بغضّ النظر عن الظروف الذاتية والموضوعية التي ساعدت على إقامة اسرائيل (1948)، وأيضا الجدل بشأن شرعيتها من عدم ذلك، إلاّ أنّ قيام هذه الدولة شكل حدثا مؤسسا في التاريخ السياسي لهذه المنطقة، وبالأخص منطقة المشرق العربي، بحيث بات يمكن معه التأريخ لما قبل قيام هذه الدولة وما بعدها. لكن ما يجب إدراكه وقوله هنا، هو أنّ هذه المنطقة استطاعت بعد ذلك أن تنتج أحداثها المؤسّسة، وتاريخها الخاص، على الرغم من وجود اسرائيل، بل وبالتعايش مع هذا الوجود، ومع تأثيراته سلبا أو ايجابيا. هكذا يمكن الحديث عن تطورات تاريخية، سياسية واجتماعية في كل من سوريا ومصر ولبنان والأردن والعراق واسرائيل طبعا. من ذلك يبدو أنّ الفلسطينيين هم الاستثناء الوحيد في هذا المجال، في تلك المنطقة لجهة أنّهم لم يتمكنوا من انتاج تاريخهم (السياسي والاجتماعي والهوياتي)، الخاص بهم (بالمعنى النسبي)، اذ أنّ هذا التاريخ ظلّ مرتبطا بإسرائيل. هكذا كانت النكبة (الناجمة عن قيام اسرائيل)، بمثابة الحدث المركزي المؤسّس في تاريخ الفلسطينيين المعاصر، حيث أنّ تاريخهم السابق (السياسي والاجتماعي والهوياتي) كان أقرب إلى تاريخ بلاد الشام والمشرق العربي، وضمن ذلك في الحقبتين العثمانية والاستعمارية الغربية. فقد قامت اسرائيل على 77 بالمائة من أرض فلسطين، وأدّى ذلك إلى سلب الفلسطينيين لممتلكاتهم، واقتلاع معظمهم من أرضهم ومدنهم وقراهم، وتحويلهم الى لاجئين في البلدان العربية المجاورة، في حين جرت محاولة «أسرلة» وتغييب لمن تبقى منهم ضمن حدود اسرائيل. وكانت محصلة هذا الوضع ليس فقط حرمان الفلسطينيين من إقامة كيانهم الوطني المستقل (أسوة بالكيانات التي ظهرت في تلك الفترة في المشرق العربي)، وإنّما أدّى ذلك أيضا إلى تمزيق الوحدة المجتمعية للفلسطينيين، وقوّض تعبيراتهم الجمعية، المؤسسية والهوياتية والسياسية. وبقول آخر، فقد أدى قيام اسرائيل الى حجز التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للفلسطينيين. فقد وحدت النكبة الفلسطينيين من ناحية، وعملت على تفكيك هذه الوحدة من ناحية أخرى. وبينما تجلّت هذه الوحدة في الناحية المعنوية / السياسية، فقط، لجهة كون الفلسطينيين ضحيّة لإقامة اسرائيل، فإنّهم فقدوا وحدتهم المجتمعية والسياسية والهوياتية، بسبب حال التشظي التي ألحقت بهم. وكما هو معلوم اذ ظهر حينها فلسطينيون كثر، متعدّدون، فثمّة فلسطينيو 48، الذين باتوا بمثابة مواطنين (اسرائيليين) في الدولة التي قامت على أنقاض شعبهم. وثمّة فلسطينيو الأردن الذين تحولوا الى مواطنين في المملكة الأردنية، وثمّة فلسطينيو سورية ولبنان (ومصر والعراق بشكل أقل) الذين وجدوا أنفسهم لاجئين، بالرغم من أنّهم ينتمون إلى الأمة ذاتها (بحسب الفرضيات القومية)، بالنظر لتزامن النكبة مع زمن صعود الكيانات والهويات الوطنية وقتها. بعد انطلاقة حركة التحرّر الفلسطينية، فقط، أي منذ أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي، بات يمكن التحدّث عن مبادرة الفلسطينيين لصنع تاريخهم الخاص مع اقامة ما يمكن اعتباره مؤسساتهم الجامعة، المنظمة والفصائل والاتحادات الشعبية والمؤسسات والصحف، وفي المقدمة من كل ذلك منظمة التحرير. لكن هذه المرحلة، التي شهدت بزوغ الهوية الفلسطينية اعترتها عديد الثغرات والاشكاليات فقد قامت اسرائيل باحتلال ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية (1967) وسيطرت على حياة الفلسطينيين في الضفة والقطاع مولّدة حالة تجزيئية جديدة للشعب الفلسطيني. وبرغم من أنّ الحركة الوطنية استطاعت انتزاع مكانة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة، إلاّ أنّها لم تستطع ترجمة ذلك بممارسات معيّنة في إقليم معين. بل انّ هذه الحركة حرمت في العمل في أكبر تجمع للاجئين (الأردن بعد 1970)، لتعارض الهوية الأردنية مع الفلسطينية، وأحاطت بظروف تواجدها في لبنان وسورية محدّدات واحتكاكات انعكست سلبا عليها. ومع أهمية العوامل الأخرى الكامنة وراء هذه المحددات وتلك الاحتكاكات، وضمنها تعارض واقع الحركة الفلسطينية مع واقع النظام الرسمي في هذا البلد أو ذاك، وعدم قدرتها على الموائمة بين امكاناتها ومتطلباتها، والبناء القلق للكيانات العربية، فإنّ اسرائيل لعبت دورا كبيرا في توتير الأوضاع وتفاقمها بين الحركة الفلسطينية والنظم المعنية، ما جعل هذه الحركة عالة وعبئا عليها. ويمكن اعتبار انّ اجتياح لبنان (1982)، الذي نتج عنها تقويض مؤسسات منظمة التحرير واخراج قواتها منه بمثابة الذروة في محاولات اسرائيل وأد التاريخ الخاص للشعب الفلسطيني. أمّا الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 1993) وبرغم من أهميتها التاريخية والوطنية، الاّ أنّها كانت بمثابة مرحلة انتقالية بين محاولة الفلسطينيين شق مسارهم الخاص وبين محاولة اسرائيل كسر هذا المسار. وبالمحصلة فإنّ قدرة اسرائيل على السيطرة، والتطورات الدولية والإقليمية الحاصلة أدتا إلى إجهاض هذه المحاولة الاستقلالية المتمثلة بالانتفاضة لصالح قيام نوع من سلطة محدودة بما تعطيه وما لا تعطيه اسرائيل. على ذلك يمكن اعتبار اتفاق أوسلو (1993) بمثابة انقطاع في التاريخ الفلسطيني الخاص لصالح انضوائه بالتاريخ الاسرائيلي في المنطقة، وساعد على ذلك التطورات العربية الحاصلة وانكفاء ما يسمى بالصراع العربي الاسرائيلي الذي ظلّ مجرّد حالة لفظوية أو شعاراتية أكثر من كونه حالة سياسية أو مادية. وبمعنى آخر فإنّ اسرائيل تمكّنت عبر هذا الاتفاق من معاودة الإمساك بمسار التاريخ الفلسطيني فهي التي تحدّد ماهية التسوية وأولوياتها وحدودها ومآلاتها. ولم تفلح محاولات الفلسطينيين في ما عرف بالانتفاضة الثانية (التي اندلعت أواخر عام 2000) بإعادة زمام المبادرة إلى الفلسطينيين، اذ أنّ اسرائيل سارعت وبكل قوتها الى استنزاف هذه المحاولة وإجهاضها. وفي كل ذلك تكاد اسرائيل تتحكم بتاريخ الفلسطينيين، فهاهو الكيان الفلسطيني تحت رحمتها وسيطرتها، وعملية التسوية باتت تتوقف على ما تريده ومالا تريده، وهي تنسحب من قطاع غزة، كي تحوله إلى سجن كبير، وإلى مكان لاختلاف واقتتال الفلسطينيين. وهي تمعن بفرض املاءاتها، عبر تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، وعبر بناء الجدار الفاصل، وتهويد القدس والسيطرة على الحدود والمعابر ومستوى المعيشة والصادرات والواردات. وفي كل ذلك أي بوسائل القوة الغاشمة والسيطرة القاهرة وبوسائل الإغراء السياسي استطاعت اسرائيل تجويف وتبهيت الحركة الوطنية الفلسطينية، بحيث أنّها استطاعت رفع كلفتها وتمكّنت من افراغها من مضمونها. في مقابل ذلك، وبسبب صمود الفلسطينيين وعنادهم وتضحياتهم لم تنجح اسرائيل تماما من جهتها بفرض تاريخها الخاص، فهذه الدولة لم تستطع أن تفرض نفسها كملاذ آمن لليهود، بل باتت بمثابة المكان الأكثر خطرا عليهم. وبدلا من أن تقدم هذه الدولة نفسها باعتبارها دولة ديمقراطية وعلمانية وحداثية، اذا بها تبدو أيضا على شكل دولة دينية ثنائية القومية (من حيث الواقع وليس من جهة القانون). والمشكلة أيضا انّ هذه الدولة مازالت من دون دستور، وهي لم تحدّد حدودها بعد، لا من الناحية الجغرافية ولا من الناحية الديمغرافية. وهي دولة لم تستطع ان تطبّع مع الفلسطينيين، من المواطنين ومن الخاضعين للاحتلال، بسبب اعتمادها ايديلوجية النفي والتغييب والإزاحة والحلول والقوة لفرض تاريخها وروايتها في مواجهتهم. من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأنّ العقود الستة الماضية من النكبة والصراع والنفي المتبادل لم تُجدِ، على الجانبين مايفترض البحث عن معادلات جديدة، تتأسس ربّما على ايجاد حل ديمقراطي علماني، يضع حدّا لمأساة الفلسطينيين، ولمخاوف الاسرائيليين في اطار دولة واحدة وبما ينسجم مع التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.