لا مندوحة من الإقرار بمكانة السيّدة صوفيّة الجليلة . كيف لا و قد شنّفت أسماعنا دهرا بما تيسّر من أعذب الألحان ، وبما قُدّر من فصيح لسان، وبما قُسِم من إشارات البنان. ولطالما نعِمْنا بطلعتها البهيّة، كلّما حلّت بنا ذكرى نازلة السابع المبارك الوطنية ، أو تمّ عرض مسرحية الانتخابات النّوفمبريّة ، بل لعلّنا لا نزالُ نعيش على ترانيم "الأمن و الأمان" أيّام كانت تلتحفُ العلم بقدّها الميّاس ، تشفي جروحنا مثل حكيم آس، نعني زمن"فرحة شباب تونس " و أيّام العناية الموصولة لحضرة الجنرال .... ولا ريب أنّ بعضكم يذكر مثلي تماما كيف تخطّى النشيد حواجز الأجيال ، من الجَدّ حتّى الحفيد ، وكاد يهزج به في المهد الوليد . وكان بفضل عناية الرحمان أن انخرط فيه " الشيبُ" و "الشبيبة" يُقبلون عليه في شغف وسرور ، تملؤهم غبطة و حبورا . ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا إنّ شهرتها قد سدّت الآفاق،و إنّها لوت الأعناق ، فهتفت لها ذات يوم حناجر الإخوة المصريّين ،وصفّقت لها أكفّ المعجبين، لمّا صدحت ببعض أغاني الستّ "ثومة" ،في قاهرة المعزّ العظيمة . وثقت "الستّ" في نفسها بعدما غنّت للسّتّ ، و خالت نفسها أو هكذا توهّمتُ ممثلة الطرب التونسي لدى الجمهور المصريّ . ثمّ هلّت بشائر ديسمبر ذات يوم بوزيديّ عنيد ، و حطّم الغاضبون أسطورة الأمن والأمان ، ونطق الموتى ، وتزلزل العرش، ورحل وليّ النعمة "واليها و سيّدها" فدخلت "الست" الكتاب الأسود في الذاكرة (وإن لم يرد ذكرها فيه)، وبعد أن احتجبت كسائر من احتجب ، وخمد ذكرها و ذهب ، وغاب من شاشة البنفسج تلوّيها ، و حُرمنا تبّا للأيّام تثنّيها ، أطلّت علينا من جديد ، في هذا العهد السعيد ، في كانون الأوّل المجيد . طيف أو بعض من الفينيق ، يبعثُ مغرّدا في الصندوق العتيق (نعني الوطنية الأولى). ...لا تزال "الست" وفيّة لنصاعة الأثواب،ولا تزال تمدّ يديها ساعة الشدو تيمّنا بزرياب ، لم ترهقها الأيام ،ولم تحجّ حيويّتها إلى السعوديّة ، في رفقة الأسرة المنفية، بل لاحت للرائين فقأ الله أعين الحساد "ناضرة" إلى ربّها ناظرة".. جاءتكم منذ أيام في شاعر الفقراء تعزّيكم ،،تكاد تبكي و تُبكيكُم..ألم يرحل شاعر "الغلابة" إلى عل يوم الثالث من ديسمبر؟ هل يحقّ لكم أيها السادة أن تبكوه لوحدكم؟ وأنّى لكم أن تستأثروا به وهو ليس فقيدكم؟ الحقّ أن الوطنيّة ، بتيسير لا نخاله صادرا إلاّ عن بارونة الفضائيّة، قد أبهجتنا حتّى نسينا في "نجم" نكبتَنا، وسرّتْنا صوفيّةُ حتّى ذهلنا عن مصيبتنا،فركنا أعيُننا، وتحسّسنا الأذان، وتلوْنا المعوّذتيْن خشية أن يكون أدركنا الكمهُ أو داهمنا الخبلُ ،ولم يبق غير أن نهنأ إلى اليقين، ونشكر َالله على هذا الفتح المبين . فقد رأينا بأمّ العين "الست" التونسية تترنّم ب"غنوة" مصرية نجميّة (نسبة إلى نجم)...وتذكرت على الفور قوله عزّ من قائل : "والنجم إذا هوى" وأيقنت حكمة ربّ الأرباب حين ثنّى بالقول : "ما ضلّ صاحبكم و ما غوى" .. ما ضلّت صوفيّة ولا غوت ، فقد تخيّرت بحسّها المفنان و إلماعها الفتّان، أغنية الشيخ إمام التي نظم جواهرها الراحل أحمد فؤاد نجم : "شيّد قصورك ع المزارع " وشيدت بها معمار صورتها على الفضائيّة "المتسامحة" لذلك حضرت واثقة الخطو ، صادقة الشدو، تغنّي "الملتزم"في عنفوان، بعد أن انصرمت أيام "الأمن و الأمان" .. و الستّ معذورة ... فقد غنّت في صدق شعور وهي المنسوبة في الاسم إلى "الصادق" ،، وماذا يعيبُها في ذلك إذا علمنا أنّ صاحب الأغنية "شيخ" وهي "صوفية" ..ألم يكن لكلّ صوفيّة شيخ بل شيوخ ؟ وهل أتت "الست" شيئا فريّا حين ترحّمت بطريقتها (غير الصوفية) على نجم لا يهوي ؟ أليس في اسمه الثلاثي في محلّ الوسطِ فؤاد؟ وهل طلبت صوفيّة غير بردِ الفؤاد؟ أليست الطهارة (لا نعني هنا ختان البنات) مشروطة بما تُسِرُّ الأفئدة؟؟ ولكنّ أمرا واحدا أرّقني .. منْ المُخاطَبُ الذي تُراها تَعنيه ؟ ومن الذي تعذله على قصوره؟ وهل تعرف "الست" الزنازين التي تأوّهت لذكرها ساعة الإنشاد؟؟وأنّى لها أن تعرف من سمّاهم الفقيد "كلاب الشوارع " ؟؟ لا أخفيكم أنّني جاهدت نفسي الكذوب التي حدّثتني أن الستّ إنما كانت تخاطبُ المخلوع جزعا عليه و إشفاقا،، وأنّها ودّت لو تهديه من الورد أطواقا..فقد كاد الضحك في يوم حزن يستبدّ بي حين كانت صوفيّة تردّد : "عمّال و فلاحين و طلبة ..دقّت ساعتنا و ابتدينا .." وسوست لي كلّ شياطين الأرض و السماء في تلك اللحظة أن صوفية قد التحقت بالوطنيين الديمقراطيين جزعا على بلعيد ،أو أنها صارت زعيمة النسوة في حزب العمال، وصوّرت لي نفسي المخادعة الست وقد جلست إلى "راضية النصراوي" أو " بسمة الخلفاوي" .. أو لعلّها صارت للكتاب عاشقة خلال أشهر الصمت القسريّ فقضت لياليها مع "ماكسيم غوركي" أو اطلعت على مزاعم "لوكاتش" الذي لم يكفّ عن الهذيان بأنّ كلّ فنّ له مدلول طبقيّ ! ولأمر لا أدري كنهه ، قفزت أمامي صورة الراحل يوسف السباعي الذي عرفت بعض أعماله قبل ثلاثة عقود..و قرّعتُ نفسي لانقطاعي عنه ..فهو الآخر مصريّ ..بيد أنه لم يكن من "الغلابة" ولم ينظم شعرا ولكنه كتب روايات شيقة قبل أن يموت في حادث اغتيال (لأنه كان في الخندق المقابل لنجم) . ولكنّ صوفيّة محتاجة أن تقرأ إحدى رواياته.. رواية موسومة بعنوان: نائب عزرائيل .ولو قُدّر لها أن تفعلَ ، لأدركت أن الأرواح يمكن أن تحضر المراسم الجنائزيّة لأجسادها ، ويمكنها أن تعرف جموع المعزّين،وأن تدرك منهم المرائين والشامتين ،،وهي مزيّة منحها المنان للشعراء و المبدعين ،الذين يُحسِن إليهم عزرائيل فينعمون برفقته، و يسعَدون بصحبته ، وربّما صارت أرواحهم له من الخلان،وباتت له مؤاكلة على الخوان ..ومن يدري ما قد تقترح الأرواح... ساعة ارتشاف الأقداح؟؟ رحم الله أحمد فؤاد نجم،،وطهّره من رجس المتملقين،،،قالها منذ زمن يخاطب الستّ أم كلثوم لمّا حزنت واعتلت لأن كلبها لم يفز بجائزة لا يعرفها العمال و الفلاحون وعموم الشعب الكادح،،قال لها يومها : "اختشي يا ستّ !" . .. بعْدَ العَبرة ، لا بدّ من العِبرة يا..صادقة!