مازال النقاش بشأن الوطنية الفلسطينية وضمنها العلاقة بين البعدين الوطني والقومي، يحتل مكانة بارزة في السجالات الفلسطينية. وبغض النظر عن دلالاته، وأغراضه، فإن هذا النقاش يستمد مشروعيته من تأزّم الفكر السياسي القومي، وتعثّر المشروعات الدولتية الوطنية، وضعف مناحي الاندماج المجتمعي، في المنطقة العربية. كما يستمد مشروعيته من طبيعة الوجود الإسرائيلي، في هذه المنطقة، وتداخل البعدين الفلسطيني والعربي، في مواجهة هذا الوجود، كما من السلبيات والالتباسات التي أحاقت بطريقة إدارة القيادة الفلسطينية لخياراتها السياسية الوطنية. وكانت حال الاقتلاع والتشرّد والحرمان من الوطن (بفعل النكبة)، وبعدها الحرمان من الهوية والحقوق (للاجئين)، فرضت تمييز الفلسطينيين كشعب، ومهّدت لبروز هويتهم أو الوطنية الخاصة بهم. وهذا الوضع لم يأت كردّ فعل على قيام الكيان الإسرائيلي، فقط، وإنما كردّ فعل، أيضا، على السياسات التي انتهجها إزاءهم النظام الرسمي العربي، والمتمثلة بطمس وجودهم وتهميشهم سياسيا واجتماعيا، وعدم تمكينهم من إقامة كيان لهم في باقي أراضيهم (الضفة والقطاع)؛ وإحلال اللاجئين في مكانة المقيم المؤقت، فلا هو مواطن، ولا هو مقيم ذو تابعية معينة. هكذا برزت الهوية الوطنية للفلسطينيين، بشكل شائك ومعقد ومشوّه، ولكن في السياق ذاته لصعود الهويات الوطنية، وقيام الدول العربية، وليس الدولة العربية الواحدة (وهنا نتحدث عن الوطنية وليس االقومية، وعن الشعب وليس الأمة). في هذه المناخات جاءت حركة فتح التي التقطت هذه الحالة، وعملت على بلورة هوية الفلسطينيين، ما يفسّر الشعبية التي حظيت عليها بسرعة غير مسبوقة، مقارنة بتاريخ الحركات السياسية؛ في زمن كان يعجّ بالحركات القومية. وهذا يفسّر، أيضا، تفكّك حركة القوميين العرب إلى حركات وطنية، وتحول جورج حبش زعيم هذه الحركة نحو إقامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ في زمن االناصرية. ويلفت الانتباه أن وجهات النظر االقومية، التي تدّعي عدم مشروعية الوطنية الفلسطينية، والتي تخطّئ، أو تناوئ، استقلالية القرار الفلسطيني، غالبا ما تغفل خصوصيات الوضع الفلسطيني، عن قصد أو من دونه، وضمن ذلك أن الواقع العربي، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، لايعيش في الزمن القومي، ولا يتجه نحوه، وإنما في زمن الوطنيات، وحتى ما قبل الوطنيات. فالمجتمعات لم تصل بعد إلى مرحلة الاندماج الوطني، بدليل حال الانشطار والتشظّي الظاهرة، والكامنة، فيها، على صعيد البلد الواحد، أما الحكومات فكل يغنّي على ليلاه او سلطته. وما يفاقم هذا الوضع غلبة السلطة على الدولة، في الدولة العربية السائدة، نظرا لغياب مرتكزات الدولة الحديثة، أي دولة الدستور والقوانين والمؤسسات والمواطنين (هذا دون أن نذكر الديمقراطية أو تداول السلطة). وبهذا المعنى ربما يمكن اعتبار الوطنية الفلسطينية بمثابة حالة اثورية في الواقع العربي، إن جاز التعبير، على الأقل في مرحلة البدايات، وبغضّ النظر عن المآلات التراجيدية لهذه الحالة؛ التي لها علاقة بطبيعة إدارة الوضع الفلسطيني، والمداخلات العربية فيه. فوق ذلك، فإن حضور البعد الفلسطيني في الصراع ضد إسرائيل يشكّل تقويضا لإحدى مرتكزات المشروع الصهيوني، الذي تأسّس على تغييب الشعب الفلسطيني، بمعنى أنه حضور نضالي. فضلا، عن أنه لا يمكن التعاطي مع قضية فلسطين باعتبارها مجرد قضية قومية، أي قضية دور وظيفي (إمبريالي) لإسرائيل، في المنطقة العربية، وفقط. فثمة، أيضا، شعب بعينه جرى اقتلاعه من أرضه، وحرم من هويته وحقوقه الوطنية، ثم ثمة أبعاد أخرى لهذه القضية، ضمنها طابع إسرائيل كدولة استيطانية ويهودية، استطاعت أن تبني دولة ومجتمعا يعيدان إنتاج ذاتهما. ومن ناحية أخرى فإن حصر إسرائيل بهذا التعريف (دولة وظيفية) مضلّل على الصعيد المعرفي لأنه يحجب، ويستهين، بحقيقتها كدولة باتت تعتمد على ذاتها، في البقاء والتطور، مع عداء محيطها لها، إضافة إلى تفوقها على هذا المحيط، وتحديها له، برغم ضعف إمكانياتها البشرية والجغرافية والمادية مقارنة به. ومن الناحية العملية فإن التركيز على البعد الوظيفي لوحده غير مفيد، بواقع انصراف الدول، وحتى المجتمعات العربية، عن الاهتمام بقضايا مواجهة إسرائيل، لأسباب موضوعية وذاتية (ليس مجالها هنا) هكذا فإن القول بتبلور وطنية فلسطينية، كالوطنيات المصرية والسورية والعراقية والجزائرية..الخ، لايعني فصل الشعب الفلسطيني عن انتمائه العربي، فالشعب ليس قبيلة، وهو وحدة مجتمعية أصغر من الأمة. وبغضّ النظر عن إشكاليات تكوّن الأمة العربية، وعدم تجسّدها في دولة، فإن الحديث عن هوية فلسطينية لا يتناقض مع الهوية العربية، ولا يحل محلها، بل يدخل في عوامل تكونها وتميزها وتبلورها؛ في نقيض للنظرة القومية الجامدة والشمولية والمطلقة للهويات، ولتشكل الأمم. هكذا فثمة هويات كبرى وصغرى، وأساسية وفرعية؛ ويمكن للمرء أن يكون فلسطينيا وعربيا، كما أن يكون بدويا ومسلما أو مسيحيا وفلسطينيا وعربيا في آن. عدا ذلك فإن الوطنية الفلسطينية، لا تعني إبعاد الأمة، بمجتمعاتها ودولها، عن مواجهة تحدي إسرائيل في هذه المنطقة، فالفلسطينيون اضعف من أن يقوموا بذلك حتى لو أرادوا. وإذا كان يصحّ القول بتحدي إسرائيل للوضع العربي، وكونها عامل تأخير وتوتير فيه (بين عوامل أخرى)، فإن القول بقومية الصراع ضدها مجرد قول يطال حيّز العواطف والشعارات والتمنيات، ولا ينتمي إلى حيّز الوقائع والممارسات (كما بيّنت التجربة) إلا بقدر تحدي إسرائيل للوضع العربي، وبقدر استجابته للتوظيفات السياسية الإقليمية؛ إضافة إلى أن هذا القول يخصّ منطقة المشرق العربي، أكثر من غيرها. أما القول باعتبار قضية فلسطين بمثابة القضية المركزيةب للأمة العربية فقد ظلّ، على الأغلب، مجرد كلام دعائي ونظري، بدون تمثّلات واقعية مستديمة. وهنا، أيضا، يجب أن نميّز بين قضية وجود إسرائيل وتحديها للواقع العربي، وبين القضية الفلسطينية، فقد يصحّ أن الأولى شكلت محورا لاهتمامات دول ومجتمعات المشرق العربي، لأسباب مختلفة، في حين أن الثانية (أي قضية فلسطين) تعتبر قضية فرعية، بدليل التمييز في التعامل بين قضية فلسطين ووضع شعبها؛ حيث يجري تقديس أو إعلاء شأن القضية، فيما يجري مرمطة شعبها. في هذا الإطار ثمة اهمية للتمييز بين مسألة استقلالية القرار الفلسطيني، وهي شأن يتعلق بإدارة الوضع الداخلي، وتقرير التوجهات السياسية، وبين كيفية إدارة القيادة لهذه المسألة، وهي إدارة تستحق النقد، كغيرها من المسائل. وكما هو معروف فإن هذه الاستقلالية لم تمسّ السياسات العربية المتعلقة بالصراع والتسوية مع إسرائيل. إضافة إلى أن التجربة بيّنت بأن القرار الفلسطيني حافظ على استقلالية محدودة، بحكم تماثله في المحصلة مع السياسات التي انتهجها النظام العربي. على ذلك فإن المطالبة بتغييب الوطنية الفلسطينية، والتخلي عن استقلالية القرار، لصالح قومية الصراع، هو حديث افتراضي رغبوي، فليس ثمة قطر مركز أو رافعة، أو نموذج، وثمة خلاف من حول ذلك. كما ثمة غياب مزمن لاستراتيجية عربية موحدة، في مواجهة إسرائيل، في الصراع أو في التسوية معها. من ناحية أخرى فما يلفت الانتباه، أن دعاة االقومية العربية يعتبرون قضية فلسطين قومية وأن القرار الفلسطيني يجب أن يكون قوميا، في حين لايتم التعامل مع الشعب على هذا الأساس، مع ابتداع هوية لاجئ (كيف يكون الإنسان لاجئا في وطنه العربي!؟) بدعوى رفض التوطين، وهي هوية بين بين، لا عربية ولا فلسطينية؛ هذا إذا تجاوزنا السؤال عمن يمتلك مشروعية حصر التحدّث باسم القومية.
ويستخلص من ذلك أن تأزّم (الوطنية الفلسطينية) الراهن هو تحصيل حاصل لحال التشتت المجتمعي، وإخفاق حركة التحرر في مهماتها، وغياب هدف وطني جامع للفلسطينيين. كما هو نتاج للتأزم في تبلور الوطنية الدولية والمجتمعية، في المنطقة العربية، وتأزم العملية الوطنية في مواجهة المشروع الصهيوني، بما هو عليه كمشروع استعماري استيطاني وإحلالي وعنصري، وبحكم تمتع إسرائيل بعناصر الغلبة في موازين القوى والمعطيات العربية والدولية.