الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزيزة تمكنت من حلّ احداثيات الشارع العربي وكشف شفرته النفسية
«الجزيرة» في لعبة السياسة...(الجزء الأوّل): كتبها: خليفة شوشان
نشر في الشعب يوم 22 - 08 - 2009

بين الإعلام والسياسة وشائج قربى وصلة رحم لا تنفصم، قد تفتر أحيانا إلى حدّ القطيعة والتنافر عندما تستبدّ إحداهما بالأخرى من خلال الهيمنة والتوظيف فتفقد إحداهما استقلاليّتها وسلطتها وتغدو تابعا طيّعا ذلولا، ولكنّ هذه العلاقة قد تصل حدّ التماهي فلا نعلم هل نحن أمام سلطة إعلام أو إعلام سلطة؟؟
هل نحن إزاء سياسة إعلاميّة أو إزاء إعلام سياسي... تبقى الفرضيّة الثالثة على ندرتها وشذوذها البديل الذي يمكن أن يصل الرحم بين المجالين من دون غلبة أحدهما على الآخر أو ادعائه الأبوّة المطلقة وذلك من خلال بناء جسور من التفاهم تحفظ لكليهما سلطاته وحدود تدخله سواء في الشأن الخاص الذي يتعلّق بالمواطن الفرد أو في الشأن العام ممثلا في المشترك الاجتماعي..
ولأنّ إعلامنا في الوطن العربي لم يتجاوز بعد سنّ البلوغ حتّى لا نقول سنّ الرشد، فمن المجازفة الإدعاء بإمكانيّة توفرّ الفرضيّة الثالثة المستندة إلى مبدأ حريّة الإعلام واستقلاله سلطة رابعة تحرص على تطبيق القانون وترعى العقد الاجتماعي القائم على الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعيّة والقضائيّة وتمنع استبداد أحداها بالسلطة، كلّ ذلك بغاية حماية المواطن من أيّ تعدّ من شأنه أن يمسّ من حريّته و كرامته... ولعلّي فيما قلت لم أضف جديدا، فبإمكان تلميذ متوسط الذكاء في السنة الأولى ثانوي أن يعود إلى كرّاسه ويفيدنا بعد تطبيق بسيط للشروط التي حدّدتها المقرّرات الرسميّة على كفايتها على الإعلام العربي ليشطب احتمال الحديث عن إعلام حرّ... تبقى أمامنا إذن فرضيّتان فقط بإمكان الباحث في الإعلام العربي أن يصنّف ضمنهما مهما اتسعت الهوامش التي يسمح بها الأخ الأكبر) السلطة (أو ضاقت ومهما علت مفردات هذا الإعلام وتمرّدت كاميراهاته في استباحة المحظور..
نحن إذن إزاء حدّين كلاهما مرّ، فإمّا الزواج المقدّس وإمّا الطلاق البائن لا قدر لنا في ذلك مهما حاولنا التمويه أو المداراة، ومهما تفنّنا في وضع المساحيق والأقنعة..
ولعلّ ظاهرة الجزيرة القطريّة على ما خلقته من نقلة نوعيّة تكاد لعنفها وجدّتها وأثرها أن تشكّل ثورة في المشهد الإعلامي العربي، تمثّل إشكالا وإحراجا للمقدّمات التي أسسنا عليها مقاربتنا للإعلام العربي على الأقلّ إذا ماكتفينا بالمعاينة السطحيّة لهذه الظاهرة التي خرجت من صحراء الخليج العربي فجأة مثل الطفرة النفطيّة التي أنبتت إمارات وسلاطين وممالك شقّت بأبراجها عنان السماء... ولكنّ للطفرات والاستثناءات قوانينه الموضوعيّة التي تحكمها وتتحكّم فيها، قد لا ندركها آنيّا لحظة انبثاق هذه الظواهر لكنّ المراقبة والمتابعة والتجريب ستصلنا حتما بأسباب وعلل نشوء هذه الظواهر الشاذة عن القاعدة والمتولّدة في غفلة من عقولنا التي سطّحتها البداهات وردود الفعل الحسيّة والعفويّة..
وبعيدا عن المهاترات التي علا صخبها وتطاول دخانها وتأجّج شررها حتّى ليخالها المتابع نذور معركة ومقدّمات حرب بين الشقيقتين تونس وقطر ) لا قدّر اللّه (وبقطع النظر عن بعض الكتابات الموتورة من هنا وهناك والتي وصلت حدّ السفاهة والتجريح والسباب وهتك الأعراض وهو ما يعبّر عن خلفيّات حكمت أقلام كاتبيها بعيدا كلّ البعد عن الانتصار للوطن والذود عن حماه ومصالحه التي لا أتصوّر أنّها خارجة عن العلاقات البينيّة الاقتصادية التونسيّة القطريّة أو ما يسمّى في الفقه الدولي بالمصالح المشتركة، سنحاول متجاوزين كلّ هذه الفرقعات أن ندرس قناة الجزيرة كظاهرة إعلاميّة فريدة من نوعها شكّلت كما قلنا نقلة إعلاميّة عربيّة وأبانت من خلال مهنيّة وحرفيّة كادرها «المتعدّد الجنسيات» عربيّا، عن ممكنات الإنسان العربي على التميّز والتفوّق دوليّا في قطاع حيويّ يمثّل أهمّ المجالات التنافسيّة في عالم اليوم فمن يملك المعلومة اليوم هو الجدير بصنع مستقبل البشريّة وتحديد اتجاهاتها العامة نحو الحوار والتعاون والسلام أو نحو الصراع والاستغلال والبربريّة...
كلّ ماتقدّم صحيح إذا ما صلحت النيّات و تسيّدت الموضوعيّة الإعلاميّة على المصالح الماديّة التجاريّة الربحيّة التي تجعل من المعلومة سلعة للبيع والاتجار والتوظيف البراغماتي العدواني الرخيص الذي يتوسّل بكلّ الأساليب الدعائيّة القائمة على الإثارة والاستثارة والتشويه والوشاية والمبالغة والمخاتلة والتعمية والتعتيم... ولا شكّ أنّ هذه الرزايا التي عدّدت ضاربة جذورها في عمق الأرض التي يتغذى منها الإعلام العربي ومنه طبعا الجزيرة التي أبانت السنوات الأخيرة أنّ اختلافها عن بقيّة القنوات العربيّة لا يعدّ اختلافا نوعيّا جوهريّا وإنّما يعتبر اختلافا كمّيا وزمنيّا سرعان ما جسّرته سنن التأثير والتأثّر ذلك القانون الذي لا غنى للظواهر الماديّة والاجتماعية والكائنات الحيّة والبشريّة من الخضوع له، وهو ما تمثّل في ظهور العديد من القنوات التي أرادت منافسة هذا العملاق الإعلامي الذي ولد من المهد مبهرا ومربكا كما شاءت له إرادة مطلقيه...
I النشأة
لا شكّ أنّ تسمية قناة الجزيرة تعود بالأساس إلى الفضاء الذي انطلقت منه ورامت الوصول إلى صحاريه المترامية الأطراف واستهداف جمهوره الظمآن للمعلومة والخبر، المتعطّش للانفتاح على عالم متغيّر ومتحوّل بسرعة مذهلة، وللاطّلاع على ما يدور حوله من أحداث تكاد تعصف به وتقتلعه من جذوره، وذلك عبر جملة من الرسائل السمعيّة والصوتيّة الفائقة الدقّة، متوسلة في ذلك بجملة من الوسائط المرئيّة التي خلقت حالة من الإبهار، وأعلت من قدرة الصورة على التأثير والإبلاغ...
ولا شكّ أن هذه الجزيرة المعزولة التي انبثقت فجأة في الخليج العربي قد شكّلت ظاهرة إعلاميّة فريدة، استطاعت خلق حالة من الإرباك، خلخلت سكونيّة المشهد الإعلامي العربي الذي ساد لزمن طويل حتّى تحوّل إلى نسخة مكرورة واسطوانة مشروخة تعيد اجترار ذاتها، ممّا خلق حالة من النفور عند المشاهدين العرب الذين تحوّلت ذائقتهم وتغيّرت انتظاراتهم وتجدّد وعيهم الإعلامي والمشهدي وصار لا يستوعب أنصاف الحقائق وأشلاء الصور...
لقد استطاعت هذه القناة الوليدة أن تستوعب الكلّ العربي، وتشدّ اليها الأنظار إقليميّا وتتسامق في سماء الإعلام العالمي لتنافس كبرى القنوات التلفزيّة العالميّة، بل وصلت حدّ «الاحتكار الإعلامي» عندما شكّلت خلال الحرب الأفغانيّة الأخيرة 2001 المصدر الوحيد للمعلومة والنافذة التي كسرت جدار الصمت والتعتيم الذي فرضته الإدارة الأمريكيّة على محرقة «قندهار» الشهيرة، ولعلّ الأمر نفسه يصحّ على الانتفاضة والحرب العراقيّة الأخيرة 2003 عندما كان مراسلوها الأبطال فعلا حدّ الشهادة يقبضون على كاميراهات التصوير ويتسلّلون إلى خطوط النار والخنادق الأماميّة في «جينين» و»الفالوجة» لنقل المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيونيّة في فلسطين والأمريكيّة في العراق...
إنّ كلّ هذه النجاحات التي حقّقتها هذه الجزيرة في زمن وجيز لم يتعدّ العقد ونصف، لم تكن من فراغ أو نتاج صدفة أو ضربة حظّ، وإنّما كانت ترجمة لرؤية إستراتيجية إعلامية قد نتفق معها أو نختلف تأسّست على جملة من المنطلقات العلميّة البعيدة عن الارتجال والعشوائيّة والتي رامت الوصول إلى غايات قد نتّفق أو نختلف معها مثّلت علّة وجودها وهدف القائمين عليها ولنا أن نوجز هذه الرؤية في النقاط التالية:
1 ضخامة التمويل المالي:
يعتبر التمويل من أهمّ مرتكزات الإعلام الحديث، فقد انتهى زمن الهواية في كلّ المجالات وأصبح الاحتراف شرطا للديمومة والتواصل والنجاعة... ولعلّ الشقيقة قطر وبسبب السيولة الماليّة والفوائض البتروليّة التي حقّقتها الفورة النفطيّة واكتشاف العديد من حقول الغاز لم تجد مشقّة في وضع ما يقرب عن) المليون دولار) تحت تصرّف الإدارة المشرفة على القناة..بالإضافة إلى توفير أحدث التقنيات الإعلاميّة والوسائل التكنولوجيّة متناهية الدقّة صوتا وصورة...
2 خبرة الكادر ومهنيّته العالية:
تعتبر قناة الجزيرة الوريث الأوّل لقناة ال «ب.ب.س» التي ضمت أهمّ الكوادر الإعلاميّة العربيّة الذين نجحت إدارة القناة الوليدة مستغلّة الأزمة التي وقعت فيها ال «ب.ب.س» إقناعهم أو إغراءهم بالالتحاق الجماعي بها، ووضعت على ذمّتهم كلّ الإمكانات الماليّة والتقنيّة وسمحت لهم بهوامش من الحريّة في نقل الخبر وانتاج البرامج الثقافيّة والسياسيّة... بالإضافة إلى تميّز هذا الكادر بتنوّع خلفياته الإيديولوجيّة وانتماءاته القطريّة المغاربيّة والمشرقيّة والخليجيّة، وقد ساهم هذا التنوّع في إثراء هذه القناة ونجح في خلق حالة من الانتشار العربي حيث عدّها البعض قناة عربيّة البنية، ثوريّة المضامين...
II المضامين:
يعتبر المضمون والرسالة الإعلاميّة أهمّ ما يميّز قناة تلفزيّة عن أخرى، لذلك لم يكن اختيار قناة الجزيرة لمضامينها خارج انتظارات المتلقّي العربي المهووس بالشأن السياسي بحكم مأساته القوميّة، وتعقّد حياته الاجتماعية الناتجة عن عدد من التراكمات التاريخيّة لا داعي لذكرها... وسنكتفي بالتركيز على أهمّ المضامين التي اعتمدتها الجزيرة:
1 التأكيد على القضايا القوميّة والهويّة:
إنّ الجزيرة بلا شكّ تمكّنت من حلّ إحداثيّات الشارع العربي وكشف شفرته النفسيّة وتفكيك بنيته العقليّة الواقعة تحت ضغط الهمّ القومي ممثّلا في الجرح الفلسطيني وفي الهمّ الاجتماعي مجسمّا في الاستبداد والاستغلال والفقر والتخلّف، فكان أن عزفت على هذا الوتر من خلال نقلها للمشهد الفلسطيني اليومي في ضلّ الاحتلال الصهيوني البغيض ووضعها المواطن العربي في عمق هذا الحدث وردمها لهوّة الصمت السحيقة التي كانت تحجب الوضع في الأراضي المحتلة... لقد تدعّم الصوت الفلسطيني الذي كان يصلنا من إذاعة «لندرة» و»صوت العرب» وكذلك الصورة الأيقونيّة المحفورة في الذاكرة الجمعيّة للفدائي الفلسطيني القابض على بندقيّته، تلك الصورة التي كنّا ننتزعها من الجرائد والمجلاّت لنعلّقها على جدران بيوتنا وعلى صفحات كرّاساتنا المدرسيّة ونحفضها في سويداء القلب لنتذكّر القضيّة ونحفظ العهد ، لقد مزجت الجزيرة بين الصورة والصوت في مشهديّة ترجمت ذاك المتخيّل الفلسطيني واقعا مجسّدا صرنا معه نعرف التفاصيل و نعايش الحدث ونشارك في صنعه من خلال إبداء الرأي والتأثير في القرار. ولم يشذّ تعاطي الجزيرة مع القضايا القوميّة الأخرى، العراق ولبنان والصومال والسودان عن ذلك على الأقلّ على المستوى النوعي والتوجهات العامة (نتحدّث عن المسح الميداني والتغطية الإعلاميّة بقطع النظر عن الخلفيّة التي تحكم الفعل الإعلامي)، رغم الاختلافات الكميّة المتمثّلة في المسافة الزمنيّة التي تخصّصها لكلّ قضيّة والتي تخضع لاعتبارات مهنيّة أو تجاريةّ ولا ضرر في ذلك، أو سياسيّة وهنا تكمن المشكلة على الأقلّ من وجهة نظر إعلاميّة تروم الحياد...
2 النبش في المسكوت عنه قطريّا:
لو اكتفت الجزيرة بالشأن القومي عموما، على أهميته لاستوت مع بقيّة القنوات العربيّة المنافسة لها، التي تناسلت على يمينها وعلى يسارها ولكنّها الى جانب هذا المجهود اعتمدت على توجّه واضح منذ البداية تمثّل في ولوج الحدائق الخلفيّة للدول العربيّة وتسليط الأضواء على جملة من القضايا التي بقيت لسنوات عديدة بحكم المسكوت عنها في الإعلام المرئي الرسمي والخاص، وشكّلت جزء من الترضيات بين الفاعلين الإعلاميّين وأدرجت في باب القيم الدبلوماسية العربيّة) عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة).
إنّ برنامج «الاتجاه المعاكس» للإعلامي السوري فيصل القاسم يعدّ مثالا واضحا لهذا الاختراق الإعلامي على الأقلّ من وجهة النظر الشعبيّة الذي ميّز قناة الجزيرة وجعلها تخوض في المحرّمات السياسيّة التي قامت على تبخيس صورة الآخر المعارض ورميه بالخيانة الوطنيّة والتآمر على الأمن العام، ورغم ما آل إليه هذا البرنامج من مصير حوّله إلى حلبة لصراع الديكة ممّا أفقده وهجه الإعلامي وقدرته على استقطاب المشاهد العربي الذي تجاوز «وعي الإثارة» السياسيّة وأصبح يبحث عن «وعي التجاوز» القائم على تقديم بدائل عقلانيّة لا الاكتفاء بلذّة السجال الأجوف والجدال البيزنطي الهدّام الذي يلغي الآخر فكريّا ويخلق مناخا من الاحتقان الإيديولوجي وحالة من الطائفيّة الفكريّة، فإنّه قد نجح في كسر الصورة النمطيّة للأنظمة السياسيّة العربيّة الممتلكة للسلطة المطلقة على قول الحقيقة وتكييفها لمصالحها الخاصة...
غير أنّ توصيف هذه الظاهرة الإعلاميّة واستكناه أسباب وممكنات نجاحها عربيّا ودوليّا يجب أن لا يخفي عنّا مكامن ضعفها والقوى الخفيّة الفاعلة فيها، المحددة لتوجّهاتها والراغبة في استثمار السلطة الرمزيّة التي أصبحت تشكّلها وتفرضها على المشاهدين...
إنّ السجال الإعلامي الذي بدأت تثيره هذه القناة لم يعد خافتا متوقّفا على المهتمّين بالشأن السياسي ممثّلين في الأنظمة العربيّة وحرّاسها من المثقّفين من جهة والمعارضات السياسيّة والمدافعين عنها من جهة ثانية كما كان عليه الأمر طيلة العقد الأوّل لانطلاق هذه القناة، فالملاحظ أنّه خلال هذه السنوات الأخيرة، علا صوت هذا السجال وصار خلافا طال قطاعات من المثقّفين المتحرّرين من أيّ التزام سياسي بالمعنى الخاص لكلمة سياسي (إلتزام حزبي) ولعلّ سبب ذلك يعود إلى أنّ قناة الجزيرة لم تعد مجرّد وسيلة إعلاميّة تقوم على الاحتراف والحرفيّة الإعلاميّة والمردوديّة التجاريّة الربحيّة، وإنّما تحوّلت إلى أحد أهمّ مراكز صنع القرار السياسي وتنميط واستقطاب وتوجيه الرأي العام العربي والإقليمي والعالمي، ليس على مستوى الشارع فقط وإنّما على مستوى الدوائر الحكوميّة العربيّة الخاصة وفي أضيق الحلقات الحزبيّة والتنظيميّة للقوى الفاعلة سياسيّا في الوطن العربي...
إنّ حالة التضخّم الوظيفي الذي وصلته قناة الجزيرة من خلال تحوّلها إلى قوّة إعلاميّة احتكارية بامتياز،أغرت القائمين عليها بالإسراع في جني ثمارها من خلال تحويلها من قناة إخباريّة تنقل الخبر بحياد إلى قناة سياسيّة تصنع الزعامات وتنشر الأفكار، وتنتصب محكمة لمحاكمة الحركات والأحزاب والدول، لم يسلم منها حتّى التاريخ المفروض أن تخضع دراسته لشروط أكاديميّة علميّة صارمة وفي غاية الدقّة، لكن رغم ذلك فقد أقام بعض معدّي برامجها بركوب هذا المركب الصعب مثل المصري أحمد منصور الذي أقام المشانق لمحاكمة أرواح زعماء الأمّة من عبد الناصر عدوّ إخوانه المسلمين، إلى الشهيد صدّام حسين الذي لم تمنعه قيم «ذكر الأموات بخير» من إخراجه من قبره ليجلد آخر قطرة دم تركها جلاوزة اللطّامين الصفويّين في عروقه... لقد كانت الشماتة في عينيه الغمّازتين خبثا بادية تبعث على التقزّز والغثيان، ببسطة لأنّه غادر حياده الإعلامي واستسلم لغرائز الحقد الإخواني التي تملأ صدره على كلّ نفس قوميّ أو تقدّمي أو تنويريّ حاول انتزاع الأمّة من ثقافة الخرافة والدجل...
إنّ هذا الانحراف الخطير لقناة الجزيرة التي صارت منبرا سياسيّا يروّج للون الواحد وللرأي الواحد والفكر الواحد، جعل بعض المتابعين يتساءلون عن علاقة سياسة القناة بدولة قطر: هل نحن أمام قناة في جزيرة؟ أو جزيرة في قناة؟
ومن هذا المدخل نلج باب الحديث عن قناة الجزيرة في رحلتها الثانية من الإعلام الحرّ إلى الفكر الأوحد والرأي بلا رأي آخر...
(في الجزء الثاني نتناول بالبحث
قناة الجزيرة بين الاعلام والسياسة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.