لقد حصل إتفاق في لقاء جمع رئيس الحكومة المؤقت مهدي جمعة يوم الإثنين 10 فيفري الماضي مع عدد من أعضاء الهايكا على الإسراع بإجراء تعيينات على رأس الإعلام العمومي السمعي البصري، وكان من المنتظر أن يحسم الأمر أواخر مارس أو أوائل أفريل الماضي غير أنّ ذلك لم يحصل فاتحا الباب على مصراعيه أمام تعطّل في هذا المسار يتخوف كلّ المتعاطين مع الملف الإعلامي من تداعياته الخطيرة. وقد كان كلّ شيء يوحي منذ البداية بأنّ بلادنا قادمة في ظرف قياسي على تجاوز التعيينات الحزبية والسياسية على رأس المؤسستين خاصّة مع إصدار رئاسة الحكومة لبلاغ حصر فترة الترشيحات بين 17 و 26 فيفري الماضي، وإشترط التمتع بالجنسية التونسية، والإستقلالية والحيادية، والحصول على شهادة الإستاذية على الأقل أو شهادة معادلة، و الخبرة و الكفاءة في مجال التصرف الإداري والمالي أو في مجال الإعلام لا تقلّ عن 15 سنة مع إعتبار الكفاءة في مجال التسيير و التصرف الإداري في القطاع العمومي ميزة إضافية، وضرورة إجادة اللغة العربية و الفرنسية كتابة ومحادثة وإعتبار إجادة اللغة الإنجليزية ميزة إضافية، وعدم الإنخراط أو النشاط أو تحمّل مسؤوليّة في أيّ حزب سياسي، ، بالإضافة إلى عدم المساهمة في تملّك أسهم في رأسمال مؤسسة خاصة للإعلام السمعي البصري أو للإنتاج الإعلامي أو للإشهار. وقد تدعّمت هذه الخطوة بتكوين لجنة مشتركة لفرز الترشيحات و إختيار قائمة أولية منهم، تولت رئاسة الحكومة إختيار أربعة منهم بالتساوي بين الإذاعة و التلفزيون لتستمع إليهم الهايكا يوم 15 أفريل الماضي بحضور ممثلين عن السلطة التنفيذية و المجتمع المدني، ولإبداء الرأي المطابق وفق منطوق المرسوم 116 . و يبدو أن أعضاء الهايكا لم يتحمسوا للمرشحين الأربعة و أبلغوا رئاسة الحكومة في الإبان بعدم توفر كلّ أو بعض شروط الشفافية والحياد والكفاءة فيهم، في إنتظار تقديم بقية القائمة أو بعضها إلّا أنّ ذلك لم يتمّ رغم مضيّ أكثر من ثلاثة أسابيع. ولقد عملت الهايكا طيلة هذه الأسابيع على تذكير رئاسة الحكومة بضرورة مواصلة الإلتزام بالمسار التشاركي للتعيينات و أجبرت يوم 07 ماي الجاري على إصدار بيان أعتبر شديد اللهجة حمّلت فيه "الحكومة مسؤولية التأخير الذي يعطّل سير العملية"، وأعتبرت موقفها غير مبرّر و "من شأنه إفشال مبادرتها في إرساء تقاليد موضوعية وشفافة في التعيين على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية" و نبّهت إلى " تعارضه مع مبادئ وقيم الدولة الديمقراطية". وقد عكس هذا البيان حرص الهايكا على الوصول بضمانات الشفافية والمصداقية والاستقلالية في هذا المسار إلى نهايتها المنطقيّة، مثلما عكس استيعابا عميقا لضغوطات الإستحقاقات الإنتخابيّة التي تتطلب الإسراع بتجهيز المضامين الإعلامية الخصوصيّة وتحديد الميزانيات المرتبطة بها و الإدارة القادرة على إنجاح هذه الأدوار، دون إغفال حالة الاحتقان التي تسري منذ مدة ليست بالقصيرة بين العاملين في مؤسستي الإذاعة و التلفزة و الذي كانت من تداعياته إعلان الإضراب جهويا ومركزيا داخل التلفزة التونسية يومي 27و28 ماي الجاري و التهديد بتحرك مماثل في الإذاعات العموميّة. وقد تزامنت هذه الحركة الدفاعية للهايكا بحركة مساندة واسعة من منظمات المجتمع المدني التونسية و الدولية معها تجسدت في بيانات شتى و طلبات في لقاء الرئاسات الثلاث نجح بعضها في لقاء بن جعفر و المرزوقي الذين عبّرا في أكثر من مرّة عن " حرصهما على حماية استقلالية الهيأة العليا المستلقة للاتصال السمعي والبصري من أجل ضمان تعددية الإعلام السمعي والبصري". ولكن يبدو أنّ إعلانات النوايا هذه لم تجد بعد صدى لدى رئاسة الحكومة التي مازالت تتلكأ في مواصلة مسار التعيينات المتفق على تفاصيله مسبقا ضاربة عرض الحائط بكل الدعوات و الإتفاقات. وإن كان البعض يرجع ذلك إلى تمترس بعض المحافظين الممسكين بملف الإعلام فيها و عدم إستعدادهم لضخ دماء جديدة و مجددة في الإعلام العمومي حفاظا على إختراقات ترجع إلى حكومة حمادي الجبالي، فإنّ البعض الآخر يُرجع هذا التعطّل إلى تداعيات الهجمة المستمرة على الهايكا على خلفيّة كراس شروط تأسيس منشآت تلفزية وإذاعية والتي وصل الأمر فيها حدّ التهديد بالإضراب و الإلتجاء إلى القضاء. وإنّ صحّ الإفتراض الثاني فإنّ حكومة مهدي جمعة تكون قد إختارت الإنحياز أو الإحتماء بأحد طرفي النزاع وهو بارونات وسائل الإعلام السمعي البصري على حساب هيئة مستقلة و شرعيّة و محميّة بمرسوم توافقي، مّما من شأنه أن يجعل جميع الخطوات السابقة لإصلاح قطاع الإعلام محلّ مقايضة مالية وسياسيّة ويعزّز المخاوف من إمكانيات التراجع عن الهوامش الواسعة لحرية الصحافة والتعبير التي أنجبت مجمل التشريعات التقدميّة المنسجمة مع المعايير الدولية في الصدد. ولكن حتّى وإن أقصينا الفرضتين السابقتين وسبقنا إفتقاد إستراتيجية حكومية في التعاطي مع الملفات الإعلاميّة فإنّ حساسيّة الوضع السياسي بلادنا أشهر قبل الإنتخابات تضع الحكومة أمام إتهامات بالتفريط في صورتها كحاضنة لكلّ الإتفاقات المجتمعيّة بما فيها علامات خريطة الطريق التي رسمها الرباعي الراعي للحوار الوطني، وكقادرة على إنجاح المسار الإنتخابي بكل تنويعاته و تقاطعاته و صراعاته. إنّ افتراض أنّ إستراتيجيي الإعلام في رئاسة الحكومة يحوصلون ملف التعيينات هذه في إجراءات شكليّة و قانونيّة يجعل اللحظة التاريخيّة الحاسمة التي تعيشها بلادنا رهينة تكنوقراط كلاسيكي يحصر كلّ مجالات التحرك المجتمعي في نسب الفائدة والنمو والديون و التعاطي مع البنوك الدوليّة و التموقع في الموازنات الدوليّة على حساب التطلعات التي ارتبطت بشعارات الثورة التونسيّة بما فيها تعزيز دور الإعلام وهيئاته المستقلة كحامل لمضامين الانتقال الديمقراطي و حام لسيرورته. غير أنّ هذا الافتراض لا يملك إلّا أن يدفع إلى مزيد اليقظة تجاه محاولات التفريط في منجزات التونسيين عموما بعد الثورة ومنجزاتهم الإعلامية بالخصوص و على رأسها هايكا مستقلة و كاملة الصلاحيات و محيّدة عن كل التجاذبات المالية والسياسيّة، ولنا بالتأكيد شعب قادر على النجاح أمام كل هذه التحديات.