها هو حلّ اشتراكي، فإنّنا نؤكّد أنّ ما وقع القيام به عمليّة «تأميم رأسمالي» جزئي ومؤقّت لا تعني سوى «إدخال الوحش الرأسمالي غرفة العناية المركّزة ليستعيد عافيته على حساب الشعب» حسب تعبير نبيل يعقوب، وحال وقوف ذلك الوحش (الرأسمال المالي) على قدميه تنسحب الدولة لتترك له المجال واسعا لمزاولة مهمّته التاريخيّة المتمثّلة في حصد الأرباح وبالتالي حتى انسحاب الدولة هو في مصلحة رأس المال. فالدولة البرجوازيّة اذا تدخّلت فلمصلحة رأس المال وإذا تراجع دورها يكون ذلك أيضا لمصلحة رأس المال. وبذلك فإنّه عند طرح مسألة التدخّل أو التراجع يجب طرح السّؤال الجوهري التّالي: لمصلحة من تتدخّل أو تتراجع الدولة؟
لكن لفهم ذلك يجب فهم طبيعة الأنظمة القائمة التي تحدّد محتوى الدولة وليس صورتها. فالدولة تكتسب طابعها بفضل محتواها الاجتماعي أي محتواها الطبقي وليس صورتها التي يريد منظّرو الرأسمالية ابرازها بحصر النقاش حول وجود أو عدم وجود مجلس نواب وهل القضاء مستقلّ أم لا؟ وهل هناك فصل بين السلطات؟ وغيرها من المسائل الصوريّة بينما يتحاشون الحديث أو حتى الإشارة لأهمّ سؤال ألا وهو: لمصلحة من وضدّ من تمارس هذه السلطات؟ فالدولة مهما كانت هي دكتاتورية طبقيّة وهو ما يحدّد صورتها ومحتواها.
فهي إمّا أن تكون دولة شبه رأسماليّة شبه اقطاعيّة (تحالف بين الكمبرادور والإقطاع وشريحة البيروقراطيّة) أو هي دولة اشتراكيّة (تحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين) وبالتالي لا يمكن للدولة أن تكون دولة رجل أو جهة أو حتى حزب (مثلما يعرّف بعضهم الفاشيّة على أنّها دكتاتوريّة حزب بينما يؤكّد ديميتروف أنّها: «دكتاتوريّة أشدّ العناصر الرجعيّة ارهابا واستعمارا في رأس المال») بل هي دوما دولة طبقة.
ومن هذا المنطلق يكون للدولة أساس اقتصادي يمتاز بملكيّة وسائل الانتاج. وإذا حدّدنا القوّة الاجتماعيّة التي تمتلك وسائل الانتاج وتستخدمها فإنّنا نحدّد بالتّالي طبيعة النّظام. ومن هذا المنطلق فإنّ وسائل حكم الدولة هي وسائل الطبقة التي تسيّرها وهكذا يتّضح أنّ كلّ دولة هي دكتاتوريّة طبقة تمارس السلطة لخدمة مصالحها مستخدمة في ذلك وسائلها الخاصّة. فبالنسبة للدولة الرأسماليّة تكون هذه الوسائل رأسماليّة وأوّل هذه الوسائل المال. يقول بوزوييف في هذا الخصوص: «بما أنّ الدولة هي الهيئة السياسية للطبقة السائدة اقتصاديا، فإنّها تعكس في العالم الرأسمالي مصالح البرجوازيّة ونظراتها وتحمي ملكيّتها وتكثرها بشتّى الوسائل وتوطّد شرعا وقانونا استثمار البرجوازيّة لأغلبيّة السكان في البلدان الرأسمالية. انّ الدولة الرأسماليّة المعاصرة هي ديكتاتوريّة البرجوازيّة الاحتكاريّة الكبيرة وديكتاتورية الطغمة الماليّة». كما يؤكّد كارل ماركس بأنّ: «الدولة هي الإفصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي بل هي لجنة تنفيذيّة بيد الطبقة الرأسماليّة الحاكمة».
وهناك عديد الأمثلة التي تؤكّد دور الدولة البرجوازيّة التاريخي في خدمة رأس المال حيث يتبيّن أنّ ذلك الطابع التدخّلي كان دافعه الأساسي خدمة رأس المال سواء من خلال توفير كلّ الظروف المناسبة للإنتاج (البنية التحتية، التشاريع، اليد العاملة المؤهّلة...) أو تعبيد الطريق لرأس المال من أجل تحقيق فائض القيمة (الضغط على الأجور، تقليص الضّرائب...) أو إزالة كلّ الحواجز التي تعترض رأس المال للقيام بدوره في عمليّة التّراكم ذاتها. وقد كان أحد كبار منظّري الليبراليّة «كينز» واضحا حول هذه المسألة حيث يقول: «قد يبدو لأي كاتب سياسي أو رجل أعمال أمريكي من القطاع المالي، أنّ في توسيع وظائف الدولة الذي حتّمته ضرورة الملائمة بين الاقبال على الاستهلاك والترغيب في الاستثمار خرقا فضيعا للمبادئ الفردانيّة الاّ أنّنا نعتبر هذا التوسّع على العكس من ذلك الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون التحلّل الكامل للمؤسسات الاقتصاديّة الحاليّة والشّرط لكي تقوم المبادرة الفرديّة بدور متميّز».
وقد ترسّخ ذلك في عهد سيادة الإحتكارات حيث نشأت وأخذت تتطوّر رأسماليّة الدولة الإحتكاريّة التي تتميّز بالجمع بين قوّة الإحتكارات الاقتصاديّة والقوّة السياسية للدولة البرجوازيّة من أجل توفير أفضل الشروط لخدمة وإثراء الطغمة الماليّة.
وهذا بالضبط ما فعله بوش بضخ مبلغ خيالي يساوي 700 مليار دولار لإنقاذ الطغمة الماليّة في أمريكا تماما مثلما فعل زعماء دول منطقة اليورو التي ضخّت مبلغ 1800 مليار يورو لنفس السبب.
لكن من أين أتى بوش بكلّ هذه الأموال؟ إنّه لم يقم الاّ بسرقتها من خزينة الدولة أي أنّ تسديد هذا المبلغ سيقع على عاتق دافعي الضّرائب (Le contribuable) الذين يعانون في الأصل من مديونيّة كبيرة. ففي حين يبلغ دين الميزانيّة العامّة الأمريكية، سنة 53 ,2007 ألف مليار دولار أي ما يساوي 445 ألف دولار لكلّ عائلة أو 175 ألف دولار لكل مواطن أمريكي فإنّ هذا الدين سيزداد إرتفاعا نتيجة الهديّة المسروقة التي قدّمها بوش إلى الطغمة الماليّة. وحول هذه المسألة كتب لينين يقول: «أمريكا وألمانيا سواء بسواء تضبطان الحياة الاقتصادية بحيث تبنيان للعمّال وللفلاحين جزئيّا سجنا عسكريّا للأشغال الشّاقة ولأصحاب المصارف والرأسماليين فردوسا».
الاّ أنّ ما يزيد في تأكيد هذا التوجّه البرجوازي المنحاز لرأس المال هو أنّ رؤساء الدول الأوروبيّة المذكورين لم يعيروا أيّ اهتمام لدعم صناديق التقاعد والتأمين على المرض التي تعيش عجزا مزمنا في كلّ البلدان الرأسماليّة أمّا في أمريكا فقد رفضت الدولة البرجوازيّة مقترحات عديدة لتأمين المستشفيات الخاصّة التي أصبحت تطالب المرضى بمبالغ خياليّة للعلاج وهو ما حرم ملايين الأمريكيين الذين ليست لهم تغطية اجتماعيّة والذين يبلغ عددهم حوالي 52 مليون أمريكي من التغطية الصحية اللازمة.
الأغرب من كلّ ذلك أنّ هذه الأزمة الحاليّة كان يمكن تفاديها أو على الأقلّ التخفيف من حدّتها الماليّة وذلك عبر تطبيق المقترح الذي تقدّمت به جمعيّات حقوق الانسان وجمعيات الدفاع عن المستهلك والشخصيات والمنظمات والأحزاب التقدّمية والشيوعيّة الأمريكية والمتمثّل في قيام الدولة الأمريكية مع بداية أزمة الرّهن العقاري (قامت البنوك المقرضة بمصادرة المنازل والعمارات من مشترييها بعد أن عجزوا على تسديد ثمنها سواء نتيجة البطالة التي تستشري من سنة إلى أخرى أو نتيجة التدهور الشّديد للمقدرة الشّرائيّة) بشراء المنازل التي صادرتها البنوك من مدينيها وإعادة توزيعها بقروض اجتماعيّة ميسّرة وبالتالي حلّ أزمة اجتماعيّة كبيرة تتمثّل في درء الأذى عن ملايين العائلات التي وجدت نفسها في الشّوارع، لكن ردّ الدولة البرجوازيّة كان واضحا: «إنّ ما يحصل هو شأن يربط البنوك بزبانيّتها». أمّا باراك حسين أوباما، المترشّح الديمقراطي للإنتخابات الأمريكيّة (والذي يصفّق له الكثير من التونسيين وكأنّه سيأتي بالحلّ أو كأنّه هنالك فروق بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري) فقد قال بالحرف الواحد: «في حالة فوزي سأمهل أصحاب البيوت المستردّة ثلاثة أشهر كي يتدبّروا أمرهم»!!! هكذا يقدّم أوباما حلاّ سحريّا لملايين الأمريكيين يتمثّل في تمكينهم من حيّز زمني دون تمكينهم من أي إعانة ماليّة وهم الذين لم ترتفع أجورهم منذ أكثر من 20 سنة.
هكذا إذا يفتضح الجوهر الحقيقي للدولة من حيث معاداتها للطبقات الكادحة التي تمارس عليها دكتاتوريّتها. غير أنّ شعوب تلك البلدان ونقاباتها يتساءلون وبكلّ استغراب عن مصادر تلك الأموال الهائلة التي ظهرت فجأت بينما كان أولئك الرؤساء يعلنون منذ وقت ليس ببعيد أنّ خزائن دولهم فارغة وغير قادرة على تمويل هذا النشاط الاجتماعي أو ذاك وكان هذا سببا كافيا لوحده لإثارة غضب تلك الشعوب ونقاباتها.
وهكذا أيضا تفتضح طريقة إعادة توزيع الدخل الوطني داخل الدولة البرجوازيّة. فآليّة إعادة التوزيع تقوم في كون الدولة تجمع، بواسطة الضرائب، قسما كبيرا من مداخيل السكان (الذين هم في أغلبيّتهم الساحقة من الطبقات الكادحة) ثمّ تنفقه كما يطيب لها أو لنقل بوضوح يكون التوزيع دائما وأبدا في صالح الرأسماليّة. يقول بوزوييف: «إنّ الآلية الضرائبيّة المعقدة أشبه بمضخّة هائلة تضخّ الأموال من جيوب الشّغيلة إلى صناديق الإحتكارات».
ففي الوقت الذي تقوم فيه الطبقة الرأسماليّة بإستغلال مختلف المنافذ والمهارب (استغلال النفوذ والرشوة) للتهرّب من دفع الضرائب وفي الوقت الذي تقوم فيه الدولة البرجوازيّة بإعتماد ما يسمّى بالضريبة التناقصيّة أي أنه بقدر ما يزداد ربح المؤسّسة الخاصة بقدر ما يقلّ نسبيّا مقدار الضرائب التي تدفعها تقتطع الدولة مباشرة من مرتّبات العمّال والموظّفين الضريبة على الدخل اضافة الى الضريبة غير المباشرة التي تزداد من سنة إلى أخرى.
فالدولة البرجوازيّة بالإضافة الى ما تقوم به من دعم مالي مباشرة مثلما يحصل هذه الأيام تقوم بصرف الميزانيّة بشراء البضائع والخدمات من القطاع الخاص بل هي تعتبر الطالب الرئيسي لمنتوج الإحتكارات في صناعة الطيران والصناعات الحربية (صواريخ، دبابات، ذخائر...) كما تقوم بدفع فوائد قروض الدولة وتؤمّن سوقا مضمونة للتصريف بشروط مفيدة للإحتكارات وتمنح القروض بشروط مهاودة وتموّل البحوث العلميّة وتنفق مبالغ كبيرة على حفز تصدير رأس المال اضافة الى تطوير البنية التحتية (وسائط النقل، توليد الطاقة، وسائل المواصلات، التزوّد بالمياه...) التي تؤثّر بصفة مباشرة في تطوير الاقتصاد الرأسمالي وفي مقدار المرابيح التي تجنيها الاحتكارات في الأسواق الوطنيّة.
وهكذا يتضح ودون أدنى شكّ أنّ الدولة الإحتكارية تتجّه مباشرة ضدّ مصالح الجماهير الكادحة حيث تقلّص من سنة إلى أخرى النّفقات الاجتماعيّة (التعليم، الصحّة، النّقل...) بينما تهبّ مسرعة لإنقاذ الطبقة الرأسماليّة والطغمة الماليّة وتجنيبها الإفلاس والإنهيار.
ولندرس الآن تدخّل الدولة في سوق العمل كمثال حيّ على انحيازها لرأس المال ضدّ العمّال. فالسّوق، أيّ سوق، تتكوّن من آليات العرض والطلب التي تحدّد السّعر لكنّ الأهمّ هو أنّ هذه الآليّات تتدخل فيها الدولة وسنرى كيف يحصل ذلك؟
أوّلا في خصوص بيع قوّة العمل (العرض) الذي تتحكّم فيه تشريعات تصدرها الدولة وهي دائما وأبدا في خدمة رأس المال: الأجر لا يمثّل الاّ الفتات الذي يقدّمه الأعراف للعمّال، مرونة التشغيل التي تفتح الباب واسعا أمام الأعراف لإستغلال العمّال بشكل بشع (عقود محدودة المدّة، ساعات عمل طويلة، ظروف عمل مرهقة...).
ثانيا في خصوص الطّلب تتدخّل الدولة أيضا لوضع التشريعات اللازمة (قوانين الشغل) والمتعلّقة بالمهارات المطلوبة والشّهائد وسنّ الانتداب وواجبات العمّال التي يحدّدها أصحاب العمل ويجعلونها شروطا لإنتداب العمّال.
ثالثا نأتي لمسألة السّعر أي ثمن بيع العمّال لقوّة عملهم (ما نسمّيه الأجر) وهذا أيضا تتدخّل فيه الدولة اذ هي التي تحدّد الأجر الأدنى في القطاع الخاص (وهو في الحقيقة الأجر الحقيقي الذي يتقاضاه العمّال إذ تستعمل لفظة الأدنى للمغالطة والتمويه) وكذلك أجور العمّال في القطاع العام التي تقتطع منها مبالغ مهمة في شكل جباية لتصرفها (مثلما رأينا سابقا) على رأس المال من جديد.
أمّا أهمّ مثال على تدخّل الدولة في سوق العمل لصالح رأس المال في ظلّ العولمة الليبرالية الشّرسة فهو سجن عمّال البلدان المتخلّفة في بلدانهم الأصليّة ومنع حريّة التنقل بينما يتنقل رأس المال بحريّة كاملة. والهدف من ذلك هو فتح الباب واسعا أمام الإستغلال الفاحش للعمّال في بلدانهم الأصليّة لا فقط من طرف الكمبرادور والإقطاع وإنّما خاصّة من طرف الشّركات المتعدّدة الجنسيّات التي حوّلت العديد من أنشطتها إلى البلدان الفقيرة لإستغلال ما يتوفّر لها من تشجيعات جمركيّة وتشريعيّة وخاصّة من أجور متدنّية وهو ما يسمح لها من الحصول على قيمة مضافة عالية جدّا (مصانع شركة «أديداس» في الفلبين كمثال على ذلك). ولكنّ السؤال الجوهري هو التالي: «هل ستواصل الدولة البرجوازيّة لعب هذا الدور الى ما لا نهاية؟». قطعا لا لأنّ تطوّر اقتصاد الرأسماليّة المعاصرة تطوّرا موضوعيّا لن يؤدّي الاّ إلى تفاقم تناقضاتها وبالتالي إنتفائها وهو ما يهيأ الأساس المادّي الكامل لقيام المجتمع الإشتراكي العادل الذي ينتفي فيه إستغلال الإنسان للإنسان.
2 تذكير بالتطوّر التّاريخي للرأسماليّة والامبرياليّة لمن نسي أو تناسى ذلك
رغم مرور أكثر من 150 سنة على المؤلف الشّهير «رأس المال» لكارس ماركس، مؤسّس الاشتراكيّة العلميّة مع فريدريك أنجلز والذي لم يستطع أيّ مفكّر عبر التاريخ البشري أن يبدع مثله وأيضا رغم مرور أكثر من 90 سنة على مؤلف لينين معلّم البروليتاريا ألا وهو «الامبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة» الذي مثّل إحدى أهمّ الاضافات النظريّة للإقتصاد السياسي، فإنّ القيمة العلميّة لهذين المؤلّفين وراهنيّة الأفكار الواردة فيهما تتأكد يوما بعد آخر وليس الأزمة التي تعيشها الرأسماليّة اليوم إلاّ دليل آخر على علويّة الفلسفة الماركسيّة وأساسها النّظري المادية الجدليّة والتاريخية اللذان مكّنا من دراسة الطبيعة والمجتمع وبالتالي أعطيا نظرة علميّة للعالم (ومنها المرحلة الرأسماليّة الحاليّة) وهي النظرة الوحيدة العلميّة أي تتفق وتعاليم العلوم حيث يقول ستالين: «الماركسيّة هي العلم الذي يقوم بدراسة قوانين تطوّر الطبيعة والمجتمع، وهي العلم الذي يدرس ثورة الطبقات المضطهدة المستغلّة كما أنّها العلم الذي يصف لنا انتصار الإشتراكيّة في جميع البلدان».
فمهما نعقت أبواق الدّعاية الامبريالية والصهيونيّة والرجعيّة الدينيّة ومهما أنجزت قنوات التلفزة المملوكة من طرف الشركات متعدّدة الجنسيّات الرأسمالية في الغرب وقنوات البترودولار والحركات الاخوانيّة الظّلامية في الشّرق من برامج حواريّة ووثائقيّة وتاريخيّة ومهما استدعت من أشباه مثقفين أو اسلاميين حاقدين أو ليبراليين كذّابين للتشدّق بإنتصار الليبرالية ونهاية التاريخ والإنسان الأخير وشنّ حرب ضدّ الاشتراكيّة العلميّة والتعرّض بالسبّ والشتم والتشويه لمؤسّسيها وروّادها ومطبّقيها كارل ماركس وفريدريك أنجلس وفلاديمير إيليتش لينين وجوزاف ستالين فإنّها لن تقدر على طمس الحقيقة التي أكّدها لينين «إمّا اشتراكيّة أو بربريّة».
ونعود لنقول أنّ مردّ أهميّة مؤلفا ماركس ولينين أنّهما كشفا وبيّنا بصورة عميقة القوانين الفعليّة لتطوّر الرأسمالية كما حدّدا بدقة متناهية آفاق الرأسماليّة الآيلة إلى الزّوال.
وقد أكّدت الماركسيّة أنّ الأزمات هي ظاهرة ملازمة للرأسماليّة وما تعيشه الامبرياليّة اليوم من أزمة تضاهي في حجمها أزمة الثلاثينيات رغم المتغيّرات التي طرأت على هذا النظام حيث أضحت العولمة الليبراليّة الشّرسة احدى تمظهراته منذ أواسط الثمانينينيات الاّ دليل على ذلك.
فالعالم اليوم في ظل العولمة هو عبارة عن لوحة معقدة ومركّبة ومتناقضة فمن جهة نجد العالم الرأسمالي بكلّ ما يختزنه من آليّات ووسائل وطرق استغلال واضطهاد وقهر مع سيادة حفنة من أصحاب رأس المال المالي والإحتكارات المنفلتة من تحت عقلها ومن جهة أخرى يتكدّس ملايين البطّالين على أرصفة الشوارع بلا قوت ولا مأوى ومليارات الكادحين والمهمّشين الذين يعيشون بأقلّ من دولار في اليوم في ظل ارتفاع جنوني وغير مسبوق لأسعار المواد الأساسيّة والحياتيّة. ثمّ نجد من جهة اشتداد الرجعيّة السياسية التي تمارسها الامبرياليّة ووكلائها في المستعمرات وأشباه المستعمرات ومن جهة أخرى يتعاظم نضال الشغيلة الطّبقي من أجل التحرّر الوطني والإنعتاق الاجتماعي رغم التعتيم الإعلامي الذي تمارسه الامبرياليّة (العراق، فلسطين، سيريلنكا، كردستان، الهند، الفليبين، النيبال، المكسيك، البيرو، كولمبيا...). ثمّ نجد أيضا من جهة انفلات العسكراتيّة الهائل في كلّ مكان من يوغسلافيا الى العراق ومن افغانستان الى السودان ومن فلسطين إلى لبنان ومن الكونغو إلى باكستان ومن جهة أخرى تتسّع حركات مناهضة العولمة والامبريالية والحرب اتّساعا مهيبا. فإحتداد التناقضات لا يمكن الاّ أن يولّد المقاومة والمقاومة بدأت من داخل البلدان الإمبريالية نفسها، فقد مثّلت المظاهرات الضخمة التي انطلقت من سياتل سنة 1997 وتتواصل حتى اليوم ملحمة نضالية كبيرة انخرط فيها جيل جديد من المناضلين، شباب عامل بالفكر والساعد ذو حماس فياض ومبادرات لا تنضب ويختزن قدرة هائلة على الصمود والمقاومة.
شباب انتفض ضد أوهام الرأسمالية ولم يعد يقبل باللامساواة وبنهب خيرات البلدان الفقيرة وبتدمير العالم، شباب يصيح بصوت عال أمام زعماء العالم الامبريالي بأنّ «عالم آخر ممكن» )(Un autre Monde est possible. ه
هذا الجيل الذي يرفع الرايات الحمراء وصور روّاد الفكر الإشتراكي الذي بشّرت أبواق الدعاية الامبريالية والصهيونية والرجعيّة بأنّه انتهى بإنتهاء الاتحاد السوفياتي، نجح في تنظيم مظاهرات لم يشهد العالم الغربي مثيلا لها منذ أحداث ماي 1968 واستطاع بذلك وضع زعماء العالم الامبريالية والمؤسسات المالية العالمية في موقف لا يحسدون عليه.
فلم تعد هذه المنظمات ولا رؤساء الدول الاجتماع بكل أريحية ودون أن يعكّر صفوها أي شيء لتقرير مصير العالم حسب مصالحها الضيقة بل أصبحت التحضيرات لهذه الاجتماعات تأخذ منهم وقتا وجهدا وامكانيات كبيرة لتوفير أجهزة القمع الضرورية للتصدّي للمظاهرات المناهضة لها. ألم يقم خوزي ماريا أزنار رئيس حكومة اسبانيا بتحريك طائرات أف 16 وبوارج حربية وبطاريات صواريخ يوم 2 مارس 2005 وكأنّه في حالة حرب لإرهاب حوالي 500000 متظاهر نزلوا لشوارع برشلونة للتنديد بأوروبا الليبرالية.
ثمّ أخيرا وليس آخرا تحدّث من جهة ثورة علميّة وتكنولوجية لم يسبق أن عرفها التاريخ (الإستنساخ، المعالجة الجينية، الإنترنات...) يمكن أن تفتح آفاقا رحبة أمام الإنسان في مجالات عدّة (معالجة الأمراض، تطوير الإنتاج الفلاحي، التواصل بين الشعوب...) ومن جهة أخرى تبرز مشاكل كونيّة لم تعرف البشريّة لها مثيلا مثل الجوع الذي يعاني منه ملايين البشر وتفشّي الأمراض الخطيرة العابرة للحدود وتدمير البيئة وغيرها من إفرازات العولمة الليبراليّة الشّرسة.
لكنّ هذه الظواهر المتناقضة والمعقدة التي تبرز في عالمنا المعاصر هي التي تحدّد خصائص الرأسماليّة التي تحدّث عنها كارل ماركس في أول النصوص التي كتبها عند بداية تحظير مؤلفه رأس المال سنة 1853 وكذلك لينين في مؤلّفه الامبريالية أعلى مراحل الرأسماليّة. فرغم ما طرأ من تغييرات كبيرة على الأشكال الخارجيّة لقوانين الرأسماليّة (التكنولوجيات الحديثة، توظيف رأس المال في البورصات...) فإنّ العمليّات العميقة التي تؤلّف الأساس الموضوعي للرأسماليّة المعاصرة لم ولن تندثر كما أنّ جميع القوانين الاقتصادية والسياسية الرئيسية لطور الرأسماليّة الإحتكاري تتأكّد من سنة إلى أخرى. وكما نرى فإنّ تفاقم تناقضات الرأسماليّة الاحتكاريّة الذي اعتبره لينين «القوّة المحرّكة الأكثر بأسا في المرحلة التاريخية الإنتقاليّة من الرأسماليّة إلى النظام الإجتماعي الجديد» لا يزال يلازم الرأسماليّة في الوقت الرّاهن.
وقد كان كارل ماركس واضحا حول هذه المسألة حين صاغ القانون الذي يحكم نمط الانتاج الرأسمالي المرتكز على مفهوم فائض القيمة الذي يدلّل على فائض الإنتاج الاجتماعي للخيرات المادية والذي اتّخذ شكلا نقديّا (Monétaire) بعد أن دفع التطوّر التاريخي لتجاوز الشكل التبادلي (Troc). وهكذا يصبح فائض القيمة نقطة التركيز التي تقوم عليها المؤسسة الاقتصادية الرأسماليّة (بيع وشراء فائض القيمة فقط أي الربح) عبر عمليّات المضاربة بالأسهم وهذا هو بالضبط ما حصل في الأزمة الماليّة الحاليّة التي نتجت على مضاربة طفيليّة تمتصّ مدّخرات وودائع الطبقة العاملة المفقرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.