سعيد: لسنا دعاة انقلاب ومن المخجل الحديث عن انقلابات سعيد: لا أحد فوق القانون وعلى النيابة العمومية التحرك من تلقاء نفسها انتظر الجميع منذ أيام توضيح من رئاسة الجمهورية عما وصف ب" التسريب" أو الوثيقة المرسلة إلى ديوان الرئاسة دون معرفة مصدرها، والتي أسالت حبر كثيرا ومثله من اللغط السياسي واتُّهِم الرئيس من البعض بأنه بصدد التحضير لانقلاب، انقلاب وصفه بعض خصومه ب"الانقلاب الدستوري" وهو أمر غير مفهوم حسب العلوم السياسية مالم ينقّح الدستور بشكل غير دستوري. وبعد أن متّعنا مئات المحللين بخيالهم الواسع المسلي عن محاولة الانقلاب وأتحفنا بعض خصوم الرئيس من السياسيين وخاصة من حركة النهضة بآرائهم المبهرة عن ما يسمى تفعيل الفصل 80 من الدستور وعن نية الرئيس وطالب بعضهم بفتح تحقيق في الرسالة المسربة بل وطالب بيان المكتب التنفيذي لحزب حركة النهضة بذلك جاء رد الرئيس اليوم واضحا وصريحا ولعله أوضح خطاب للرئيس من توليه مقاليد الرئاسة. وقد قال سعيد إنه لمن المخجل الحديث عن انقلاب وعن تفعيل الفصل 80 من الدستور وهو مفعّل فعلا فالبلاد في حالة طوارئ. وهنا تأتي الإجراءات الاستثنائية قد يكون الخلاف فقط في التأويلات وهذا أمر عادي. وفي لقاء هو الأول منذ ستة أشهر كاملة هي فترة جمود وابتعاد وشد وجذب بين رئيس الدولة من جهة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان من جهة أخرى يضع الرئيس النقاط على الحروف ويؤكد ما يعتبره هو موقفا مبدئيا لا يحيد ولن يحيد عنه ألا وهو التمسك بأحكام الدستور وعلوية القانون. كما يوضح أن الدولة واحدة ومؤسساتها يجب أن تتكامل وتتوحد لتلعب دورها المنوط بها على أكمل وجه. ما يثير الانتباه في تصريح الرئيس أمس أثناء لقائه رئيس الحكومة والذي يحمل أيضا صفة وزير الداخلية بالإنابة وحضور وزير الدفاع هي تعابير السخرية التي وظفها سعيّد في كل موضوع أراد توضيحه، وهذه التعابير الساخرة لها معاني عدة في الخطاب السياسي ومن بين المعاني ما تذهب إليه المختصة في تحليل الخطاب الدكتورة الفرنسية دانيال فورجي Danielle Forget من أن استخدام عبارات السخرية في مثل هذه الحالات هو استراتيجية خطابية تدفع بالمعنى نحو رهانات ذات طبيعة إيديولوجية وسياسية، ومن هنا نعرف طبيعة ما يريده قيس سعيد من إقحام هذه الرسائل الهزلية ولربما أفلح الرئيس في هذا السلوب -حسب خطاب اليوم- أكثر من إفلاحه في إقحام قصص ونوادر قديمة قد يحتملها السياق أو تكون عادة محل تندر عند التونسيين وشعوب أخرى. من أبرز ما قاله قيس سعيد ساخرا: "قريب نعملو وزارة للتسريبات"، الشعب التونسي الكل ولاو محللين الجزائر مليون ونص شهيد وأحنا مليون ونص خبير .. تونس دولة مؤسسات وليست دولة تشكيب .." طبعا تستهوي هذه الاسقاطات الهزلية الساخرة البعض وكان يستعملها الكثير من الرؤساء والمسؤولين، لكن في هذه الحالة قد تكون هذه السخرية هي الخطاب في حد ذاته بل قد تخترقه وتنزع منه الفكرة المرجوة. وقد سبق لإحدى المختصات في النقد الأدبي ونظرية الأدب وهي الكندية ليندا هوتشيون Linda Hutcheon أن قارنت النظرة النصية للسخرية، بالهجاء والمحاكاة الساخرة، وهو ما لا يبعدنا كثيرا عن تعلق قيس سعيد بهذه الأنواع من الاستعمالات اللغوية، وقد اختار السخرية هذه المرة ونعتبره أحسن فيها أكثر من عربيته المنقوصة التي تثير السخرية أحيانا. أما عن المضمون فما يثير في كلام الرئيس هو إصراره على أن الدولة قائمة وواحدة والرئيس واحد ومن حقه ممارسة مهامه وعدم التدخل في مهام الآخرين إلا بما يضمنه القانون وهي إشارة لرئيس الحكومة بأن يتفهم رأي الرئيس وتأويلاته واختصاصاته وقد يمكننا اعتبارها الإشارة الأخيرة التي قد تتلوها قطيعة نهائية إذا ما لم يلقفها المشيشي ويدرسها جيدا، كما هناك إشارة أخرى للأحزاب بأن الرئيس يتكلم في العلن وأنه ليس ممن يعملون في الخفاء وفي الغرف المظلمة التي تحدث عنها كثيرا. سعيد الذي أصبح الصراع بينه وبين حركة النهضة بينا وعلنيا أرسل من خلال بعض كلماته رسائل أخرى للحركة مفادها أنه ليس له عداوات شخصية مع أحد بل يسعى أن لا يتجاوز القانون أحدا وأن "لعبة التشكيب" لا تناسب الدولة وهو أحد رموزها، ساخرا مرة أخرى من الأحزاب والسياسيين الذين يحبون "الشكبة" و"التشكيب" على بعضهم على حساب مصلحة الوطن العليا. أما حسب رأيينا فإن أهم ما صرح به الرئيس فهو ما تعلق بالنائب راشد الخياري الهارب من بطاقة جلب أصدرها في حقه القضاء العسكري وعن بقية النواب والسياسيين التورطين في قضايا ولم تصدر في حقهم تتبعات إما بسبب الحصانة المتمسكين بها وإما بسبب عدم تنفيذ بطاقات الجلب وهو ما طالب به صراحة رئيس الجمهورية. وهنا الرسالة الواضحة لمجلس نواب الشعب بأن يتحمل مسؤوليته كاملة ويتعامل مع هذه القضايا وهؤلاء النواب الخارجين عن القانون بسبب تمسكهم بالحصانة والمتهربين من القضاء بسبب الحسابات السياسية والابتزاز الحاصل بين كتل الائتلاف الحاكم. ولم يغفل الرئيس نقد النيابتين العمومية والعسكرية التين لم تقوما بواجبهما على أكمل وجه -حسب وصف الرئيس- فعليهما التحرك من تلقاء نفسيهما ومتابعة من سماهم سعيد متورطين ومتلبسين في الجرم. لاشك بعد كل ما حدث أن الرئيس قد "شكّب" على خصومه وأوضح وجهة نظره وحقق مكسبا سياسيا بتتفيه كل ما أرادوا أن يلحقوه به، ووضع الدستور والقانون حكما بينهم جميعا وظهر مدافعا عن كل مؤسسات الدولة وهيبتها التي تتجسد في دفاعها عن الدولة وتماسكها وإعلاء الدستور واحترام أحكام القضاء.